23‏/02‏/2019

البحث عن اللمعان في زمن الانطفاء

البحث عن اللمعان في زمن الانطفاء

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 23/2/2019

..............


1
     الذكريات ليست هُروبًا إلى الماضي ، وإنما هي تنقيبٌ في داخل الإنسان عن الرابطة الروحية بين الزمن والمشاعر . الزمنُ الذي ذهب ولَن يعود ، والمشاعر التي توهَّجت كالشموع في ليل الرحيل ، ثم انطفأت عندما هجمت الريحُ على النوافذ الحديدة الصَّدِئة .
2
     البحثُ عن معنى الحياة، هو استعادة للمشاعر الدافئة في صقيع الذاكرة.وعملية البحث لا بُدَّ أن تكون مُتواصلة ومُركَّزة ، لأن قوة الأشياء كامنة في الاستمرارية والتواصلية . وقليلٌ دائمٌ خَير من كثير مُنقطع . وقطرات الماء تُؤثِّر في الصخر بسبب استمراريتها وتتابعها ، وليس بسبب قوتها الذاتية . وفي أحيان كثيرة ، تكون العناصر المحيطة بالشَّيء أقوى مِن الشَّيء نفْسه ، تمامًا كالأشواك التي تُحيط بالوردة . إن سلاح الوردة هو أشواكها لا عِطْرها . الأشواكُ للحفاظ على الحياة ، والعِطر للحفاظ على الأحاسيس .
3
     الطريقُ أَم الخطوة ؟ . ينبغي ترتيبُ الأولويات ، وإيجادُ مَنظومةٍ تُوازن بين الكُل والجزء ، والأصل والفَرْع ، والْمُطْلق والنِّسبي.إن اختراع تناقضات وهمية بين المعنى الشمولي والمعنى الجزئي،يُؤدِّي إلى إعاقة عملية السَّير.وإذا تصادمت الخطوة معَ الطريق،سَوْفَ يتعذَّر الْمُضِيُّ قُدُمًا.
4
     الفراشةُ التي تَحُوم حول النار، ثُمَّ تقع فيها. هل هي فراشةٌ جاهلة لا تعرف عواقب الأمور؟. هل هي قاتلة أَم ضحية ؟ . لقد خدعها الضوءُ والبريقُ واللمعانُ والتَّوَهُّجُ ، وذهبت إلى الاحترق بِمِلء إرادتها، ودُون ضغط مِن أحد. أنهتْ حياتها كي تُصبح أيقونةً في الوَهْم ، وذاكرةً للسراب .
5
     يُسافر البشرُ إلى شَتَّى بِقاع الأرض . ولكن السؤال الذي يَطرح نفْسه : كَم شَخْصًا يُسافر في ذاته ؟ . كَم شَخْصًا يُهاجر إلى قلبه ؟ . لقد بَحَثْنا عن السعادة في العناصر المحيطة بِنا ، والأشياءِ البعيدة عنَّا ، ولكنَّنا ننسى أن نبحث عن السعادة في ذواتنا . نسعى إلى معرفة الآخرين واكتشاف أسرارهم ومشاعرهم وتفاصيل حياتهم ، ولكنَّنا لا نهتم بمعرفة أنفسنا ، واكتشاف الأشياء الغامضة فِينا. نُفتِّش عن عُيوب الآخرين، كما لو كانت كَنْزًا ثمينًا أو صَيْدًا وفيرًا . ولكنَّنا لا نُدرِك أن لَدَيْنا عُيوبًا كثيرة. ولو انشغلَ كُل إنسان بتصحيح أخطائه لا تبريرها ، وعمل جاهدًا لعلاج عُيوبه لا التَّحايل عليها، فإن المجتمع كاملاً سيُصبح واحةً للأمن والأمان، وساحةً للحوار والاحترام المتبادل . 

16‏/02‏/2019

الفلسفة الروحية هي الحياة الحقيقية


الفلسفة الروحية هي الحياة الحقيقية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

صحيفة رأي اليوم ، لندن ، 16/2/2019

.....................

1
     تستمدُّ الفلسفةُ شرعيتها من التوازن بين رمزية اللغة وذكريات الإنسان . واللغةُ هي الحاضنةُ لتاريخ الروح وجُغرافيا الجسد ، والإنسانُ هو صانع الإنجازات الحضارية. ولا يُمكن للطائر أن يَطير إلا بوجود جناحين ، وكذلك الفلسفة ، لا يُمكن أن تُحلِّق إلا بوجود اللغة والإنسان .
2
     تفجيرُ الطاقة الرمزية في اللغة هو الوسيلة الأكثر نجاعةً لإعادة بناء الفرد وَفْقَ منظور الحرية والتَّحَرُّر . وهذه العمليةُ تستلزم انبعاث الشظايا في الألفاظ والمعاني ، واندلاع حريق في السياق اللغوي . ودورُ الفلسفة في هذا السياق يتجلى في ترتيب الشظايا لتصبح قوةً متجانسة وفعَّالة ، والسيطرة على الحريق ليصبح وُقودًا يُحرِّك عجلة التنمية الفكرية الحقيقية لا الشعاراتية .
3
     قوةُ الأطفال في الحياة تكمن في عدم فهمهم لمعنى الموت. إنهم يَضحكون ويَلعبون ويَمرحون ، لأن الحياة بالنسبة إليهم هي مركز مشاعرهم ومنبع أحاسيسهم ، معَ غياب تام للموت عن تفكيرهم. وعندما يَكْبرون ، يُدرِكون معنى الموت ، ويَعرِفون أنه كان قريبًا مِنهم في كُل مراحل حياتهم ، وأن الموت لا يُصيب الآخرين فقط . إن الجميع خاضعون لقانون الموت، وهو أقرب مِمَّا يتصوَّر الإنسان ، وهذا يؤدي بالضرورة إلى تغيير طريقة التفكير ، وتغيير زاوية الرؤية للأشياء .
4
     البحثُ عن معنى الحياة في حُطام الروح ، قد يبدو أمرًا مُتْعِبًا وشَاقًّا ، ولكنَّ العَيش اللذيذ كامن في التعب والمشقة ، والمتعةُ تتجلى في الصعوبة والتَّحدي . ونحنُ لا نعرف قيمة الأشياء التي تأتي بِيُسْر وسُهولة ، وإنما نعرف قيمة الأشياء التي جاءت بعد مُعاناة وألم . وكُل شيء يأتي بسهولة يَذهب بسهولة ، وما تأتي به الرياحُ تأخذه الزوابع ، وكلام الليل يَمحوه النهار . إن العذاب هو طريق القلوب العظيمة ، وتحويل هذا العذاب إلى مُتعة ولذة ، والانتصار على العذاب والألم ، يُمثِّلان الامتحان الحقيقي لفلسفة وجود الإنسان في هذا العالَم . والإنسانُ قد ينسى الشخصَ الذي أضحكه ، ولكنه لا يَنسى الشخصَ الذي أبكاه ، لأن الألم مُتجذِّر في طبيعة النفس البشرية، وبصمةُ البُكاء أشد تأثيرًا من بصمة الضحك .
5
     الطريقُ إلى السرابِ سَرابٌ. والأطفالُ الذين بَنَوا القُصورَ الرملية هدموها . والأراملُ الشابات لَم يَعرفنَ أهميةَ رمال الشُّطآن إلا بعد دفن البحَّارة الغرقى فيها . ضاعَ الرُّبَّان في ضباب المنارة الذي يُحاصر ليلَ الأحزان ، ومصيرُ السفينة هو الارتطام بصخور القلب المذبوح . ولا تزالُ السلاحف تُخبِّئ بُيوضها في رمال البكاء الشاسعة .
6
     يَخترع الإنسانُ الوهمَ ويَعشقه ، لأنه يرى في الوهم خلاصًا رُوحيًّا ، وهُدنةً بين أحلامه وإخفاقاته ، وهُروبًا مِن الماضي والذكريات . وكأن الحياة صارت كابوسًا ، وبدلاً مِن أن يُواجه الإنسانُ مصيره بشجاعة ، ويسأل عن موعد إفاقته من هذا الكابوس ، فإنه يأخذ حَبَّة مُنَوِّم ، كَي يَغرِق في خيالاته ، ويتجنَّب مُواجهة الاستحقاقات المصيرية . وهذه لُعبة قاتلة ، ولا فائدة مِنها ، لأن أفضل طريقة للتَّخلص مِن الخوف هي اقتحامه . وضريبةُ مُواجهة العدو والتَّصَدِّي له أقل بكثير مِن ضريبة الهروب مِنه ، لأن الهروب مِن العدو سَيُعطيه فُرصةً كي يتمدَّد ويزداد وحشيةً وشراسةً ، أمَّا مُواجهته فتعني إيقافه عند حَدِّه ، وتعريفه بحجمه الحقيقي .