26‏/09‏/2025

طبيعة بناء المسرحيات بين إبسن وبريخت

 

طبيعة بناء المسرحيات بين إبسن وبريخت

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.....................

     يُعْتَبَرُ الكاتبُ النرويجي هنريك إبسن ( 1828 _ 1906 ) مِنْ أهَمِّ كُتَّابِ المَسْرَحِ عَلى مَرِّ التاريخ ، ويُعْرَف بـِ " أبو المَسْرَحِ الحديث " . تَمتازُ نَظَرْتُهُ إلى الحَياةِ بالعُمْقِ والشُّمُولِ ، وَيَمْتاز مَسْرَحُهُ بِدِقَّةِ المِعمارِ والاقتصادِ معَ تَعبيرٍ شاعريٍّ دقيق .

     وَصَفَ النُّقَّادُ كُلَّ مَسرحية مِنْ مَسرحيات إبسن بالقُنبلة المَوقوتة ، فَكُلٌّ مِنها تُفَجِّر قضيةً مَا ، وتُثير رُدودَ فِعْلٍ عنيفة ، فقد اختار إبسن تَمزيقَ الأقنعةِ كُلِّهَا ، وكَشْفَ الزَّيْفِ الاجتماعيِّ ، داعيًا إلى الاعتدالِ والوسطية بعيدًا عن التَّطَرُّف .

     انتهج إبسن المُنْعَطَفَ الواقعيَّ في أعماله ، فَقَدْ تَطَرَّقَ إلى قضايا واقعية وخطيرة يُعاني مِنها المُجتمع الأوروبي، كما تَنَاوَلَ قضايا إنسانيَّة خالدة تُشْغِلُ الإنسانَ عَبْرَ العُصور،مِثْل: قَضِيَّة مَاهِيَّة الحقيقة، والفارق بَين الحَقيقةِ والواقع ، أو الصِّرَاع بَين الواقعِ والمِثال، وقضية النِّفَاقِ الاجتماعيِّ، وغَيْرها مِن القضايا التي تُثيرها أعمال إبسن المَسرحية ، والتي لَيْسَ بالضَّرورة أن تَضَعَ لَهَا حُلُولًا .

     تَتَّسِمُ مَسْرَحِيَّاتُ إبسن بالواقعيَّةِ الدِّرَامِيَّة ، وَتَناولِ القضايا الاجتماعيةِ والأخلاقيةِ المَحْظورة ، مِثْل مَكَانَةِ المَرْأةِ ، والزَّواجِ ، والمُشكلاتِ النَّفْسِيَّة ، والفَسادِ السِّياسيِّ والاقتصاديِّ ، والنِّزاعِ بَيْنَ الفَرْدِ والمُجتمع . بالإضافة إلى الاهتمام العميق بالشخصيات وتطويرها النَّفْسِي والفِكْري .

     اتَّبَعَ إبسن في مَسْرَحِهِ أُسلوبًا دِراميًّا مُمَيَّزًا عُرِفَ بالمَنهجِ الانقلابيِّ ، بمعنى أن تبدأ المسرحية بموقف في الحاضر، ثُمَّ تتوالى أحداثٌ مِنَ الماضي في العَودةِ ، لِتَنْسِجَ النِّهايةَ المَأساويَّة لأبطال المسرحية . أي إنَّ الأحداثَ الماضية تَتَكَشَّفُ تدريجيًّا لبناءِ النِّهايةِ المأساويَّة والكارثية للشَّخْصِيَّات .

     تَمتاز مَسْرَحِيَّاتُ إبسن بِمُمَيِّزات واضحة ، هي :

     1_ المَسْرَحِيَّاتُ التاريخية مِنها تبدأ بدايةً عاصفة ، أمَّا المَسْرَحِيَّاتُ الاجتماعية فتبدأ هادئةً مُشَوِّقة مُعتمِدة على الحِوار الدقيق .

     2_ الالتزام بِوَحْدَةِ الزمان والمكان ، كما وضعها اليونانيون .

     3_ بِناؤُها المَسْرَحِيُّ مُحْكَمٌ إحكامًا دقيقًا لا يُجَاريه فيه مُؤلِّف آخَر .

     4_ الحَبْكَةُ فِيها تبدأ بالقُرب مِن نُقْطة الزمان ، مِمَّا يُساعد على إخضاع عناصر المسرحية الثلاثة : الزمان والمكان والكلام .

     5_ شخصياتها من النماذج الإنسانيَّة العالميَّة الطبيعيَّة .

     وَيُعْتَبَرُ الكاتبُ الألمانيُّ بِرتولت بريخت ( 1898 _ 1956 ) مِنْ أَهَمِّ كُتَّابِ المَسْرَحِ العالميِّ في القَرْنِ العِشرين . ويُعْرَف بـِ " مُؤسِّس المَسْرَحِ المَلْحَمِيِّ " ، وهَذا النَّوْعُ المَسرحيُّ الفريدُ يَهْدِفُ إلى دَفْعِ الجُمهورِ للتَّفكيرِ النَّقْدِيِّ في القَضَايا الاجتماعيةِ والسِّياسيةِ بَدَلًا مِنْ إثارةِ المَشَاعِرِ وَالانغماسِ العاطفيِّ في الأحداثِ .

     والمَسْرَحُ المَلْحَمِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَ نَوْعَيْن أدَبِيَّيْن هُما : الدِّراما والمَلْحَمَة ، أي إنَّه يَتَضَمَّنُ شَكْلَي الأدبِ المَسْرَحِيِّ والسَّرْدِيِّ . والهَدَفُ مِنْهُ هُوَ الابتعادُ عَن تَصويرِ المَصائرِ الفرديةِ المأساويةِ المَعهودةِ مِنْ مَرحلةِ الخَيَالِ الكلاسيكيِّ وواقعِها الظاهريِّ ، وتَصويرُ الصِّرَاعاتِ الاجتماعيةِ الكُبرى مِثْل الحربِ والثَّورةِ والاقتصادِ والظُّلْمِ الاجتماعيِّ ، وَتَحويلُ المَسْرَحِ إلى أداةٍ لجعلِ هَذه الصِّراعات شَفَّافَةً ، وَدَفْعُ الجُمهورِ لِتَغييرِ المُجتمعِ إلى الأفضلِ .

     يَقُوم مَذهَبُ بريخت في المَسْرَحِ عَلى فِكْرَة أنَّ المُشَاهِدَ هُوَ العُنْصُرُ الأهَمُّ في تَكوينِ العَمَلِ المَسرحيِّ ، فَمِنْ أجْلِه تُكْتَبُ المَسرحية حَتَّى تُثير لَدَيْه التَّأمُّلَ والتَّفكيرَ في الواقع، واتِّخاذ مَوْقِفٍ وَرَأيٍ مِن القَضِيَّة المُتناوَلة في العَمَلِ المَسْرَحِيِّ .

     مِنْ أهَمِّ أساليبِ بريخت في كتابة المسرحيات :

     1_ هدم الجِدار الرابع : يُقْصَد بِه جَعْل المُشَاهِد مُشَارِكًا في العَمَلِ المَسْرحي، واعتباره العُنْصُر الأهم في كتابة المسرحية . والجِدَارُ الرابع معناه أنَّ خَشَبَةَ المسرح التي يقف عليها المُمَثِّلُون ، ويقومون بأدوارهم ، تُشْبِه غُرفة مِن ثلاثة جُدران ، والجِدَارُ الرابع هو جِدَار وَهْمِي ، وهو الذي يُقَابِل الجُمهور .

     2 _ التَّغْريب : يُقْصَد به تغريب الأحداث اليومية العادية، أي جَعْلها غريبة ومُثيرة للدَّهْشَة ، وباعثة على التَّأمُّل والتَّفكير ، مِثْل استخدام أُغْنِيَات بَيْنَ المَشَاهِد ، وذلك كَنَوْعٍ مِنَ المَزْجِ بَين التَّحْريضِ والتَّسْلية ، أوْ خُروج المُمَثِّلِ عَنْ دَوْرِه ، لإبقاءِ الجُمهورِ في حالةٍ مِنَ الوَعْي بأنَّ مَا يُشاهده هُوَ عَرْض مَسْرحي ، وَلَيْسَ واقعًا مُبَاشِرًا ، مِمَّا يُشجِّع عَلى التَّحليلِ النَّقْدِيِّ .

     3_ المَزْج بَين الوَعْظِ والتَّسْلية ، أوْ بَين التَّحريض السِّياسي والسُّخْرية الكوميدية .

     4_ استخدام مَشَاهِد مُتَفَرِّقَة. بَعْضُ مَسرحياته تَتَكَوَّن مِنْ مَشَاهِد مُتَفَرِّقَة ، تَقَع أحداثُها في أزمنة مُختلفة ، ولا يَرْبط بَيْنَها غَيْرُ الخَيْطِ العام للمَسرحية .

     إنَّ إبسن وبريخت اثنان مِنْ أعْمِدَةِ المَسْرَحِ في الغرب ، اشْتُهِرَ كُلٌّ مِنهما بابتكاراتِه في المَسْرَحِ الواقعيِّ والمُلْتَزِم ، ويَربطهما في كثير مِنَ الأحيانِ الاهتمامُ بِمَآسِي الرَّأسماليَّةِ والظُّلْمِ الاجتماعيِّ ، خاصَّةً في أعمالِهما التي تُسلِّط الضَّوْءَ عَلى قَضَايا المَرْأةِ ، والظُّلْمِ المُمَارَسِ ضِدَّهَا .

     وَقَدْ أسهمَ إبسن وبريخت في تَطويرِ المَسْرَحِ، حَيْثُ قَدَّمَ الأوَّلُ الواقعيةَ التي كَشَفَت الحقائقَ الاجتماعية ، وَقَدَّمَ الثاني المَسْرَحَ المَلْحَمِيَّ الذي يَدْعُو إلى التَّغييرِ الاجتماعيِّ والفِكْرِيِّ .

20‏/09‏/2025

رمزية الحياة والموت في أدب أنطون تشيخوف

 

رمزية الحياة والموت في أدب أنطون تشيخوف

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

..................

     يُعْتَبَرُ الكاتبُ الرُّوسِيُّ أنطون تشيخوف ( 1860 _ 1904 ) أعظمَ كاتب قِصَّة قصيرة في التاريخ . كَتَبَ المِئات مِنَ القصص القصيرة التي اعْتُبِرَ الكثير منها إبداعات فَنِّية كلاسيكيَّة ،  كَمَا أنَّ مَسْرحياته كانَ لها تأثير عظيم على دراما القَرْنِ العِشرين ، وَتَعَلَّمَ مِنها الكثيرُ مِنْ كُتَّابِ المَسْرحيات المُعاصِرين .

     قامَ بابتكاراتٍ إبداعيَّة أثَّرَتْ بِدَوْرِها على تطوير القِصَّة القصيرة الحديثة ، وَتَتَمَثَّل أصالتُها بالاستخدامِ المُبَكِّرِ لِتِقنية تَيَّار الشُّعُورِ الإنسانيِّ الدَّاخِلِيِّ، وتَوظيفِ التفاصيلِ الدقيقة الظاهرة، وَتَجميدِ الأحداثِ الخارجيَّة في القِصَّة، لإبرازِ النَّفْسِيَّة الداخليَّة للشَّخْصِيَّات .

     تَتَجَلَّى الرَّمزيةُ في أدبِهِ وقِصَصِهِ مِنْ خِلالِ استخدام عناصر حِسِّية لتمثيلِ مفاهيم مُجَرَّدَة ، والتركيزِ عَلى تَعقيدِ الطبيعةِ البَشرية ، وتناقضاتِ المُجتمعِ الإنسانيِّ . وتشيخوف يَسْتخدم الرُّمُوزَ للتَّعبيرِ عَن الهَشَاشَةِ الوُجوديةِ ، والفَراغِ الداخليِّ للشَّخصيات في إطارٍ واقعي ، وإظهارِ جَوهرِ المَشاعرِ الإنسانيةِ والأفكارِ العَميقةِ ، واستكشافِ مَواضيع التَّغْيير والنِّضَالِ مِنْ أجْلِ التَّكَيُّفِ معَ المَشْهَدِ الاجتماعيِّ الجديد .

     حَوَّلَ تشيخوف صُوَرَ الطبيعةِ إلى رُمُوز تَعْكِسُ مَشاعرَ الشَّخصياتِ وتَجَارِبَها ، وَتَنْقُل حَالَتَهَا العاطفيَّة . وغالبًا مَا يُظْهِرُ التناقضَ بَيْنَ جَمالِ الطبيعةِ وَقَسْوَةِ المُجتمعِ الإنسانيِّ . كَمَا أنَّه حَوَّلَ السُّخريةَ إلى رَمزية أدبية لنقدِ الأعرافِ والتقاليدِ المُجتمعية .

     إنَّ أدبَ تشيخوف قائم عَلى فِكرةِ البَحْثِ عَنْ مَعْنى في عَالَمٍ قاسٍ وَخَشِنٍ وَغَيْرِ مُبَالٍ ، مِمَّا يَعْكِسُ ضَعْفَ الإنسانِ وَضَيَاعَه في مَتاهةِ الحَياة . واعتمدَ في أعمالِه عَلى صِدْقِ الوَصْفِ ، والإيجازِ،والمَوضوعيَّة، وَتَصويرِ الأشخاصِ والأشياء بِدِقَّةٍ، وَتَجَنُّبِ الأحكامِ المُباشِرةِ أو المُبَالَغَات، مَعَ قُدرة عَلى طَرْحِ أسئلةٍ فلسفية عميقة ، وَالمَزْجِ بَيْنَ الحِسِّ الكُوميديِّ والأحاسيسِ المُوجعة والساخرة ، خاصَّة في تناول الأحداثِ اليوميةِ والطَّبَقَاتِ الاجتماعية ، والحِرْصِ عَلى التَّأمُّلِ في المَصِيرِ البَشَرِيِّ ، حَيْثُ تَنَاوَلَ تَساؤلاتٍ حَوْلَ قَدَرِ الإنسانِ ، والعَدالةِ ، وَقِيمةِ العَمَلِ ، مِنْ خِلال قِصَص تُسَلِّط الضَّوْءَ عَلى تفاصيلِ الحَياةِ العاديَّة .

     تتناولُ أعمالُ تشيخوف مواضيع عالميَّة كالحُبِّ ، والمَوْتِ ، والبَحْثِ عَنْ جَدوى الحَياةِ وَحَقيقةِ الوُجودِ ، وَتُقَدِّمُ فهمًا عميقًا للحالةِ الإنسانيةِ، وتَعقيداتِ العلاقاتِ بَيْنَ الناسِ .

     وفي قِصَصِه القصيرةِ ، يَتَّخِذُ الحُبُّ أشكالًا مُتعددة ، فَيَظْهَر الحُبُّ العاطفيُّ الشَّهْوَانِيُّ الذي يَسْتحوذ عَلى كُلِّ شَيْء ، كَمَا يَظْهَر الحُبُّ بِمَعْناه العائليِّ الاجتماعيِّ . وَيُصَوِّرُ تشيخوف بشكلٍ مُتكرِّر التَّوَتُّرَاتِ وَالصِّرَاعَاتِ التي تَنْشَأ في العَلاقاتِ الرُّومانسيَّة ، مُشَدِّدًا في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ عَلى المَشاعرِ المُعقَّدة التي قَدْ تَنْشَأ عِندَما يَكُون الشَّخْصَان عَلى صِلَةٍ وثيقة .

     تَعَمَّقَ تشيخوف في مَواضيعِ الوُجودِ الإنسانيِّ ، والبَحْثِ عَنْ مَعْنى للحَيَاة . واستكشفَ _ مِنْ خِلالِ شَخصياتِ قِصَصِه _ تَعقيداتِ الحالةِ الإنسانية ، وَكِفَاحَ الإنسانِ لإيجاد مَكانِه في العَالَمِ ، وَشُعُورَه بالمَلَلِ والقَلَقِ أثناءَ البَحْثِ عَنْ مَعْنى أعمق في الحَياة ، والانشغالِ بالأسئلة الوُجودية عَن المَعْنى والغايةِ .

     وَيَتكرَّر مَوضوعُ المَوْتِ في قِصَصِه باعتبارِه مُحَفِّزًا لِصِرَاعِ الشَّخْصياتِ الوُجوديِّ . وَمِنْ خِلالِ المَوْتِ تَظْهَرُ هَشَاشَةُ الحَياةِ ، وَحتميةُ الفَنَاءِ . وَتَختلفُ نَظرةُ الشَّخصياتِ إلى المَوْتِ ، فالبعضُ يَعْتبره تَحَرُّرًا مِنَ مُعاناةِ الحَياةِ وَفَرَاغِها ، والبعضُ الآخَرُ يَعْتبره تَذكيرًا بِقِيمةِ الحَياةِ وَضَرورةِ عَيْشِها .

     تَتَجَلَّى فلسفةُ تشيخوف الرَّمزيةُ في بَساطةِ أفكارِه ، وَنَماذجِه القِصَصِيَّة ، وَشُمولِه لِكُلِّ الأفرادِ في المُجتمعِ مِنْ عِلْيَةِ القَوْمِ حَتَّى قاعِ المُجتمع ، كَمَا تَتَجَلَّى في المَوضوعيَّةِ الصارمة التي قَدْ تَبْدُو نَوْعًا مِنْ البُرودِ تُجَاه مَصائرِ الأبطالِ .

     وَأَدَبُهُ يُعْتَبَرُ طريقًا لِمَعرفةِ الإنسانِ والمُجتمعِ والعَالَمِ والحَيَاةِ ، وَطَريقةً لِقِراءةِ تاريخِ المُجتمعِ الإنسانيِّ، بِكُلِّ طَبَقَاتِهِ وَتَناقضاتِه وَصِرَاعاتِه وَمَخَاوفِه وَهَوَاجسِه. وَأَدَبُهُ لَيْسَ خَاتِمَةً مأساويةً للحَيَاةِ ، وإنَّما هُوَ جُزْءٌ مِنْ التَّجْرِبَةِ الوُجودية، التي تَعْكِسُ هَشَاشَةَ الإنسانِ، وَقُوَّةَ حَيَاتِه ، وَتَدْفعه إلى العَيْشِ بِعُمْقٍ معَ استغلال كُلِّ لَحْظَة ، وبناءِ وَعْيٍ مَعرفيٍّ بأهميةِ الحَيَاةِ وحَتميةِ المَوْتِ .

     والجَديرُ بالذِّكْرِ أنَّ تشيخوف _ بِوَصْفِهِ طبيبًا _ كانَ يُوَاجِهُ المَوْتَ يَوْمِيًّا، حَيْثُ اعتادَ التعاملَ معَ المَرضى الذينَ يعيشون على هَامِشِ المُجتمع ، وَهَذا الاحتكاكُ المُبَاشِرُ جَعَلَه يَرى المَوْتَ حَقيقةً واقعيةً ، وَفُرصةً للتأمُّلِ ومُراجعةِ الذات ، وَتَذكيرًا دائمًا بِضَرورةِ العَيْشِ بِصِدْقٍ . وهَكذا ، صارَ المَوْتُ في أَدَبِهِ تَجْرِبَةً وُجوديَّةً يَوْمِيَّة . وَلَمْ يُحَاوِلْ تَحويلَ المَوْتِ إلى مَأساةٍ ، أوْ كارثةٍ ، أوْ حَدَثٍ دِرَاميٍّ عاطفيٍّ مُفْرِط ، أوْ جُزْءٍ مِنْ مَعركةٍ رُوحيَّة ، أوْ جُزْءٍ مِنْ صِراعٍ داخليٍّ وُجوديٍّ. بَلْ كانَ المَوْتُ جُزْءًا مِنَ التَّدَفُّقِ الطبيعيِّ للحَياة .

     واعتبرَ تشيخوف الطبيعةَ رَمزيةً أساسيَّة لِفَهْمِ المَوْتِ . ففي قِصَصِه ، تَرتبط الطبيعةُ بالتَّقَلُّبَاتِ النَّفْسِيَّة والتَّحَوُّلاتِ الداخليَّة للشَّخصياتِ ، وَتَتَّضِحُ الحَيَاةُ بِوَصْفِهَا وِلادةً للحُلْمِ والأمَلِ ، وَيَتَّضِحُ المَوْتُ بِوَصْفِهِ تَكريسًا للعَدَمِ والفَنَاءِ .

13‏/09‏/2025

نظرية الفعل الاجتماعي بين فيبر وبارسونز

 

نظرية الفعل الاجتماعي بين فيبر وبارسونز

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.......................

     يُعْتَبَر عَالِمُ الاجتماعِ الألمانيُّ ماكس فيبر ( 1864 _ 1920 ) أحَدَ الآباءِ المُؤسِّسين لِعِلْمِ الاجتماعِ الحَديثِ . وَقَدْ سَاهَمَ بشكلٍ فَعَّالٍ في دِرَاسَةِ الفِعْلِ الاجتماعيِّ ، وتأويلِه بشكلٍ مَنْطقيٍّ وَعَقْلانيٍّ ، وتَفسيرِه بطريقةٍ قائمة عَلى رَبْطِ الأسبابِ بالمُسَبِّبَاتِ .

     عَرَّفَ فيبر الفِعْلَ الاجتماعيَّ بأنَّهُ صُورةُ السُّلوكِ الإنسانيِّ الذي يَشْتمل على الاتِّجاهِ الداخليِّ أو الخارجيِّ ، الذي يَكُون مُعَبَّرًا عَنْهُ بواسطة الفِعْلِ أو الامتناعِ عَن الفِعْل . وَيُمْكِن فَهْمُه عَلى أنَّه طريقة تَصَرُّف الفَرْدِ بِنَاءً عَلى مُعْتقداتِه وَقَنَاعَاتِه ، واستنادًا إلى مَصَالِحِه ، واعتمادًا عَلى بيئته .

     وَفَهْمُ الفِعْلِ الاجتماعيِّ يَتَطَلَّبُ فَهْمَ الدَّوافعِ الذاتيَّةِ للأفرادِ وتَفسيراتِهم للمَواقفِ الاجتماعية، وكَيْفَ تُؤَثِّر القِيَمُ الثَّقَافِيَّةُ والمَعاييرُ الاجتماعيَّةُ عَلى سُلوكِهم . وَقَدْ حَدَّدَ فيبر أربعة أنواع رئيسية للفِعْلِ الاجتماعيِّ لِتَفسيرِ الدَّوَافعِ البَشَرِيَّة : الفِعْل العَقْلاني الهادف ، والفِعْل القِيَمِي ، والفِعْل العاطفي ، والفِعْل التَّقليدي . وَهَذه الأنواعُ تُسَاعِد في فَهْمِ دَوافعِ السُّلوكِ البَشَرِيِّ ، وتفاعلاتِ الأفرادِ في المُجتمع .

     وَوَفْقًا لِمَنظورِ فيبر وَتَعريفِه للفِعْلِ الاجتماعيِّ ، لا بُدَّ مِنْ فَهْمِ السُّلوكِ الاجتماعيِّ أو الظواهرِ الاجتماعيةِ عَلى مُسْتَوَيَيْن ، المُستوى الأوَّل أنْ نَفْهَمَ الفِعْلَ الاجتماعيَّ عَلى مُستوى الأفرادِ أنفُسِهِم ، أمَّا المُستوى الثاني فهو أنْ نَفْهَمَ هذا الفِعْلَ الاجتماعيَّ عَلى المُستوى الجَمْعِيِّ بَين الجَمَاعَات .

     رَكَّزَ فيبر على الفِعْلِ الاجتماعيِّ بَدَلًا مِنَ البُنيةِ الاجتماعية،وَرَأى أنَّ الدَّوافع والأفكار البَشَرِيَّة هِيَ التي تَقِفُ وَراء التَّغَيُّرِ الاجتماعيِّ. وَبِوُسْعِ الفَرْدِ أيضًا أنْ يَتَصَرَّفَ بِحُرِّية ، وَيَرْسُمَ مَصِيرَه في المُستقبَل . وَاعْتَبَرَ أنَّ البُنى في المُجتمعِ إنَّما تَتَشَكَّلُ بِفِعْلٍ تبادليٍّ مُعَقَّد بَيْنَ الأفعالِ ، وَيَنْبغي كَشْف المَعَاني الكامنةِ وَرَاءَ هَذه الأفعال .

     وَالفِعْلُ الاجتماعيُّ _ عِند فيبر _ يَتَحَقَّقُ بالتفاعلِ بَيْنَ الذَّوَاتِ والآخَرِين ، وَيَتَّخِذُ هَذا الفِعْلُ مَعْنى ذاتيًّا وَغَرَضِيًّا. وهَكَذا ، يَكُون فيبر قَد انتقلَ بِعِلْمِ الاجتماعِ مِنْ عَالَمِ الأشياءِ المَوضوعية إلى الأفعالِ الإنسانية، أي : انتقلَ مِنَ المَوضوعِ إلى الذاتِ ، أوْ مِنَ الشَّيْءِ إلى الإنسان .

     وَقَد اهْتَمَّ فيبر بِفَهْمِ المَعنى الذاتيِّ الذي يُضْفيه الأفرادُ عَلى أفعالِهم ، وكَيْفَ يُوَجِّهُ هَذا المَعْنى سُلوكَهم ، وَطَوَّرَ مَفهوم " الفَهْم التأويلي" كَمَنهجية أساسيَّة لِعِلْمِ الاجتماعِ ، والتي تَعْني مُحاولة فَهْم الفِعْل الاجتماعيِّ ، مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِ الفاعلِ نَفْسِه ، أي : وَضْع نَفْسِك مَكَان الآخَر لِفَهْمِ دَوافعِه ومَعَانيه .

     أصْبَحَ فيبر بالغَ الأهميةِ لِعَالِمِ الاجتماعِ الأمريكيِّ تالكوت بارسونز ( 1902 _ 1979 ) ، باعتبارِ ثقافته الناشئة في بيئة دِينية ومُتحررة في آنٍ واحد . السُّؤالُ عَنْ دَوْرِ الثَّقَافةِ والدِّينِ في العَمَلِيَّات الأسَاسِيَّة مِنْ تاريخِ العَالَمِ كانَ لُغْزًا مُحَيِّرًا لبارسونز، وثابتًا في ذِهْنِه . وكان فيبر الباحثَ الأول الذي قَدَّمَ لبارسونز جَوَابًا نَظَرِيًّا مُقْنِعًا عَنْ هَذا السُّؤال .

     يُؤَلِّفُ الفِعْلُ الاجتماعيُّ بالنِّسبةِ إلى بارسونز الوَحْدَةَ الأساسيَّة للحَياةِ الاجتماعية ، ولأشكالِ التفاعلِ الاجتماعيِّ بَيْنَ الناس ، فَمَا مِنْ صِلَة تَقُوم بَين الأفرادِ والجَمَاعَات ، إلا وَهِيَ مَبْنِيَّة عَلى الفِعْلِ الاجتماعيِّ ، وَمَا أوْجُهُ التفاعلِ الاجتماعيِّ إلا أشكالٌ للفِعْلِ ، تَتَبَايَن في اتِّجاهاتِها وأنواعِها وَمَسَاراتِها ، ولهذا يُعَدُّ الفِعْلُ عِنْدَه الوَحْدَةَ التي يستطيع الباحثُ مِنْ خِلالها رَصْدَ الظواهرِ الاجتماعية ، وتفسيرَ المُشكلاتِ التي يُعَاني مِنها الأفراد ، وَتُعَاني مِنها المُؤسَّسات على اختلاف مُستوياتِ تَطَوُّرِها .

     وَالفِعْلُ الاجتماعيُّ _ عِنْدَ بارسونز _ هُوَ سُلوكٌ إراديٌّ لَدى الإنسان لِتَحقيقِ هَدَفٍ مُحَدَّد ، وَغَايَةٍ بِعَيْنِها، وَهُوَ يَتَكَوَّنُ مِنْ بُنيةٍ تَضُمُّ الفاعلَ بِمَا يَحْمِلُه مِنْ خَصائص وَسِمَات تُمَيِّزُه عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الأشخاص، وَمَوْقِفٍ يُحِيطُ بالفاعلِ ، ويَتبادل مَعَه التأثيرَ، وَمُوَجِّهَاتٍ قِيَمِيَّةٍ وأخلاقيةٍ تَجْعَل الفاعلَ يَمِيل إلى مُمَارَسَةِ هَذا الفِعْلِ أوْ ذَاك ، والإقدامِ على مُمَارَسَةِ هَذا السُّلوكِ أوْ غَيْرِه .

     إنَّ بارسونز يَدْرُسُ الفِعْلَ الإنسانيَّ بِوَصْفِهِ مَنظومةً اجتماعية مُتكاملة ، يُسْهِمُ كُلُّ عُنْصُرٍ مِنْ عَناصرِها في تَكوينِ الفِعْلِ عَلى نَحْوٍ مِنَ الأنحاء ، وَهِيَ مُؤلَّفَةٌ مِنْ أربع منظومات فَرْعِيَّة ، تَتَدَرَّج مِنَ المَنظومةِ العُضْوِيَّة ، إلى الشَّخْصِيَّة ، فالاجتماعيَّة ، فالثَّقَافية والحَضَارية .

     وَتُسْهِمُ نَظريةُ الفِعْلِ الاجتماعيِّ التي عَمِلَ بارسونز على تطويرها في تَوضيحِ الكثير مِنَ القضايا الاجتماعية، مِمَّا جَعَلَ هَذه النظريةَ تأخذُ مَوْقِعًا مُتَقَدِّمًا في دِراسات عِلْمِ الاجتماعِ في الوِلاياتِ المُتَّحِدَة الأمريكية ، وفي مُعْظَمِ دُوَلِ العَالَمِ ، ولا سِيَّما الدُّوَل الأوروبيَّة ، بالنظر إلى مَا تَحْتويه مِنْ قُدرات تَحْلِيلِيَّة تُمَكِّن الباحثَ مِنْ مُعالجةِ الكثير مِنَ القضايا الاجتماعيةِ وقضايا عِلْمِ الاجتماع .

     حَدَّدَ بارسونز أركانَ الفِعْلِ الاجتماعي : 1_ الفاعل : الفرد الذي يَقُوم بالفِعْل . 2_ الغاية أو الهدف : الحالة المُستقبلية التي يَسعى الفاعلُ لتحقيقِها . 3 _ المَوْقِف : البيئة التي يَحْدُثُ فِيها الفِعْلُ . وتَتَكَوَّن مِنْ :  أ _ الشُّروط : جوانب المَوْقِف التي لا يَستطيع الفاعلُ التَّحَكُّمَ بِهَا ، مِثْل : الظروف الطبيعية ، والقُدرات البُيُولوجية . ب _ الوسائل : جَوَانِب المَوْقِف التي يَستطيع الفاعلُ التَّحَكُّمَ بِهَا ، واستخدامَها لتحقيق الغاية . ج _ التَّوَجُّهُ المِعْيَاري : مَجموعة القواعد والمَعَايير والقِيَم التي تُوجِّه اختيارَ الفاعلِ للوَسَائلِ والغَايَات .

06‏/09‏/2025

الجمال والفن في فلسفة كروتشه

 

الجمال والفن في فلسفة كروتشه

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

...................

     فَلسفةُ الجَمَالِ هِيَ فَرْعٌ مِنَ الفَلسفةِ يَدْرُسُ طَبيعةَ الجَمَالِ والذَّوْقِ والفَنِّ ، في الطبيعةِ والأعمالِ البشريةِ والأنساقِ الاجتماعية، وَيُكَرِّسُ التفكيرَ النَّقْدِيَّ في البُنى الثَّقَافيةِ بِكُلِّ صُوَرِهَا في الفَنِّ، وَتَجَلِّيَاتِها في الطبيعة ، وانعكاساتِها في المُجتمع، وَيُحَلِّلُ التَّجَارِبَ الحِسِّيةَ، والبُنى العاطفية ، والتفاصيلَ الوِجْدَانِيَّة ، وَالقِيَمَ العقلانيةَ ، التي تُوضِّح سَبَبَ شُعورِ الإنسانِ بالرَّاحَةِ والمُتعةِ عِندَ رُؤيةِ الأشياءِ الجميلة .

     والسُّؤالُ الأساسيُّ في فَلسفةِ الجَمَالِ:هَل الجَمَالُ ذَاتيٌّ يَكْمُنُ في عَيْنِ الناظرِ أَمْ أنَّه مِيزَة مَوضوعية مَوجودة في الأشياءِ الجميلة؟. وَبِعِبَارةٍ أُخْرَى ، هَلْ مَصْدَرُ الجَمَالِ هُوَ خَاصِيَّة مَوضوعية في الأشياء أَم استجابة ذاتية في الإنسان ، أمْ نتيجة للتفاعل بينهما ؟ .

     إنَّ الجَمَالَ مَوجودٌ في العَقْلِ الذي يَتَأمَّلُه ، وكُلُّ عَقْلٍ يُدْرِكُ جَمَالًا مُخْتَلِفًا ، والذَّوْقُ يَلْعَبُ دَوْرًا مُهِمًّا في هَذا المَجَالِ ، وَيُقَدِّمُ حُكْمًا جَمَالِيًّا خَالِصًا ، وَلَيْسَ حُكْمًا مَعْرِفِيًّا ولا مَنْطِقِيًّا . والجَمَالُ مَفهومٌ مُتناقضٌ وَمُتَشَعِّب ، حَيْثُ تَختلف وِجْهَاتُ النظرِ حَوْلَه بَيْنَ فَيلسوفٍ وآخَر . وَقَدْ رَبَطَ الكثيرون مَفهومَ الجَمَالِ بالقِيَمِ الإيجابيةِ المُطْلَقَةِ ، مِثْل : الخَيْر والحقيقة والعَدْل . ويَرى البعضُ أنَّ مَفهوم الجَمَالِ مُرتبط بالاستمتاعِ والمَشاعرِ ، في حِين يُركِّز آخَرُون على الجانبِ العَقلانيِّ والمَنْطِقِيِّ .

     تَتَوَزَّعُ فَلسفةُ الجَمَالِ عِندَ الفَلاسفةِ بَيْنَ رُؤى مُختلفة ، مِنها : اعتبارُ الجَمَالِ خَاصِيَّة في الشَّيْءِ نَفْسِه مِثْل التوازنِ والتناسبِ ( أفلاطون وأَرِسْطُو )،أوْ كَمَفهوم مُرتبط بالخَيْرِ والكَمَالِ ( توما الأكويني ) ، أوْ هُوَ حُكْمٌ ذاتيٌّ يَعْتمد على تَجْرِبَة الشَّخْصِ وَذَوْقِه الخاص ، وَهَذا الذَّوْقُ يُمْكِن تَنْميته وتَثقيفه مِنْ خِلال الخِبرة ( فَلاسفة التَّنْوير مِثْل ديفيد هيوم ) ، أوْ أنَّ الجَمَالَ يَكْمُنُ في عَلاقةٍ ذاتيَّة بَيْنَ الإنسانِ والعَالَمِ ، والإنسانُ هُوَ مَنْ يُضْفِي عَلى العَالَمِ جَمَالَه ، وأنَّ الجَمَالَ مَا هُوَ إلا انعكاسٌ لِصُورةِ الإنسانِ في الأشياءِ ( نيتشه ) ، أوْ أنَّ الجَمَالَ مُرتبطٌ بالإرادةِ والفِكْرِ الإنسانيِّ، وَهُوَ صِفَةٌ نِسْبِيَّة عَلى عَلاقة وَثيقة بالإنسانِ ، نَوْعًا وإدراكًا ، وَلَيْسَ صِفَةً مُطْلَقَة ( شوبنهاور ) ، أوْ هُوَ مُصالحة بَيْنَ الأجزاءِ الحِسِّيةِ والعَقْلانيةِ مِنْ طَبيعةِ الإنسانِ ( فريدريش شيلر )، أوْ أنَّ الجَمَالَ لَيْسَ صِفَةً في الشَّيْءِ نَفْسِه ، بَلْ هُوَ استجابة ذاتيَّة ، ولكنْ بِطَابَعٍ عالميٍّ ، ولا يَتَعَلَّق الأمْرُ بِمَنفعةِ الشَّيْء ( كانط ) .

     إنَّ أفكارَ الإنسان الفلسفية تُشكِّل نَظْرَتَه للجَمَالِ ، وتُؤَثِّر عَلَيْه ، كَمَا أنَّ مَشاعرَ الإنسانِ تتأثَّر بِتَصَوُّرَاتِه ومَفَاهيمِه عَن الجَمَالِ ، فإذا نَظَرَ إلى البيئةِ التي مِنْ حَوْلِه عَلى أنَّها جَميلة وَمُمْتِعة مِنَ النَّاحِيَةِ الجَمَالِيَّة ، فإنَّ هَذه النَّظْرَة الإيجابية تَنعكِس عَلى مَشَاعِرِه ، فَتُؤَثِّر عَلَيْهِ بِطَريقةٍ إيجابية .

    وَيُعْتَبَرُ الفَيلسوفُ الإيطاليُّ بينيديتو كروتشه ( 1866 _ 1952 ) مِنْ أبرزِ الذينَ قَدَّمُوا دِرَاسَاتٍ عميقة في فَلسفةِ الجَمَالِ ، وَكَتَبُوا في هَذا المَجَالِ بشكلٍ تفصيلي . وَهُوَ يَعْتنق فَلسفةَ المِثاليَّة المُطْلَقَة ، ومَذهَبُه الفَلسفيُّ يَضَعُ أربع دَرَجَات في " هُبوط عَالَمِ الرُّوح " ، وهي الدَّرَجَة الجَمَاليَّة ( تَجَسُّد الرُّوح الفَرْد )،والدَّرَجَة المَنْطِقِيَّة ( مَجَال العام ) ، والدَّرَجَة الاقتصادية ( مَجَال المَصلحة الخَاصَّة ) ، والدَّرَجَة الأخلاقية ( مَجَال المَصلحة العَامَّة ) .

     تَتَمَحْوَرُ فَلسفةُ الجَمَالِ عِندَ كروتشه حَوْلَ فِكرة أنَّ الجَمَالَ هُوَ الحَدْسُ والتَّعبيرُ عَن الشُّعُورِ في صُورة ذِهنية ، حَيْثُ يَمْزُجُ العملُ الفَنِّي بَيْنَ الرُّؤيةِ والتَّعبيرِ دُون انفصالٍ بَيْنَهما، وكانَ يَرى أنَّ الفَنَّ لا يُمثِّل مَعرفةً بالواقعِ بِقَدْرِ مَا هُوَ مَعرفة حَدْسِيَّة وَرُؤية داخليَّة ، وأنَّ الوظيفة الجَمَالِيَّة الأساسيَّة هِيَ التَّعبيرُ عَن الذات ، بَدَلًا مِنَ التَّمثيلِ الخارجيِّ للعَالَمِ .

     يُعْتَبَر كروتشه مِنْ أكثر فلاسفة إيطاليا تَمَيُّزًا في القَرْنِ العِشرين . وكان يؤمن بوجود نَوْعَيْن مِنَ المَعرفة : المعرفة التي تأتي عن طريق الفَهْم ، والمعرفة التي تأتي عن طريق الخَيَال. وَهُوَ يَعْتبر أنَّ الخَيَالَ يُوجِّه الفَنَّ ، والفَنُّ لا يُحاوِل تَصنيفَ الأشياءِ ، كما يَفْعل العِلْمُ، لكنَّه يَحُسُّ بِها ويُمثِّلها فَقَط ، والفَنُّ رُؤيةٌ وَحَدْسٌ كَمَوضوعٍ خارجيٍّ ( شَيْء أوْ شَخْص ) أوْ كَمَوضوعٍ داخليٍّ ( عاطفة أوْ مِزَاج)، يُعبِّر عَنْهُ الفَنَّانُ باللغةِ أو اللَّوْنِ أو النَّغَمِ أو الحَجَرِ، والعَمَلُ الفَنِّي هُوَ صُورةٌ ذِهنية يُؤَلِّفُها الفَنَّانُ ، ويُعيد مُتَذَوِّقُو الفَنِّ تأليفَها ، وَلَيْسَ الفَنُّ سِوى عَرْضِ الشُّعورِ مُجَسَّمًا في صُورة ذِهنية .

     عَرَضَ كروتشه نَظَرِيَّتَه الجَمَالِيَّة في كِتَابَيْن لَه: عِلْم الجَمَال(1902)،والمُجْمَل في عِلْمِ الجَمَال( 1913)، وَتَتَمَحْوَرُ حَوْلَ فِكرة مَركزية أساسيَّة ، وَهِيَ وَحْدَة الإبداعِ الفَنِّي ، حَيْثُ يَسْعَى إلى التَّوفيقِ بَيْنَ النَّشَاطِ الباطنيِّ ( الحَدْسِيِّ / الرُّوحِيِّ ) للإبداعِ الفَنِّي ، وَالنَّشَاطِ الخارجيِّ الحِسِّي التَّعْبيريِّ . وَقَدْ حَلَّلَ طَبيعةَ الجَمَالِ ، وَتَجَلِّيَاتِه في الوُجود ، وَرَبَطَه بالأحاسيسِ والمَشاعرِ الإنسانية ، وَبَيَّنَ أنَّ عِلْمَ الجَمَالِ لا يُعْنَى بإصدار الأحكام عَلى مَا هُوَ جَميلٌ أوْ قَبيحٌ ، بَلْ يَفْحَص تَجَارِبَ الجَمَالِ كظاهرةٍ شاملة .

     كانَ لفلسفةِ كروتشه الغنية تأثيرٌ قوي في الفلسفة الإيطالية والأوروبية بِرُمَّتها ، وَاحْتَلَّتْ أعمالُه مَكانةً بارزةً في كلاسيكيَّات مِثالية القَرْنِ العِشرين ، وأثَّرَ في مُعْظَمِ مَنْ أتى بَعْدَه مِنَ المُفَكِّرين والفلاسفة ، وكان له أثرٌ في إعادة تقويم أفكار الفَيلسوفِ الألمانيِّ هِيغل .