25‏/07‏/2025

أصول الشعر الغنائي

 

أصول الشعر الغنائي

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

................

     إنَّ الشِّعْرَ الغِنائيَّ لَيْسَ تَجْميعًا عَبَثِيًّا للقِيَمِ العاطفيَّة، وإنَّما هُوَ تَعْبيرٌ عَن العَواطفِ الخالصة ، وتَجسيدٌ للمَشاعرِ الإنسانية النبيلة . ويَمْتاز بِحَرارته وخَيَالاتِهِ وتأثيرِه في المُتَلَقِّي ، وتَجَاوُزِ الواقعِ ، وكَشفِ أسرارِ الذات الإنسانية ، والمُوازنةِ بَيْنَ أفراحِها وأحزانِها .

     والشِّعْرُ الغِنائيُّ لَيْسَ مَحصورًا في الغَزَلِ وَوَصْفِ مَحاسنِ المَرأة ، بَلْ هُوَ رُمُوزٌ معرفية ، وَرُؤيةٌ وُجودية ، وأفكارٌ اجتماعية ، وهَكذا تَتَّسِعُ اللغةُ الشِّعريةُ لِتَشْمَلَ المَشاعرَ الحاملة للعَلاقات الاجتماعية،وَتَحْتَضِنَ المواضيعَ المُتَغَيِّرَةَ والأحوالَ المُتَقَلِّبَةَ في حَياةِ الإنسانِ ، وتُعيدَ صِيَاغَةَ التفاصيلِ الحَيَّة في التُّرَاثِ ، وَتَدْمُجَ التَّجْرِبَةَ الذاتيةَ معَ التَّجْرِبَةِ الاجتماعية باستخدامِ الصُّوَرِ الفَنِّية المُدْهِشَةِ ، والإيقاعِ الكَلِمَاتيِّ شَدِيدِ الوَقْعِ في النَّفْسِ الإنسانية .

     والصُّورةُ الشِّعريةُ هِيَ حَجَرُ الأساسِ في بِنَاءِ القصيدةِ الغِنائية ، والزَّمَنُ الحقيقيُّ القادر عَلى تَكثيفِ الأفكارِ في لَحظةٍ لُغَويةٍ واحدة شديدة التَّركيز ، والرابطةُ الوُجودية بَيْنَ الإنسانِ والأرضِ ، والعَلاقةُ المَصيرية بَيْنَ خَيَالِ الإنسانِ وَمَشَاهِدِ الطبيعة ، والصِّلَةُ المَنطقيةُ بَيْنَ اللغةِ والرَّسْمِ ، باعتبار أنَّ اللغةَ هِيَ الرَّسْمُ بالكَلِمَاتِ ، والرَّسْمُ هُوَ الكِتَابَةُ بالألوان . كَمَا أنَّ الصُّورةَ الشِّعْرية تُحَقِّقُ التَّوَازُنَ بَيْنَ التَّجْرِبَةِ النَّفْسِيَّةِ والتَّجْرِبَةِ الاجتماعية ، اعتمادًا عَلى البِنَاءِ اللغويِّ المُتَمَاسِك ، واستنادًا إلى مَصادرِ المَعرفةِ التي تَتَكَاثَر باستمرار نَتيجة البَحْثِ عَن المَعْنى . مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادةِ اكتشافِ جَوْهَرِ الشِّعْرِ بِوَصْفِهِ عَملية تَزَاوُج بَيْنَ ذَاتِيَّةِ الشاعرِ وَتَجْرِبَتِهِ الوِجْدَانِيَّة ، وَالغَوْصِ في أعماقِ العَواطفِ بِكُلِّ أبعادِها المَعنوية والمادية .

     وَيَرتبطُ الشِّعْرُ الغِنائيُّ بشكلٍ وثيق بالمُوسيقى ، والإيقاعُ والنَّغَمُ والتَّنَاغُمُ الصَّوْتِيُّ هِيَ عناصر أساسيَّة في بِنَائِهِ المَعْنَوِيِّ وهَيْكَلِهِ الرَّمْزِيِّ ، وَيَتَميَّزُ بِرَهَافَةِ الأُسلوبِ ، وَنَقَاءِ الإحساسِ ، وَشَفَافِيَّةِ الصُّورةِ ، والصَّفَاءِ العاطفيِّ. وكُلُّ هَذه المُكَوِّنَاتِ مُجْتَمِعَةً تُمثِّل رُوحَ التَّعبيرِ الفَنِّي ، وتُجسِّد قُدرةَ الفِعْلِ الشِّعْرِيِّ عَلى حَمْلِ المَشاعرِ الشَّخْصِيَّة، ونَقْلِ التَّجَارِبِ الحَيَاتِيَّة، وتَكثيفِ المَعَاني المُتَشَظِّيَةِ دَاخِلَ فِكْرَةٍ واحدة، مِنْ أجْلِ تَسْهِيلِ تَركيزِ الانطباعِ لَدَى المُتَلَقِّي ، اعتمادًا على العُمْقِ اللغويِّ ، والتراكيبِ المُوحِيَة ، وَسَلاسَةِ الأفكارِ ، وَالصِّدْقِ الشُّعُورِيِّ، والذَّاتِيَّةِ في التَّعبير، وَهَذا مِنْ شَأنِهِ تَجذيرُ الهُوِيَّةِ الثقافية، وتَرسيخُ سُلطةِ النَّصِّ الأدبيِّ ، وتَثبيتُ القِيَمِ الاجتماعية ، لَيْسَ بِوَصْفِهَا أنظمة استهلاكية مُعَاشَة ، بَلْ بِوَصْفِهَا حالات إبداعية مُتَجَدِّدَة وَمُتَدَفِّقَة .

     وَمِنْ أبرزِ أساتذةِ الشِّعْرِ الغِنائيِّ الإنجليز ، الشاعرُ ألفريد تنيسون ( 1809 _ 1892 ) . وَقَدْ تَمَيَّزَ شِعْرُهُ بالرُّومانسيَّةِ الحالمةِ والحزينة ، والتَّسَاؤُلِ عَنْ مَعْنَى الحَياةِ والمَوْتِ ، وَهِيَ أسئلة عادَ إلَيْهَا الشاعرُ كثيرًا في مَراحل مُختلفة مِنْ حَياته . كما أظهرتْ بَعْضُ أعماله اهتمامًا واضحًا بالشرق العربي وشِعْرِه ، وذلك نتيجة حركة الاستشراق التي عَمَّتْ أوروبا في القرن التاسع عَشَر ، فجاءتْ مُقَدِّمَة قصيدة " لوكسلي هول " ، لِتُظْهِرَ تَأثُّرَهُ بِمُعَلَّقَةِ امرئِ القَيْسِ ، ولا سِيَّما مَطْلَع القصيدة على أطلال بناء لوكسلي .

     وَتَمَيَّزَتْ قَصائدُ الشاعرِ الفرنسي آرثر رامبو ( 1854_ 1891 ) بِالغِنَائِيَّةِ وَالبَرَاءَةِ وَنَضَارَةِ الشَّبَابِ مِنْ جِهْة ، والتَّمَرُّد والسُّخْرية مِنْ جِهَة أُخْرَى .

     والشاعرُ السويدي إريك أكسل كارلفلت ( 1864 _ 1931 ) يُعْتَبَر بالدَّرَجَةِ الأُولَى شاعرًا غِنَائِيًّا ، وَيَتَمَيَّز شِعْرُه بالأبعاد الرمزية والفَضَاءاتِ الغِنائية ، وَقَدْ حَوَّلَ الأغاني الشَّعْبية إلى قصائد رمزية حيَّة عابقة بالتَّحَوُّلاتِ اللغويةِ ، والطُّقوسِ المَعرفيةِ ، والإشاراتِ الغامضة .

     والأديبُ الرُّوسيُّ بوريس باسترناك ( 1890 _ 1960 ) تُعْتَبَر الغِنَائِيَّة سِمَةً بارزةً في كِتاباته ، وهي غِنائية قائمة على الأصوات والألفاظ المُتناغمة المُثْقَلَة بالأحاسيسِ والصُّوَرِ والإيقاعاتِ المُتَنَوِّعَة . كَمَا تَتَمَيَّز قِصَائِدُهُ بالدِّقَّة ، وَتَدَاعي الأفكار ، والتَّراكيب المُعَقَّدة . وَيَتَّصِف مُعْجَمُهُ اللغويُّ بالضَّخَامَةِ والغِنى . وَصُوَرُهُ الفَنِّية تَمتاز بالتكثيف ، والأداءِ الجَمَاليِّ ، وَقُوَّةِ التعبير .

     وَيُعَدُّ الشاعرُ شيلي (1792_ 1822) مِنْ أفضل الشُّعَراء الغِنائيين باللغة الإنجليزية . وكانت حياته غير العادية وتفاؤله العنيد وصَوْتُه القوي المُعترِض عواملَ ساهمتْ في جَعْلِهِ شَخْصِيَّة مُؤثِّرة، وَعَرَّضَتْهُ للتَّشْويه خِلال حَيَاتِه وَبَعْدَ مَمَاتِه. وَقَدْ أصبحَ أيقونةً لِلْجِيلَيْن الشِّعْرِيَّيْنِ اللذَيْن تَلَيَاه.

     والأديبُ الإسباني لوبي دي فيغا ( 1562 _ 1635 ) يُعَدُّ واحدًا مِنْ أفضل الشُّعَراء الغِنَائِيِّين في الشِّعْرِ الإسبانيِّ ، وَتَتَبَدَّى حَسَاسِيَّتُهُ الغِنائية في القصائد التي كَتَبَ كَلِمَاتِها لِتُغنَّى .

     والشاعرُ الفرنسي سان جون بيرس (1887_ 1975) يَمتاز شِعْرُهُ بِغِنائيَّة ذات طبيعة مَلْحَمِيَّة لا نظير لها بَيْنَ مُعَاصريه ، كما أنَّه يُعْتبَر أكبر مُجدِّد في الشِّعْر الفرنسي . فعلى المُستوى التِّقني، نَجِدُه يَتَخَلَّى عن البَيْتِ الشِّعْري ، لِيُؤَسِّس المَقْطَعَ الشِّعْري المُتكامل الذي يُشْبِه الفِقْرَةَ ، كما أنَّه تَخَلَّى عَنْ بُحُور الشِّعْر الفرنسي التقليدية ، وراحَ يَكْتُب الشِّعْرَ على شكل إيقاعات مُتتالية ذات مُوسيقى خاصَّة بها . في عام 1924 ، نَشَرَ قصيدته  الأشهر " آناباز " التي كرَّسته شاعرًا عالميًّا . و " آناباز " ليس اسْمًا لفتاة ، بَلْ هُوَ تَعْبير إغريقي قديم يعني " رحلة إلى داخل الذات " .

18‏/07‏/2025

رفض الجوائز الأدبية

 

رفض الجوائز الأدبية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

...................

     رَفْضُ الجَوائزِ الأدبية مِنْ قِبَلِ بَعْضِ الكُتَّابِ لَيْسَ حالةً مِزاجيَّةً أوْ حَرَكَةً عَفْوِيَّة ، بَلْ هُوَ سِيَاسة مَنهجية قائمة عَلى مَوْقَفٍ وُجوديٍّ مُسْبَقٍ ، وَفَلسفةٍ مَعرفية ، وقَنَاعَةٍ ذاتيَّة . وفي بَعْضِ الأحيان ، قَدْ يُجْبَرُ الكاتبُ عَلى رَفْضِ الجائزة مِنْ قِبَلِ السُّلطة الحاكمة لاعتبارات سِيَاسية بعيدة كُلَّ البُعْدِ عَن الأدبِ والثقافة .

     مِنْ أبرزِ الكُتَّابِ المعروفين برفضِ الجوائز ، الكاتبُ المَسرحي الأيرلندي جورج بِرْنارد شو ( 1856 _ 1950 ) . يُعْتَبَر أحَدَ أشهر الكُتَّاب المَسْرحيين في العَالَم ، وهو الكاتب الوحيد في التاريخ الذي حازَ على جائزة نوبل للآداب ( 1925 ) ، وجائزة الأوسكار لأحسن سيناريو ( فيلم بيجماليون في عام 1938 ) .

     فَجَّرَ بِرْنارد شو مُفاجأةً مِنَ العِيَار الثقيل ، حَيْثُ رَفَضَ جائزةَ نوبل حِينَ أُعْلِنَ فَوْزه به ، مُقَلِّلًا مِنْ قِيمتها ، وَمُتَهَكِّمًا مِنْ صَانِعِهَا : (( قَدْ أغْفِرُ لنوبل اختراعَه للدِّيناميت ، لَكِنَّني لا أغْفِرُ لَهُ اختراعَ جائزة نوبل )) .

     ولكنَّه قَبِلَهَا عام 1926 بعد ضُغوطات كثيرة ، وقال : (( إنَّ وطني أيرلندا سَيَقْبَل هذه الجائزة بسرور , ولكنَّني لا أستطيعُ قَبول قِيمتها المادية . إنَّ هَذا طَوْقُ نَجَاةٍ يُلْقَى بِه إلى رَجُلٍ وَصَلَ فِعْلًا إلى بَرِّ الأمان , ولَمْ يَعُدْ عليه مِن خطر )) .

     وَقَدْ تَبَرَّعَ بقيمة الجائزة لإنشاء مؤسسة تُشَجِّع نَشْرَ أعمال كِبار مُؤلِّفي بِلاد الشَّمَالِ باللغة الإنجليزية .

     وَالفَيلسوف والأديب الفرنسي جان بول سارتر( 1905_1980) رَفَضَ جائزة نوبل للآداب ( 1964 ) ، فَهُوَ يَعْتبر أنَّه لا يَسْتحق أيُّ شخص أن يُكَرَّم وَهُوَ عَلى قَيْدِ الحَيَاة ، كما رَفَضَ أيضًا وِسَامَ جَوْقَةِ الشَّرف في 1945 . كانتْ هَذه التَّكريمات بالنِّسْبَةِ إلَيْهِ تَقْييدًا لِحُرِّيته ، لأنَّها تَجْعَل مِنَ الكَاتِبِ مُؤسَّسَةً . وظلَّ هذا المَوْقِفُ شهيرًا ، لأنَّه يُوضِّح مِزَاجَ المُثَقَّف الذي يُريد أنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا عَن السُّلطةِ السِّياسية .

     وفي عام 1976 ، قَبِلَ سارتر تكريمًا وحيدًا في حَيَاته ، وهو الدُّكتوراة الفَخْرية مِنْ جامعة أُورُشَلِيم العِبْرِيَّة ، وَقَدْ تَلَقَّاها مِنْ سِفَارَةِ إسرائيل بباريس . لَقَدْ قَبِلَ هذه الجائزة فقط لأسباب سياسية ، " لِخَلْقِ رابط بَيْنَ الشَّعْبِ الفِلَسْطِينيِّ الذي أتَبَنَّاهُ وإسرائيل صَدِيقتي " .

     وَالرِّوائيُّ الأُستراليُّ باتريك وايت ( 1912_ 1990 )، أحد أعظم أُدباء أُستراليا في القَرْنِ العِشرين ، كانَ رافضًا للجَوائز ، وَبَرَّرَ ذلك قائلًا إنَّ قِيمة الإنسانِ لَدَيْه أعلى مِنَ المَظَاهِرِ أو التَّكريم . رَفَضَ جائزة البوكر . وتَمَّ ترشيحُه لِنَفْسِ الجائزة بَعْدَ وَفَاتِه، لأنَّه لا يَسْتطيع رَفْضَها وَهُوَ مَيت.وَعِنْدَ فَوْزِه بجائزة نوبل للآداب ( 1973 ) خَشِيَت اللجنة أن يَرفض الجائزةَ ، فأبلغتْ صَدِيقَتَهُ الرَّسَّامَة ( سيدني نولان سيدي ) الأُسترالية ، لِتُخبره بفوزه بالجائزة مِنْ أجْلِ قَبولها على شرط أن تذهب صديقته لاستلام الجائزة . وَلَمْ يَتِم عَمَل مُحَاضَرَة كما هُوَ المُعتاد بالأكاديميَّة السويدية لغياب الفائز بالجائزة . وَهُوَ أوَّلُ أُسترالي يَفُوز بجائزة نوبل للآداب .

     جاءَ في تقرير الأكاديمية السويدية عن سبب منحه جائزة نوبل للآداب: (( لطريقته الرائعة والمُؤثِّرة نَفْسِيًّا في فَنِّ السَّرْد ، والتي قامت بتقديم مُحتوى جديد للأدب )) .

     أمَّا الأديبُ الروسيُّ بوريس باسترناك (1890 _ 1960 ) فَقَدْ مُنِحَ جائزة نوبل للآداب ( 1958 ) ، لكنَّ السُّلطة السِّياسية في بلاده أجْبَرَتْهُ عَلى رَفْضِها ، إذْ عَدَّتْ رِوَايَتَهُ " الدكتور جيفاكو " نَصًّا مُضَادًّا للثَّورةِ البُلْشُفِيَّة . ولَمْ يَتِم الاكتفاء بهذا ، فقد فُصِلَ مِن اتِّحَاد الكُتَّاب ، وأُوقِفَ إصدارُ تَرْجماته ، وفُرِضَ حَظْرٌ عَلَيْه ، وتُرِكَ بِلا رَاتب .

     والجَدِيرُ بالذِّكْرِ أنَّ السُّلطة السُّوفييتية كانتْ قَدْ وَضَعَتْ باسترناك تحت المُرَاقَبَة مُنذ مَطْلَعِ الثلاثينيات ، وصَوَّرَتْهُ إنسانًا مَعزولًا عَن العَالَمِ ، وغارقًا في الذاتية والانطوائية والعدمية  ، ثُمَّ أطلقتْ عَلَيْهِ لَقَب " المُرْتَد "  و" عَدُو الشَّعْب " .

     والفَيلسوفُ الرُّوماني إميل سيوران (1911_ 1995) المَعروفُ باليأسِ والتَّشَاؤُمِ والعَدَمِيَّة ، ظَلَّ طِيلةَ حياته يَمتنع عَن الجُمهور ، ويَرفض الجوائزَ ، ويَبتعد عَن وسائل الإعلام مُكْتَفِيًا بالكتابة . وكانَ يَعيش عُزلةً في غُرفةٍ صغيرة في وسط باريس ، حيث حافظَ على مسافة بَينه وبَين العَالَمِ الخارجيِّ ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ نِهائيًّا .

     والرِّوائيُّ الألماني باتريك زوسكيند ( 1949 _ ... ) مَعروفٌ برفضه الجوائز الأدبية ، وَيُفَضِّل العُزلةَ والابتعادَ عَن الأضواء ، ولا يَحْضُر أيَّةَ مُناسبة لتكريمه ، حَتَّى إنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ العَرْضَ الأوَّلَ للفيلم المُقْتَبَس عَنْ رِوايته الشَّهيرة " العِطْر " ، التي تُعَدُّ مِنْ أكثر الرِّوايات مَبيعًا في ألمانيا في القَرْنِ العِشرين ، حَيْثُ تُرجمت إلى 48 لُغة ، وَبِيعَ مِنها 20 مليون نُسخة عَبْرَ العَالَمِ . كما يَرفض إجراءَ المُقابَلات الصَّحفية، والظُّهورَ الإعلاميَّ ، مِمَّا يُعَزِّز صُورته كشخصية انطوائية انعزالية لا تُحِبُّ الشُّهرةَ والأضواءَ الإعلامية والظُّهورَ العَلَنِيَّ .

11‏/07‏/2025

المعاناة الصحية بين بدر شاكر السياب وألكسندر بوب

 

المعاناة الصحية بين بدر شاكر السياب وألكسندر بوب

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

....................

     يُعْتَبَر الشاعرُ العِراقيُّ بَدْر شَاكِر السَّيَّاب ( 1926 _ 1964 ) ، مِنْ أبرزِ الشُّعَراءِ العَرَبِ في القَرْنِ العِشرين ، وأحَدَ مُؤسِّسي الشِّعْر الحُر في الأدب العربيِّ .

     وُلِدَ في قَريةِ جيكور بالبَصْرَة. فَقَدَ وَالِدَتَه في سِنِّ السادسة ، وَتَرَكَ ذلك أثرًا عميقًا في حياته ، فذاقَ مَرارةَ اليُتْمِ طِيلة حَياته ، وفي مَرحلةِ طُفولته عانى مِنْ عُقدةِ المَرَضِ وضَعْفِ الجِسْمِ .

     كانَ السَّيَّابُ ضئيلًا ، نَاحِلَ الجِسْم ، قَصِيرَ القَامَةِ ، ذا مَلابس فَضْفاضة . وَصَفَه الدُّكتور إحسان عَبَّاس بِقَوْلِه : (( غُلام ضَاوٍ نَحِيل كأنَّه قَصَبَة ، رُكِّبَ رَأسُه المُستدير كَحَبَّةِ الحَنْظَل ، عَلى عُنُقٍ دقيقة تَمِيل إلى الطُّول، وعلى جَانِبَي الرَّأس أُذُنَان كبيرتان ، وتحت الجبهة المُستعرضة التي تَنْزِل في تَحَدُّبٍ مُتَدَرِّج أَنْفٌ كبير يَصْرِفُكَ عَنْ تأمُّلِه أوْ تأمُّلِ العَيْنَيْنِ الصَّغِيرَتَيْن العَادِيَّتَيْن عَلى جَانِبَيْه فَمٌ وَاسِع ، تَبْرُز الضَّبَّةُ العُلْيا مِنْه وَمِنْ فَوْقِهَا الشَّفَة بُرُوزًا يَجْعَل انطباقَ الشَّفَتَيْن فَوْقَ صَفَّي الأسنان كَأنَّه عَمَلٌ اقتساري، وَتَنْظُر مَرَّةً أُخْرَى إلى هذا الوجه الحِنْطِيِّ، فَتُدْرِك أنَّ هُناك اضطرابًا في التَّنَاسُبِ بَيْنَ الفَكِّ السُّفْلِيِّ الذي يَقِفُ عِند الذَّقْنِ كأنَّه بَقِيَّة عَلامَة استفهام مَبْتُورة، وَبَيْنَ الوَجْنَتَيْن الناتئتَيْن، وكأنَّهما بِدايتان لِعَلامَتَي استفهام أُخْرَيَيْن قَد انْزَلَقَتَا مِنْ مَوْضِعَيْهِمَا الطَّبِيعِيَّيْن )) [ بدر شاكر السياب ، دراسة في حياته وشِعْرِه ، 1969 ، ص 25 ] .

     نَتيجة الفَقْرِ المُدْقِعِ الذي عَاشَه السيابُ في صِغَرِه ، عانى مِنْ فَقْر دَم ناشئ عَنْ سُوءِ التَّغذية ، كما ساهمَ مَرَضُ السُّلِّ الذي أُصِيبَ بِهِ في شَبَابِه في نُحُولِ جَسَدِه .

     في عام 1961 ، بدأتْ صِحَّةُ السياب بالتَّدهور ، حَيْثُ بدأ يَشعُر بِثِقَلٍ في الحَرَكَةِ ـ وأخذَ الألمُ يَزداد في أسفلِ ظَهْرِه ، ثُمَّ ظَهَرَتْ بعد ذلك حالةُ الضُّمور في جَسَدِه وقَدَمَيْه ، وَتَمَّ تَشْخِيصُهُ بمرضِ التَّصَلُّبِ الجانبيِّ الضُّموري ، وظَلَّ يَنْتَقِل بَين بغداد وبيروت وباريس ولندن للعِلاج بِلا فائدة.

     فَقَدَ السيابُ قُدْرَتَه على الحَرَكَةِ والتَّنَقُّلِ ، وعَانى مِنَ الشَّلَلِ ، مِمَّا جَعَلَه يَشْعُر بالكآبةِ والحُزْنِ العَمِيقِ ، وَسَيْطَرَ عَلَيْهِ هَاجِسُ المَوْتِ ، وَظَهَرَتْ آثارُ مُعَاناته مِنَ المَرَضِ في شِعْرِه .

     يَقُول السياب : (( آهِ لَعَلَّ رُوحًا في الرِّياح / هَامَتْ تَمُرُّ على المَرَافِئِ أوْ مَحَطَّاتِ القِطَار / لِتُسَائِلَ الغُرباءَ عَنِّي / عَنْ غَريبٍ أمْسِ راح / يَمْشِي على قَدَمَيْن / وَهُوَ اليَوْمَ يَزْحَفُ في انكسار / هِيَ رُوحُ أُمِّي هَزَّهَا الحُبُّ العَمِيق/ حُبُّ الأُمُومَةِ فَهِيَ تَبْكي / آهِ يا وَلَدِي البعيدَ عَن الدِّيار / وَيْلاه! كَيْفَ تَعُودُ وَحْدَكَ لا دَلِيلَ ولا رفيق )) [ قصيدة/ الباب تَقْرَعُهُ الرِّياح ، لندن ، 13/3/1963 ].

     انتقلَ السيابُ إلى المُستشفى الأميريِّ في دَولةِ الكويت لِتَلَقِّي العِلاج ، حَيْثُ قامتْ برعايته ، وأنفقتْ عَلَيْه خِلال مُدَّة عِلاجه ، إلا أنَّ المَرَضَ لَمْ يُمْهِلْه ، فَتُوُفِّيَ عام 1964، عَنْ عُمر يُناهز الثامنة والثلاثين . وَنُقِلَ إلى قَريته جيكور ، وَشَيَّعَه عدد قليل مِنْ أهْلِهِ وأبناءِ قَريته ، وَدُفِنَ في مَقبرةِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ بالزُّبَيْر في البَصْرَةِ جَنُوب العِراق .

     وَيُعَدُّ الشاعرُ الإنجليزيُّ ألكسندر بوب ( 1688 _ 1744 ) أحدَ أبرز شُعراء القرن الثامن عَشَر في إنجلترا ، وَهُوَ مَعروفٌ بمهاراته في كِتابةِ القصائدِ الساخرة والأعمالِ الفلسفية ، واشْتُهِرَ بأبياته الشِّعْرية البُطولية، وتَرجمته لأعمال الشاعر الإغريقي هوميروس . وَهُوَ ثالث كاتب يَتِمُّ الاقتباس مِنْهُ في قاموس أكسفورد للاقتباسات، بَعْد شكسبير وألفريد تنيسون .

     عانى بوب مِنَ التَّمييز الدِّينيِّ بسبب انتمائه إلى الكاثوليك ، في وقت كان الكاثوليك لا يَزَالون مُضْطَهَدِين في إنجلترا . وَقَدْ تأثَّرَ بقانون العقوبات المعمول به في ذلك الوقت ، والمأخوذ مِنْ كَنيسةِ إنجلترا ، التي حَظَرَتْ على الكاثوليك التدريسَ ودُخولَ الجامعاتِ والوظائفَ العَامَّة .

     وأيضًا ، عانى بوب مِنْ مُشكلات صِحية عديدة في سِنِّ الثانية عَشْرَة ، مِثْل مَرَض " بوت " ، وَهُوَ نَوع مِنَ السُّلِّ يُصيبُ العِظَامَ ، والذي شَوَّهَ بُنيته الجِسمية ، وَجَعَلَه يَتوقَّف عَن النُّمُوِّ ، وتَرَكَه أحْدَب . وَتَسَبَّبَ مَرَضُ السُّلِّ بِمُشكلات صِحية أُخْرَى ، بما في ذلك صُعوبات في التَّنَفُّسِ ، والحُمَّى الشديدة، والتهاب العُيون، وآلام البَطن.وَلَمْ يَتجاوز طُولُه 1.37 مِتْرًا . وَقَدْ عَرَّضَه مَظْهَرُه الجَسَدِيُّ لِسُخريةِ أعدائه . وكانَ مَعزولًا عَن المُجتمع ، لأنَّه كاثوليكي ، وزادتْ صِحته السَّيئة مِنْ عُزلته أكثر ، فَلَمْ يَتَزَوَّجْ ، ولكنْ كانَ لَدَيْهِ الكثير مِنَ الصَّديقات ، وكانَ يَكتب لَهُنَّ رسائل ظريفة .

     أُصِيبَ بوب بإعاقة جسدية دائمة ، وكانَ أحْدَبَ الظَّهْر ، ويَحْتاج إلى رِعاية صِحية يَومية . وغالبًا مَا تُعْزَى طبيعته سريعة الغضب وعدم شَعْبيته في الصِّحَافة إلى ثلاثة عوامل : انتماؤه إلى أقلية دِينية ، وَضَعْف جِسْمِه ، واستبعاده مِنَ التعليم الرَّسمي .

     ساهمَ مَرَضُ بوب في تشاؤمِه ، وسَوْداويةِ مِزَاجِه ، وَوُجودِ النَّغْمَةِ الحَزينة في بعضِ أشعاره ، وقَدْ ثَقَّفَ نَفْسَه إلى حَد كبير ، وظَهَرَتْ بَراعته في النَّظْمِ في وَقْت مُبكِّر في قَصائده الرَّعَوِيَّة ، وَتَعْكِسُ كِتاباتُه رُوحَ عَصْرِهِ الواثقِ بِنَفْسِه وحَضارته وتَمَدُّنه . ويُمكِن مُلاحظة الفرق الكبير بَين أشعاره الأُولَى المُتفائلة، وأشعارِه الأخيرة المُتشائمة. وكانَ شديدَ الاهتمامِ بِجَمَالِ الألفاظِ، ويَنظُر إلى لُغةِ الشِّعْرِ على أنَّها مُتَفَوِّقَة تَسْمُو على لُغةِ العَامَّة ، وَلَوْ أدَّى ذلك إلى جَعْلِها لُغَةً مُتكلِّفة مَليئة بالمُبَالَغَات. وكانَ المُتَحَدِّثَ بلسانِ عَصْرِه ، والناقدَ القاسي لَه ، في آنٍ مَعًا .

04‏/07‏/2025

مفهوم الحضارة بين ابن خلدون وأرنولد توينبي

 

مفهوم الحضارة بين ابن خلدون وأرنولد توينبي

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

......................

     يُعْتَبَر ابن خَلْدُون ( 732 ه / 1332 م تونس _ 808 ه / 1406 م مِصْر ) المُؤسِّسَ الفِعْليَّ لِعِلْمِ الاجتماعِ ، والمُنَظِّرَ الأوَّلَ له ، وَهُوَ أوَّل مَنْ حَلَّلَ أسبابَ قِيامِ الحَضاراتِ وسُقوطِها بأُسلوبٍ مَنطقيٍّ قائم على قواعد المَنهجِ العِلْمِيِّ في البَحْثِ ورَبْطِ الأسبابِ بالنتائج ، وَبَيَّنَ أنَّ لِقِيَامِ الحَضَارةِ وانهيارِها أسبابًا مُتداخلة ، سِياسية واجتماعية وأخلاقية واقتصادية .

     عَرَّفَ ابْنُ خَلْدُون الحَضَارةَ بأنَّها " تَفَنُّنٌ في التَّرَفِ ، وإحكامُ الصنائعِ المُستعمَلة في وُجوهِه ومَذاهبِه ، مِنَ المَطابخِ والمَلابسِ والمَبَاني والفُرُوشِ والأبنيةِ وسائرِ عَوائدِ المَنزلِ وأحوالِه " . كَما أنَّهُ عَرَّفَ الحَضَارةَ ضِمْنَ الإطارِ الاجتماعيِّ والتاريخيِّ بأنَّها " الوُصولُ إلى قِمَّةِ العُمْران ، والتَّطَوُّرُ الثقافيُّ والشَّخصيُّ للمُجتمع ، والدُّخُولُ للرُّقِيِّ الاجتماعيِّ الثابت " .

     والحَضَارةُ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِهِ هِيَ نِهايةُ العُمْرَانِ ، والطبيعةُ الجُغرافية لها دَوْر مُهِم في تَطَوُّرِ العُمْرَانِ ، حَيْث تَختلف الأقاليمُ الحَارَّةِ عَن الباردةِ ، وأيضًا ، عمليةُ التَّحَوُّلِ والانتقال مِنَ البَدَاوَةِ للحَضَرِ ، وكذلك السِّياسة والحاكمية والثَّرْوة والمال الذي يأتي مِنَ العَمَلِ والإنتاج . وَهُوَ يَعتبر أنَّ العَدْلَ عاملٌ مُهِمُّ في تَطَوُّر العُمْرَانِ ، والظُّلْم أحد أسبابِ الانهيارِ ، فَهُوَ مُؤْذِن بِخَرابِ العُمْرَانِ وَسُقوطِ الحَضَارةِ .

     مِنْ أهَمِّ نظريات ابن خَلْدُون في تَكوينِ الحضارةِ نظريةُ العَصَبِيَّة ، وَهِيَ الوَعْيُ الجَمَاعيُّ والتضامنُ والوَلاءُ القَبَلِيُّ أو الوطنيُّ أو الحِسُّ المُجتمعيُّ، وهي التي تَجْعَل مِنْ جَمَاعةٍ مُعيَّنة جَمَاعةً قوية . والعَصَبِيَّةُ هِيَ الركيزةُ الأساسيَّةُ لأيِّ نَشاطٍ سِياسيٍّ واجتماعيٍّ في بِناءِ الحَضَارةِ ، والمُحَرِّكُ الأوَّلُ للمُجتمع . مِثْلَمَا يُعَدُّ الإنسانُ الثَّروةَ الحقيقية لِكُلِّ حَضارةٍ. وَهُوَ يَعتقد أنَّ للحَضَاراتِ أعمارًا كما أنَّ للأشخاصِ أعمارًا ، ومراحلُ قُوَّتِها وضَعْفِها مُشابِهة تَمامًا لِمَراحلِ حَياةِ الإنسان .

     وللدُّوَلِ أعمارٌ لا تَتَعَدَّى مِئة وعِشرين عامًا،وتَمُرُّ بِثَلاثةِ أجيال:الخُشونةُ والبَسالةُ في المَجْدِ، والتَّرَفُ والانكسارُ وَضَعْفُ العَصَبِيَّة ، والتَّرَفُ والعَجْزُ عَن المُدَافَعَةِ وانقراض الدَّولة .

     حَلَّلَ ابنُ خَلْدُون الحَضَارةَ وأزمةَ الإنسانِ ، ورَأى أنَّ انهيارَ الحَضَارةِ مُرتبط بِبُعْدِ الإنسانِ عَن المَبادئِ والقِيَمِ ، لِهَذا وَجَبَ أنْ تُبْنَى الحَضَارةُ على الأخلاقِ ، وأكَّدَ على مَبدأ التفاعلِ بَين الحَضَاراتِ ، حَيْثُ تأخذ كُلُّ حَضَارةٍ إنجازاتِ الحَضَارةِ التي قَبْلَهَا ، عَبْرَ جَدَلِيَّةٍ حَضَارية وَتَفَاعُلٍ بَنَّاء ، يَقُومُ على التَّعَاوُنِ لا الصِّدَامِ . والحَضارةُ مَتَى مَا وَصَلَتْ إلى ذِرْوَةِ النَّعيمِ والتَّرَفِ ، فإنَّ هَذا يُهَدِّد بِسُقوطِها وانحلالِها .

     وَقَدْ شَبَّهَهَا بالكائنِ الحَيِّ في أطوارِ حَيَاتِه ، يَبْدَأ صَغيرًا ، ثُمَّ يَنْمُو ، حَتَّى يَصِيرَ صَبِيًّا فَفَتى يافعًا ، ثُمَّ يَبْلُغ مَرحلةَ الشَّيخوخةِ فالهَرَمِ ، وهُنا تَنْحَلُّ الحَضَارةُ وتَسْقُط .

     وَيُعَدُّ المُؤرِّخُ البريطانيُّ أرنولد توينبي ( 1889 _ 1975 ) أَهَمَّ مُؤرِّخ بَحَثَ في مَسألةِ الحَضَاراتِ بشكل مُفصَّل وشامل ، ولا سِيَّما في موسوعته التاريخية " دراسة للتاريخ " التي تتألف من 12 مُجَلَّدًا ، أنفقَ في تأليفها أكثر مِنْ 40 عامًا . وَهُوَ يَرى ، خِلافًا لِمُعْظَمِ المُؤرِّخين الذين يَعْتبرون الأُمَمَ أو الدُّوَلَ القَوْمِيَّة مَجَالًا لدراسة التاريخ ، أنَّ المُجتمعَات ( أو الحَضَارات ) الأكثر اتِّسَاعًا زمانًا وَمَكانًا، هي المَجالات المعقولة للدراسة التاريخية. ولَمْ يَبْقَ غَيْرُ سَبْعِ حَضَارات، هِيَ: الحَضَارةُ الأُرثوذكسية المسيحية البيزنطية،والأُرثوذكسية الروسية، والإسلامية ، والهندوكية ، والصِّينية ، والكُورية اليابانية ، والسابعة: الحضارة الغربية ، ولا يُعْرَفُ مَصِيرُها حَتَّى الآن .

     يَقُولُ توينبي في تفسير نُشوء الحضارات إنَّ المُجتمعات لَدَى مُواجهتها تحديات بيئية أو بشرية مُعيَّنة ، تستجيب استجاباتٍ مُختلفة ، أي إنها تُواجه ذلك الحافزَ برُدودِ فِعلٍ تختلفُ من جماعةٍ إلى أُخْرَى، بعضها سلبية، وبعضها إيجابية . أمَّا فِيما يَتَعَلَّق بِنُمُوِّ الحَضَارة ، فيُعيدها تُوينبي إلى الدافع الحيويِّ ، وهي الطاقة الكامنة لَدَى الفَرْدِ والمُجتمعِ التي تنطلق بغرض تَحقيقِ الذات . وَهُوَ يَرى أنَّ الحَضَارَات تَحْمِلُ في طَيَّاتِها أسبابَ مَوْتِها وفَنَائِها ، وفَضْلًا عن أسباب وعوامل خارجيَّة تَجْعلها عاجزةً عَن الاستجابةِ للتَحَدِّياتِ البيئية ، فإنَّ مِنْ أهَمِّ عوامل سُقوطِ الحَضَاراتِ ، انهيار قِيَمِها الأخلاقية والدِّينية . وَقَدْ تَأثَّرَ توينبي بِمُقَدِّمَةِ ابنِ خَلْدُون الذي وَصَفَ أسبابًا رئيسية للانهيارِ التَّدريجيِّ للدُّوَلِ والحَضَارات .

     يَعتقد توينبي أنَّ " الحَضَارات تَمُوتُ انتحارًا لا قَتْلًا " ، قاصدًا بذلك تَسليط الضَّوْء على سُلوكياتِ البَشَرِ وأفعالِهم في تَجَاهُلِ إرْثِهم الثقافيِّ ، والتَّخَلِّي عَن قِيَمِهِم الحَضَارية ، وفِقْدَانهم الدافع للتَّقَدُّمِ بعد أنْ تَتَّجِهَ إرادتُهُم تدريجيًّا لتجاهلِ واجبِ السَّعْي ، والفِرَارِ مِنْ دَرْبِ النَّجَاحِ ، والاستغناءِ عَنْ نِعْمَتَي الأمل والعمل . كما أنَّه يَعتقد أنَّ الحَضَارات لَيْسَتْ آلاتٍ غَيْر مَلْموسة أوْ غَيْر قابلة للتَّغيير، بَلْ شَبَكَة مِنَ العَلاقاتِ الاجتماعية داخل حُدودِها، وبالتالي فَهِيَ عُرْضَة لِقَرارات حَكيمة وغَيْر حَكيمة .

     وعلى صَعيدِ سُقوطِ الحَضَارات يَرى توينبي أنَّه يَعُود إلى ثلاثة أسباب :

     1_ ضَعْف القُوَّة المُبْدِعة في القِيادة ، وتَحَوُّلها إلى مُجَرَّد سُلطة تَعَسُّفية .

     2_ تَخَلِّي الأكثرية عَنْ مُوَالاة الأقلية الحاكمة المُسيطرة ، والكف عَنْ تَقْليدِها وَمُحَاكاتها .

     3_ الانشقاق والانقسام الداخلي الذي يُؤَدِّي إلى ضَياع الوَحدة في كِيَانِ المُجتمع ، حَيْث تَقِف الأكثريةُ ضِد الأقلية المُسيطرة .