27‏/02‏/2015

العقائد الدينية في شعر المعلقات ( الجزء الأول )

العقائد الدينية في شعر المعلقات / الجزء الأول 

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

..................................

     إن العقيدة الدينية حاضرة في شِعر المعلَّقات على الرغم مِن كَوْن أصحابها وثنيين . وقد وَصلتهم الكثير من العقائد الدينية ، لكنهم خَلطوها بالشِّرك ، ولم يتمكنوا من جعلها صافيةً . وينبغي ألا ننسى أن العرب مِن ذُرية إسماعيل بن إبراهيم _ عليهما الصلاة والسلام _ ، وهما نَبِيَّان كريمان قاما بأداء دورهما في إيصال الرسالة الإلهية إلى الناس . كما أن العرب عاشوا في بيئة يتواجد فيها اليهود والنصارى . وهذا يعني أن بَعْضاً من تعاليم موسى وعيسى _ عليهما الصلاة والسلام _ قد وَصلتهم . ومن الطبيعي أن يتأثر الجو العربي بعقائد أهل الكتاب .
     ومن المؤسف أن طول المدة الزمنية بين الأنبياء_ عليهم الصلاة والسلام _ وبين عرب الجاهلية قد أدى إلى حدوث تلاعب كبير بالعقائد الدينية في البيئة العربية ومزجها بالأصنام والأفكار الشِّركية دون وجود بصيص أملٍ ، أو ظهور ضوء في آخر النفق . ولا يَخفى أننا نتحدث عن الفترة الزمنية السابقة لظهور النبي محمد_عليه الصلاة والسلام_،حيث كانت الجزيرة العربية غارقة في الظلام العَقَدي.
     وعلى الرغم من كَوْن عقائد شعراء المعلَّقات_بشكل عام_ مضطربة ومشوَّشة، ويَختلط فيها الحقُّ بالباطل ، إلا أنها متفقة على الإيمان بوجود الله تعالى وتعظيمه ، وتعظيم الكعبة التي تُعتبَر القِبلة المقدَّسة ، ومركز الوجود الديني في الجزيرة العربية . وقد كان عربُ الجاهلية لا يبنون بنياناً مُربَّعاً ، ويَعتبرون ذلك خطاً أحمر ، وذلك تعظيماً للكعبة ، لكي تظل متفردة ومميَّزة عن باقي الطُّرز المعمارية .
     وهذا الفصلُ سيتناول عقيدةَ شعراء المعلَّقات الظاهرة في أشعارهم . ولا يَخفى أن أساس كل عقيدة دِينية هي وجود الله تعالى . كما أن هذا الفصل سيتطرق إلى كشف الظروف الاجتماعية والأبعاد النفسية ذات الارتباط الوثيق بالعقيدة والقيم الدينية .
1_ العقيدة في الله :
     لم يكن شعراءُ المعلَّقات مجموعةً من البدو العائشين في الصحراء بلا تاريخ. ولم يكونوا أشخاصاً عاديين محصورين في نظام استهلاكي شهواني . بل كانوا فلاسفة تَشغلهم الأسئلةُ الكبرى حَوْل الإنسان والجماعة والحياة والموت والوجود والمصنوع والصانع . وكانوا أصحابَ تأملاتٍ حقيقية في هذه الحياة الدنيا ، وهذا لا يتعارض مع كَوْنهم أبناء بيئتهم الصحراوية البدائية ، وإفرازاتها المادية الفجَّة .
     والشاعرُ الجاهليُّ متعلِّقٌ بالأسباب الدنيوية ، وغارقٌ في العلائق المعيشية في واقعه اليومي المحسوس. وعندما تُغلَق الأبوابُ في وجهه، فإنه يتذكر خالقَ الأسباب، ويتعلق بالقوة الإلهية المحرِّكة للعلاقات الدنيوية. وهذا دَيْدن غالبية الناس في كل العصور .
     وإننا لنجد الشاعر طَرَفة بن العبد يعيش حياته بالطُّول والعَرْض دون حساب . وعندما يغرق إلى شحمة أذنيه في مشكلاته الشخصية ، وأزماته الاجتماعية والاقتصادية ، فإنه يتذكر قدرةَ رَبِّه اللامحدودة ، فيقول :
فلوْ شاءَ رَبِّي كُنتُ قيسَ بنَ خالِدٍ          ولوْ شاءَ ربِّي كنتُ عَمْرو بن مَرْثَدِ
     فحينما اشتد عليه الخِناقُ ، وضاقت عليه الأرضُ بما رَحُبت ، ووَجد نَفْسه عاجزاً أمام ضغوطات الحياة اليومية ، أخذَ يفكِّر في قُدرة الله تعالى ، ويَبني عقيدته وفق المشيئة الإلهية . فهو يقول إن الله لو شاءَ لجعله قيس بن خالد أو عمرو بن مرثد . وهذان رَجلان من سادات العرب في الجاهلية، مشهوران بكثرة الأموال ، وذكاءِ الأولاد ، وشرفِ النَّسَب ، وعِظَم الحسَب .
     لقد أدركَ طَرَفة حجمَ المأزق الذي يَغرق فيه، فلم يَعترف بتقصيره، أو بأخطائه، أو سوءِ تصرفه الذي أورده المهالك . بل هربَ إلى الأمام ، وذلك بالتعلق بالمشيئة الإلهية . وكأنه يقول إنه لا ذَنْب لي في وصولي إلى هذه الحالة المزرية . فلو شاءَ اللهُ لجعلني سيداً من سادات العرب ، ولكنه لم يشأ ذلك . إذن ، فالمشيئةُ الإلهية لا يمكن مقاومتها،وأنا لا ذَنْب لي بالموضوع. وهكذا يتملص_وفق منظوره الشخصي_ من كل مسؤولية ولَوْم .
     وهنا يَظهر قصورُ الفهم في موضوع المشيئة الإلهية ، ويبرز الخلطُ بين مشيئة الله تعالى بمعنى تعلُّق إرادته بوقوع شيء ما ، وبين مشيئة الله التي رَبطت الأسباب والمسبِّبات . فلا بد من الأخذ بالأسباب لتحصيل المال ، والحصول على الأولاد . فالسماءُ لا تُمطِر ذهباً ولا فضة . كما أن الأولاد لا يأتون من الهواء ، وإنما يأتون من العلاقة بين الرَّجل والمرأة .. إلخ. وهذا المعنى المتكوِّن من السبب والمسبِّب غائبٌ بالكلية عن ذهن الشاعر الذي كان حريصاً على إيجاد" صَك غُفران " يُريحه من عذاب الضمير ، ويَحميه من نظرات الناس . فوجدَ في فهمه المغلوط للمشيئة الإلهية خلاصاً له ، ونهايةً لآلامه ، وتبريراً لأخطائه . كما أن فهمه المغلوط يَعكس المرارةَ العميقة التي تتأجج في ذاته ، واعترافاً ضمنياً بانهياره وسوءِ حاله ، وفقدان الثقة بمن حَوْله . ومن الملاحَظ أيضاً أن نظرة طرفة _ في هذا السياق _ كانت ماديةً بحتة، فقد اعتبر هذين الرَّجلَيْن ( قيس بن خالد وعمرو بن مرثد ) مثلاً أعلى، وقُدوةً سامية تَرنو إليها الأنظار ، وتنتهي إليها الآمال . وهما رَجلان مشهوران بالمال والأولاد، ولَيْسا مشهورَيْن بالعِلم أو الثقافة أو الشِّعر_على سبيل المثال_. وهذا يشير إلى أن المال والأولاد كانا الرُّكنين الأساسِيَّيْن في بناء المنظومة الاجتماعية الجاهلية ذات الصبغة المادية المنبثقة من البيئة الصحراوية القاسية .      
     إن الفهم المغلوط للمشيئة الإلهية يتماهى مع الفهم المغلوط للقضاء والقَدَر، حيث إن الكثيرين يَضعون فشلَهم ، وفقرَهم ، وعجزَهم ، وخطاياهم ، تحت مظلة القضاء والقَدَر لكي يَرتاحوا من تأنيب الضمير ، ووخزِ الواقع المؤلم ، ولَوْمِ الناس الذي لا يَنتهي . وهذا يدل على وجود ثقافة تبريرية منتشرة على نطاق واسع ، لا تعترف بالخطأ والخطيئة ، وإنما تظل تَدور حَوْلهما للإفلات من تأثيرهما . وهذا إن دَلَّ على شيء ، فإنما يدل على وجود ضغط هائل _ مِن قِبَل عناصر البيئة الاجتماعية_ على الفرد والجماعة . وفي كثير من الأحيان يكون الوقتُ الذي يستغرقه تبريرُ الأخطاء كافياً لإصلاحها .
     والعربُ في الجاهلية _ بشكل عام _ كانوا يَرفضون الاعتراف بالخطأ، ويَعتبرونه خطاً أحمر . فهُم يَنظرون إلى " الاعتراف بالخطأ " على أنه إهانة للفرد ، وتدنيس لرمزية القبيلة ومكانتها، وتدمير للمنزلة الاجتماعية ، وخضوع للآخرين ، وتسليم بشروطهم . لذلك كان العربُ يترفعون عن الاعتراف بالخطأ، ويتكبرون على الحق، بدافع العصبية القَبَلية وعوامل أخرى ذات صبغة شخصية ومجتمعية . وهكذا تتجلى حَمِيَّةُ الجاهلية في أعنف صورها، وتبرز في المرجعية الذهنية ، وتَظهر في التطبيقات الواقعية .
     ونجد الشاعر زُهير بن أبي سُلمى قد وصلَ إلى حقيقة أن اللهَ محيطٌ بكل شيء ، وأن عِلْمه شامل لكل الأشياء ، ولا يمكن أن يحدَّه حَد . فاللهُ مُطَّلع على خبايا النفوس. والإنسانُ هو كتابٌ مفتوح أمام خالقه ، ولا يمكن إخفاء شيء عنه .
     يقولُ الشاعرُ زُهَيْر بن أبي سُلمى :

فلا تَكْتُمُنَّ اللهَ ما في نفوسكم         لِيَخفى ومَهما يُكتمِ اللهُ يَعْلَمِ
     وهذا البيتُ يشتمل على موعظة دينية وأخلاقية في آن معاً . والشاعرُ يُطالِب بعدم إضمار الغدر ونقض العهد، وتبييتِ نية الخيانة . وهذا الإضمارُ _ إن حَصَلَ_ فإن الله يَعْلمه ، لأنه عالِم بالسرائر ، وكاشفٌ لضمائر العباد . والشاعرُ يُثبِت صفة العِلم لله . ولا شك أنه وصل إلى هذه العقيدة عن طريق اختلاطه بأهل الكتاب . ففي الجاهلية ذات الصبغة الوثنية لم يكن الناسُ معنيين بمعرفة الصفات الإلهية، ولم يهتموا   _ بالأساس _ بهذه المباحث. وهي بالتأكيد كانت ضمن عقائد أهل الكتاب التي اطَّلع عليها الشاعرُ ، واعتنقها ، وبثَّها في شِعره .
     ولم يكتفِ زهير بإثبات صفة العِلم لله ، بل أيضاً نراه يتحدث عن عقائد مرتبطة باليوم الآخر الذي يُعتبَر الإيمانُ به ناسفاً للعقائد الوثنية في البيئة العربية . فالعربُ يَعتبرون الموتَ هو النهاية التي لا شيء بعدها ، لذلك لا يؤمنون باليوم الآخر والبعث والنشور والحساب. وشعارُهم في هذه القضية" أرحامٌ تَدفع وأرضٌ تَبلع " ، وانتهى الموضوعُ . أمَّا زُهير بن أبي سُلمى _ وهو ابن البيئة الجاهلية الوثنية _ فقد خالفَ إفرازاتِ العقلية العربية ، وخرجَ عن المسار الوثني بشكل كامل ، مخالِفاً تقاليد الآباء المتوارثة . يقول زُهير :
يُؤَخَّر فيُوضع في كتابٍ فَيُدَّخَر          ليَوْمِ الحسابِ أو يُعَجَّل فيُنقَمِ
     فهو يؤمن بأن الله يُؤخِّر العِقابَ ويُؤجِّله ، فهو يُمهِل ولا يُهمِل . والأعمالُ تُوضَع في كتاب ، وتُسجَّل فيه بكل دقة. ويُدَّخر ليوم الحساب ، أو يتم تعجيل العقوبة في الدنيا ، فَيُنْتَقَم من المسيء. وهذا معناه أن العقوبة قادمة لا محالة _ آجلاً أو عاجلاً _ ، ولا مهرب منها . وهذا اعترافٌ واضح من الشاعر بوجود الله ، وعِلْمه بالجزئيات والكليات . وأيضاً ، الإيمان باليوم الآخر ، والبعث ، والحساب ، وكتابة أعمال العِباد في الصُّحف .
     إن زهيراً يَكشف عقيدته المضادة لتاريخ قَوْمه ، والمخالِفة للتراث الوثني المنتشر في البيئة العربية التي نشأ فيها، وعاشَ فيها . ولا يَخفى أنه شاعرٌ جاهلي ماتَ قبل البعثة المحمَّدية الإسلامية. فمن أينَ استقى هذه العقائد الغَيْبية التي كانت بعيدةً كلَّ البُعد عن الذهن العربي ؟. لقد استقاها_حتماً_ من أهل الكتاب المؤمنين بالله واليوم الآخِر والبعث والحساب. وهذا يشير إلى مخالطته لأهل الكتاب ، والاستماع إليهم، والاطلاع على عقائدهم . كما يدل على حُب زهير للمعرفة والاطلاع ، وبحثه عن الحقيقة ، وعدم أخذ عقائد قَوْمه الوثنيين كمسلَّمات . فهو دائمُ البحث للوصول إلى الحق لكي يَحصل على الطمأنينة ، ويَتخلص من القلق الرهيب الذي كان يتلاعب به ضمن النسق الجاهلي . فعدمُ الاطمئنان إلى عقائد آبائه وقَوْمه العائشين في بيئته جعله قَلِقاً ، كثيرَ التفكير . وهذا أدى إلى بحثه عن عقيدة جديدة تشعره بالأمان الروحي ، والسَّكينة العاطفية ، والراحة الجسدية .
     وبالطبع ، لم يَجد أفضلَ من أهل الكتاب الذين يُقدِّمون أنفسهم كوارثين للإرث النبوي ، إرث موسى وعيسى _ عليهما الصلاة والسلام _ ، وكأصحاب رسالة سماوية تتجلى في التوراة والإنجيل ، وليس رسالة أرضية وضعية . وبالتأكيد ، لقد نَظر زهير إلى أهل الكتاب باعتبارهم المثل الأعلى ، والقُدوة السامية ، وحاملي الوحي الإلهي . وهذا جعله ينضم إليهم روحياً وعَقدياً على الرغم من بقاء جسمه مع أبناء جِلْدته في بيئته العربية الجاهلية .
     وها هُوَ الشاعر لَبيد بن أبي ربيعة يُبرِز أهميةَ الإيمان بما قَسَمه اللهُ تعالى ، وضرورة الرضا بالقِسمة والنصيب . فاللهُ الخالق هو أعلمُ بالناس من أنفسهم ، وأرحم بهم من أمهاتهم ، وقد قَسَمَ المعايشَ والخلائق بالعدل ، وما على الإنسان إلا الرضا والتسليم والتزام القناعة .
     يقول لَبيد :
فاقْنَع بما قَسَمَ الْمَليكُ فإنما          قَسَمَ الخلائِقَ بَيْننا عَلَّامُها

     وهنا تَظهر أهميةُ القناعة بالقِسْمة الإلهية . فاللهُ تعالى قَسَمَ لكل شخص ما يستحقه من غنى أو فقر ، كمال أو نقص ، رِفعة أو ضَعة . وهذه الأمورُ لم تجيء عبثاً أو بمحض الصُّدفة ، لأن قَسَّامَ المعايش هو عَلَّامها الذي يَعلم كلَّ شيء . وبما أن عِلم الله كاملٌ وشاملٌ، إذن .. فالقِسمة الإلهية ستأتي معصومةً لا تَقبل التشكيك أو الطعن، ولا خيار للإنسان إلا الاقتناع بها ، وقبولها بكل صدر رحب .