15‏/05‏/2015

العقائد الدينية في شعر المعلقات / الجزء الثالث

العقائد الدينية في شعر المعلقات / الجزء الثالث

إبراهيم أبو عواد 

facebook.com/abuawwad1982

......................

الحلفُ بالله :
     الحلفُ باللهِ تعظيمٌ لله تعالى، وتعظيمٌ لمقام الأُلوهية . فالإنسانُ حين يمرُّ في موقفٍ صعب ، وتُحيط به الأزمات، فإنه يلجأ إلى خالقه تعالى،وتختفي أمامه قوة الكائنات الحية، وقوة الجمادات ، فلا يعود يرى إلا القوة العُليا السَّامية ، قوة الله تعالى ، فيلجأ إليها . والحلفُ بالله يَشتمل على هذه المعاني .
     يقول امرؤ القَيْس :
فقالتْ يَمينَ اللهِ ما لكَ حِيـلةٌ          وَما إنْ أرى عنكَ الغَوايةَ تَنْجلي
     يَخبرنا الشاعرُ عن حبيبته ، فقد حاصرها من كل الجهات ، ولم يترك لها منفذاً للتهرب أو الهرب ، ويَرفض أن يَتركها وشأنها . وعندما أحسَّت الحبيبةُ أن دائرةَ الحِصار قَد أُطبقت عليها ، زالت القوى البشرية المحدودة من قلبها وعقلها ، ورأتْ قوةَ خالق البشر، فاعتمدتْ على الحلف بالله في هذا المأزق الخطير الذي وَقعت فيه. فهي في حالة اضطرار لا اختيار . والإنسانُ _ عادةً _ لا يَلجأ إلى الحلف إلا في المواقف الصعبة. وكأن الحلفَ في هذا الموضع يَحمل نداء استغاثة ضمنياً، أو طلب مساعدة خفياً . والإنسانُ _ عندما تُغلَق في وجهه كل الأبواب وتتساقط أمام عينيه الأسباب والمسبِّبات _ ، فإنه يفرُّ إلى خالق الأسباب، ويُهرَع إلى بابه .
     وها هِيَ تقول: أحلف بالله، ما لي حِيلة لإبعادكَ عني ، ولا سبيل إلى دَفعكَ، وليسَ لكَ حَل . وهنا يبرز ضعفُ الأنثى وعَجْزها أمام شهوة الذَّكر الجامحة ، وإلحاحه الشديد . فالعاشقُ قد أَحكم قَبضته على المرأة التي يُحبُّها، ولا يَسمح لها بالفرار أو الهروب من هذا المأزق . فقد وَصلا إلى نقطة اللاعودة ، وهو يُريد استغلال هذا الموقف حتى آخر لحظة ، فقد لا يتكرر ثانيةً . وإذا سَيطرت الشهوةُ على الأعضاء ، فإن صوتَ العقل يتلاشى ، وتصبح الغريزةُ هي القوةَ الضاربة ، وصاحبةَ اليد الطولى . 
     إنها لم تجد حِيلةً ولا حَلاً لإصرار الشاعر ، ولا ترى في الأفق بارقةَ أمل . فهي مقتنعة أن الضلالة مسيطرة على الشاعر ، ولن يُفلِت منها . وقد أَعْمته هذه الضلالة فلم يَعد يرى غيرَ لذة القرب من الحبيبة، مهما كانت الأخطار المحدِقة مثل : انكشاف أمره أمام الناس، أو التسبب بفضيحة لا أول لها ولا آخر، أو معرفة الأهل بالموضوع ، خصوصاً أهل الحبيبة .
     وينبغي تذكُّر أن المجتمع الجاهلي هو مجتمع قَبَلي مُغلَق لا مجتمع مُنفَتح متحرر . وهذا المجتمعُ المغلَق المحافِظ يَحرص على قيم الشرف ، وصَوْن الأعراض . والجميعُ على استعداد لبذل دمائهم رخيصةً من أجل حماية سُمعة القبيلة ، وحماية أعراض نسائها . وهذه القضيةُ لا مُساوَمة فيها ، ولا مُساوَمة عليها . لذلك ما قامَ به الشاعرُ يُمثِّل مغامرةً خطيرةً. إنه يَلعب بالنار،ومع هذا لم يكترث بهذه النار لأنه في جنَّة الحبيبة.
     وقد قال الرواة : (( هذا أغنج بيت في الشِّعر )) . وكأنهم يَستشعرون انكسارَ الحبيبة أمام حبيبها، ويَعتبرون أن كلامَها لا يَنبع من قلبها، وإنما يَنطلق من وراء قلبها ، وأنها تتمنَّع وهي راغبة . وبعبارة أخرى ، إنها تريد بقاءَ حبيبها معها ، ولكنها لا تَقدر على التصريح بهذا ، لِمَا في الأمر من خطورة أكيدة. وكأنها تقول له بلسان المقال : ابتعدْ عني، أمَّا لسانُ حالها : اقتربْ مني . أي إنَّ قلبَها وعقلَها يَسيران في مسارَيْن متوازيَيْن ولا يَلتقيان .
     وبشكلٍ عام ، سيظل حَلْفُها بالله تعالى مؤشراً واضحاً على صعوبة الموقف ، والمعاناةِ الشديدة التي تكابدها روحياً ( عاطفياً ) ، ومادياً ( جسمانياً ) .
     ونَنتقل من الحلف في المجال العاطفي الذي يتعلق بمشاعر فردية ، إلى الحلف في المجال السياسي العسكري الذي يتعلق بحياة الجماعة ، ومصائر الكثيرين .
     يقول زهير بن أبي سُلمى :
ألا أَبْلِغِ الأحلافَ عني رسـالةً          وَذُبيانَ هل أَقسَمتُم كلَّ مُقسَمِ
     إنها رسالةٌ سياسية إصلاحية تمس حياةَ الفرد والجماعة . فالشاعرُ هنا يَلعب دوراً هاماً في الفكر السياسي القَبَلي ، ويقدِّم نَفْسَه كزعيم عشائري وداعية سلام ، يَجْمع ولا يُفرِّق ، أو وسيط دبلوماسي هَمُّه تقريب وجهات النظر ، وجمع الأطراف على كلمة سَواء . وهذا جانبٌ مهم من جوانب شخصية الشاعر، فهو لا يَكتفي بترتيب الكلام، وصناعة الصور الفنية الجَمالية . إنه يُحوِّل شِعْرَه إلى نظرية في عِلم الاجتماع السياسي ، ويَجعل كلامه وثيقةَ صُلح ومحبة بين القبائل المتناحرة .
     وقد اندلعت حربٌ طاحنة بين قَبيلة عَبْس وقبيلة ذُبيان . وقد نصَّب الشاعرُ نَفْسَه رَجلَ سلام وصُلح ، ووضع شِعْرَه في سياق إنهاء الحرب ، وإشاعة السلام والوئام . وهذا يدل على بُعد نظره ، وكَوْنه مثقَّفاً عُضوياً ، أي منخرطاً في قضايا مجتمعه ، وهموم أفراده وطموحاتهم .
     يقول الشاعر : أَبلغ ذُبيان وحُلفاءها ، وقُل لهم قد حَلفتم على إبرام الصُّلح كل حلف ، فاحذروا من الحنث باليمين.
     فالشاعرُ يَدعوهم إلى حفظ اليمين. فهذه قضيةٌ لا تحتمل التلاعب، ولا تَقبل التحايل. فالحنثُ باليمين يُعتبَر وصمة عار، ويُشير إلى سوءِ الأخلاق، وخُبث السريرة، وفساد الطباع ، ويدل على انهيار الشخصية الإنسانية، وتلاشي القِيَم.
     وبالإضافة إلى هذا، فاليمين متعلِّق بإبرام الصُّلح ، وإنهاء حالة الحرب بين عَبْس وذُبيان. ويترتبُ على الحنث به عودة الحرب ، وإزهاق الأرواح، وإتلاف الممتلكات . فلا بد من تذكيرهم باليمين ، وضرورة الالتزام به . فالالتزام به طريقُ الخير والسلام والمصالحة القَبَلية ، أمَّا الحنثُ به فهو طريق الشر والحرب والدمار الحتمي .
     ويقول النابغة الذبياني :
حَلفتُ فلم أترك لنفسكَ رِيبةً          وليس وراءَ الله للمرء مَطْلبُ
     إن الشاعرَ يؤكد أنه قد حَلَفَ ، ولولا أن الأمر جليل لما أَقدم على هذا الأمر . وقد أَقدم على الحلف لأنه يريد ألا يترك في نَفْس المخاطَب شَكاً ولا رِيبة . وليس بعد اليمين بالله مجال لطلب غير ذلك من الحجج ، فلا بد من تصديقه وعدم تكذيبه، وهذا ما يَطمح إليه الشاعرُ، وقد جاءَ باليمين من الأجل الوصول إلى هذه الغاية ( تصديقه وتَنْزيه كلامه عن الكذب ) . فاليمينُ بالله هو أعظمُ حُجَّة، وأكبر دليل. وإذا لم يُصدِّق المخاطَبُ هذا اليمينَ ، فلن يُصدِّق شيئاً ، وستنهشه الوساوسُ والشكوك .
تعظيمُ الكعبة :
     تعظيمُ الكعبة عقيدةٌ أساسية في الجاهلية . فالكعبةُ هي بيتُ الله الذي طاف حَوْله الأنبياء والناس من بعدهم، وهي مركزُ الوجود الدِّيني في الجزيرة العربية ، ومحط أنظار العرب من شتى القبائل ، ومَوْضع حَجِّهم، وبيت أبيهم إبراهيم _ عليه الصلاة والسلام _ ، ومأوى أفئدتهم ، وحاضنة أصنامهم. وقد كان عربُ الجاهلية لا يَبنون بنياناً مُربَّعاً تعظيماً للكعبة ، وحِفظاً لمكانتها وتميُّزها . لذلك ، فليس غريباً أن يُحلَف بها ، وأن تُذكَر في المعلَّقات . ولَوْلا مكانتها السامية لما تم تعليق أشعارهم عليها .
     يقول الشاعرُ زهير بن أبي سُلمى :
فأقسمتُ بالبَيْتِ الذي طافَ حَوْلَه            رِجالٌ بَنَوْهُ من قُرَيْشٍ وَجُرْهُـمِ
     لقد بدأ كلامَه بالقَسَم بالكعبة المشرَّفة، ولَوْلا عَظَمتها لَمَا أقسمَ بها . ولا يكتفي بالقَسَم بها ، بل يُركِّز _ أيضاً _ على قضية الطواف بها . وهو يشير إلى مَن طافَ حَوْلها ، وهُم رِجالٌ قاموا ببنائها ، ويَنتمون إلى هاتَيْن القبيلتَيْن . جُرهم : وهي قبيلة قديمة تزوَّج فيهم إسماعيل _ عليه الصلاة والسلام _، فَغَلبوا على الكعبة والْحَرم بعد وفاته ، وضعف أمرُ أولاده ، ثم استولى عليها بعد جُرهم خُزاعة ، إلى أن عادت إلى قُرَيْش ( وهو اسم لولد النضر بن كنانة ) .
     ولم يَكتفِ الشاعرُ بتعظيم الكعبة وإبراز قُدسيتها ومكانتها الجليلة عن طريق القَسَم بها ، بل _ أيضاً _ يُبرِز الحالةَ التاريخية المحيطة بالكعبة . وكأنه يُريد توضيح الأصول التاريخية للكعبة ، والقول إن مقدَّسات العرب لها تاريخٌ ضارب جذوره في الأعماق ، وليست مقدَّسات سطحية جاءت صُدفةً ، أو تم اختراعها دون سند حضاري أو تاريخي .
     ونراه يُنوِّه بقُرَيْش وجُرهم ، ويُظهِر دورهما التاريخي في بناء الكعبة ، والسيطرة عليها ، وبَسط النفوذ على الْحَرم . وهُما قبيلتان عريقتان لهما وزنٌ مهم في حضارة الجزيرة العربية ، وتاريخهما جزءٌ من تاريخ الكعبة. ولا يَخفى أن القبائل تَنظر إلى الكعبة باعتبارها المركز ، وتَنظر إلى القبيلة التي تَغلب على الكعبة على أنها سَيِّدة القبائل بلا منازِع ، والقبيلة الأولى المقدَّمة في كل المحافل . فالأمرُ لا يَقف عن الدلالة الدينية، بل يحتوي_كذلك_على دلالات سياسية واجتماعية واقتصادية شديدة الأهمية، ولا يمكن تهميشها بأية حال من الأحوال .
     ويقول الشاعرُ النابغة الذبياني :
فلا، لَعَمْرُ الذي مسَّحتُ كعبتَــه          وما هُريق على الأنصاب من جسدِ

     يَحلفُ الشاعرُ بربِّ الكعبة التي مَسَّحها ، أي طافَ بها ولَمَسَها . وهنا تَظهر إحدى الشعائر التعبدية ، وهي الطواف حَوْل الكعبة ولَمْسها للتبرك بها . كما تَظهر إحدى الشعائر الوثنية التي كانت تُدنِّس الكعبةَ المشرَّفة، وهي الذبحُ للأصنام ، وتقديم القرابين للآلهة . فالأنصابُ هي حجارةٌ كانت تُنصَب في الجاهلية ، وتُذبَح عليها الذبائح ، فيسيل الدمُ على الأنصاب . وهذه التفاصيل وضَّحها الشاعرُ من أجل إظهار عقيدته الإيمانية ( الإيمان بالأصنام الآلهة والالتزام بكافة الطقوس التعبدية من ذبحٍ ، وتقديم قرابين ، ... إلخ ) . فالشاعرُ ملتزم بدِين آبائه الموْروث بكل تفاصيله ، ولا يَحيد عنه . وهذه القضيةُ _ بالنسبة إليه _ قضية مبدأ لا مساوَمة فيها .  

     وهذا الطقسُ الديني ( الذبح على الأنصاب ) شديد الأهمية في العقيدة الوثنية الجاهلية ، لأنه تجسيدٌ عملي لفكرة الولاء للأصنام الآلهة ، والانتماء إلى دِين الآباء والأجداد . والأصنامُ هي الفلسفة العَقَدية المركزية في دِين العرب قبل البعثة المحمَّدية الإسلامية .