27‏/08‏/2015

الإخلاص في الدين

الإخلاص في الدين

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

.................................

     الإخلاص هو أساس الدِّين ، ويعني التوجه الكامل نحو الله تعالى، بحيث يكون قصدُ كل أعمال الإنسان هو وجه الله وَحْدَه . وبدونه لا تُقبَل العبادات . والإخلاصُ هو القوة الروحية الهائلة التي تنعكس على سلوك المرء وطبيعة تفكيره ونظرته إلى الأفعال الحياتية على كافة الصُّعد . كما أن الإخلاص يُحرِّر الفردَ من شوائب العلاقات الدنيوية الوضيعة ، ويجعل تَوجُّهه نحو الخالق العظيم بلا شريك. وبذلك يتجذر شرفُ العبادة في أسمى معانيها في الذات الإنسانية المتحررة من قيود المصالح الدنيوية ونيلِ الحظوة عند الناس . فالناسُ لا يملكون من أمرهم شيئاً . والأمرُ كله بيد الله تعالى . وإذا استقرت هذه العقيدة في النفس فإنها تُورِث المرءَ أماناً وسعادة ولذةً في أداء العبادات مع إدارة الظهر لكل أوهام الدنيا وإغراءاتها الشكلية . ولا يمكن للمرء أن يتوجه إلى سَيِّدَيْن ، لذلك على الإنسان أن يُسقِط الناسَ من حساباته ، ولا يُعير بالاً لأحكامهم عليه ، بل يتوجه بالكلية إلى الخالق تعالى ، فهو _ وَحْدَه _ الذي يَحكم له أو عليه .
     قال الله تعالى : } فاعبدِ اللهَ مخلِصاً له الدِّين { [ الزُّمر : 2] .
     إن هذا التوجيه الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بالإخلاص في العبادة ، وعدم الشرك بالله تعالى ، يُعتبَر أساساً في منهجية الإسلام الذي جاء من أجل إفراد الله تعالى بالعبادة ، وعدم تأليه المخلوقات . فلا أحدٌ يستحق العبادة إلا الله تعالى صانع المخلوقات وموجدها من العَدم. وكلُّ مبدأ بُنِيَ على منح صفةٍ إلهية لمخلوق ، فإنه مبدأ باطل ، لا حَظ له من الحق. وما بُنِيَ على باطل فهو باطل . ولا يمكن أن يتساوى المخلوق مع الخالق ، أو يشاركه في إحدى صفاته . فلا يُعقَل أن يتساوى الكرسي مع النَّجار الذي صَنعه أو يشاركه في خصائصه ، ومن غير المنطقي أن يصبح السيفُ كالحدَّاد الذي صنعه . فالنقلُ والعقلُ متفقان على استحالة تساوي الصانع مع المصنوع . وللهِ المثلُ الأعلى .
     قال الطبري في تفسيره ( 10/ 610 ) : (( يقول تعالى ذِكره : فاخشع لله يا محمد بالطاعة ، وأخلص له الأُلوهة ، وأفرده بالعبادة ، ولا تجعل له في عبادتك إياه شريكاً ، كما فعلت عبدة الأوثان )) اهـ .
     إن وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الناس إلى عبادة الله وحده الذي لا ند له ، ولا شريك له . فلا خالق إلا الله تعالى ، وعلى الخلق أن يتوجهوا إليه وفق طريق التوحيد المستقيم بلا شوائب شِركية مهما كانت صغيرة أو خفية .
     وفي الواقع فإن العربي كان غارقاً في الشِّركيات بفعل علاقته مع الأصنام المنتشرة في البيئة الجاهلية . وقد اخترع أهلُ الأوثان علاقاتٍ بين الأصنام والله تعالى ، فزعموا أنها تُقرِّبهم إلى الله تعالى . مما يشير إلى تغلغل الجاهليِّ في هذه العقلية البدائية الوهمية . وقد جاء الإخلاصُ لانتشال الفرد من عبودية الأشياء ، وتوجيه كل الطاقات البشرية للخضوع لله تعالى بلا شريك . فالإنسانُ لا يكون إلا عبداً . فمن ليس عبداً لله الإلهِ الحق فهو عبدٌ لإله معبود بغير حق. وبالتالي فالإخلاصُ إنقاذٌ للبشر من الوقوع في مستنقع الباطل ، ومسارٌ مضيء لاعتناق الحق ورفض الباطل . وهكذا يلتقي الإنسان بإنسانيته ، ويعرف خالقَه تعالى الذي أوجده من العَدَم وسيُعيده إلى التراب .
     وقال الله تعالى : } فإذا ركبوا في الفُلْك دَعَوُا اللهَ مخلِصِين له الدِّين فلما نجَّاهم إلى البَر إذا هم يشركون { [ العنكبوت : 65] .
     وهذا يشير إلى أن الإنسان في الشدائد يعود إلى الأصل الثابت الكامن في نفسه وهو توحيد الله تعالى . فحينما يوقن الفردُ بالهلاك يتوجه _ بكل جوارحه _ إلى خالقه وَحْدَه . لكنه حينما يشعر بالأمان يعود إلى طبعه الأول وهو الشرك بالله تعالى افتراءً عليه . فالفِطرةُ الإنسانية خاضعة لإلهٍ واحد لا شريك له ، لكن المصالح الشخصية وغياب الهداية وتزيين الشيطان تؤدي إلى الشِّرك .
     والناسُ _ على اختلاف عقائدهم وأجناسهم _ يؤمنون في قرارة أنفسهم بأن هذه الموجودات لها صانع حكيم هو الله تعالى . حتى الملحِدُ يؤمن في قرارة نفسه بوجود الله تعالى لكنه يُكابِر ويُعانِد ويضحك على نفسه بأن يخترع أوهاماً ومبادئ فاسدة . والكلُّ يتوجَّه في الشدائد إلى الله الواحد الأحد المنَزَّه عن الشريك والنِّد . وهنا تتجلى العودةُ إلى الفِطرة ، والنواةِ الإيمانية الأساسية الكامنة في العنصر البشري . فالبشرُ يُدركون عجزَهم وخضوعهم لقوةٍ عليا ، هي قوة الخالق العظيم ، صانعِ الأشياء ، ومُوجِد الحياة بكل تفاصيلها .   
     قال الشوكاني في فتح القدير ( 4/ 301 ) : (( إذا انقطع رجاؤهم من الحياة ، وخافوا الغرق، رجعوا إلى الفِطرة فدعوا اللهَ وحده ، كائنين على صورة المخلِصين له الدين بصدق نياتهم ، وتركهم عند ذلك لدعاء الأصنام ، لعلمهم أنه لا يكشف هذه الشدة العظيمة النازلة بهم غير الله _ سبحانه _ )) اهـ .
     والإخلاصُ والتوحيد يشيران إلى خطورة الشِّرك الأكبر ( المخرج من الملة )، والشركِ الأصغر ( غير المخرج من الملة ) . فالمقارنةُ بين الأضداد تقود إلى فهم أكثر تماسكاً . 
     فعن شداد بن أوس _ رضي الله عنه_ قال : (( كنا نَعُد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرياء الشِّرك الأصغر )) {(1)}.
     والرياءُ أن لا يُقصَد بالعمل وجه الله تعالى ، وهذا محبط للعمل وفق درجات متفاوتة . كما أنه أمر بالغ الخطورة ، لأنه يُفقد العباداتِ معناها الحقيقي عبر توجيهها إلى غير الله تعالى ، كما يُفقد الإنسانَ متعة الإخلاص وحسن أداء الشعائر الدينية ، ويُعرِّض الإنسان لغضب الله في الدارَيْن .
     فينبغي أن تُترَك ملاحظة العمل لا العمل . فعلى المرء أن يسعى بكل جوارحه إلى عبادة الله تعالى دون النظر إلى تعليقات الناس ، أو التوقف عن رأيهم . أي إنه يُقبِل على العمل ويُهمِل ملاحظة العمل التي قد تنشأ في كلام الناس ورؤيتهم له . فمن يَعرف طريقَه لا يلتف أثناءَ سَيْره . فالعابدُ لا يهتم بالأحكام البشرية ، نفياً أو إثباتاً ، سلباً أو إيجاباً ، لأنه لا يرى إلا الله تعالى .
     وفي صحيح مسلم ( 3/ 1513) : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  (( إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رَجل استشهد، فأُتِيَ به فعرَّفه نعمه فعرفها . قال : فما عملت فيها ؟، قال : قاتلتُ فيكَ حتى استشهدتُ . قال : كذبتَ، ولكنك قاتلتَ لأن يقال جريء فقد قيل ، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقيَ في النار. ورجلٌ تعلم العلمَ وعلَّمه وقرأ القرآنَ فأُتِيَ به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال : فما عملتَ فيها ؟ ، قال : تعلمتُ العلمَ وعلَّمْتُه وقرأتُ فيك القرآن. قال : كذبتَ ولكنك تعلمتَ العلم ليقال عالِم، وقرأتَ القرآنَ ليقال هو قارئ فقد قيل ، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقيَ في النار . ورَجلٌ وسَّع اللهُ عليه وأعطاه من أصناف المال كله ، فأُتِيَ به فعرَّفه نعمه فعرفها . قال : فما عملتَ فيها ؟ ، قال : ما تركتُ من سبيل تحب أن يُنفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك . قال : كذبتَ ولكنك فعلتَ ليقال هو جواد فقد قيل ، ثم أُمر به فسُحب على وجهه ثم أُلقيَ في النار )) .
     وهكذا نرى خطورة الرياء ، وانعدامِ الإخلاص لله تعالى . فالمرائي شخصٌ يريد بعمله أن ينال ثناءَ الناس والحظوةَ عندهم . وقد تم مدحه والإطراء عليه ووصفه بالجرأة والعلم والكرم ، لكنه قد أخذ نصيبَه في الدنيا ، وما له في الآخرة من خَلاق .
     فالمقاتِلُ الذي مارس فعل القتال في المعركة بكل بسالة وإقدام كان يقصد نيل مديح الآخرين ، والإعجاب به ، والثناء عليه بأنه شجاعٌ مِقدام ، وجريء لا يخاف الموتَ . فهذا القصدُ الوضيع كان الدافع لعمله ، فلم يُقاتِل لتكون كلمةُ الله هي العليا ، إذ إن هَمَّه محصور في لفت أنظار الناس والحصول على الإطراء منهم .
     ونحن نرى كثيراً من القادة العسكريين الذين يتبخترون أمام وسائل الإعلام مع أنهم لم يُحرِّروا ذبابةً . نراهم وقد امتلأوا فخراً زائفاً ، وبريقاً وهمياً . ويُحبون أن يُحمَدوا بما لم يَفعلوا . وحتى لو قاتلوا فإنهم يُقاتِلون دفاعاً عن الحاكم الفلاني ، أو تعصباً لقومية معينة أو عِرْق محدد أو مذهب سياسي منحرف . وهؤلاء أبعد ما يكونون عن الإخلاص ومعرفةِ القصد الحقيقي وراء التضحية بالنفس التي هي أغلى ما يملكه الإنسان .
     فقبل أن يُضحِّيَ الفرد بنفسه ، عليه أن يسأل ذاته عن سبب التضحية . فإن كان يُقاتِل من أجل الله تعالى فليتقدم واثقاً بالموعود الإلهي ، إما النصر أو الشهادة . أما إن كانت نيته غير ذلك ، فينبغي أن يعيد تقييم الموقف . فالتضحيةُ بالنفس ذهابٌ بلا عودة ، ولا توجد فرصة للتعويض . فلا بد أن يكون هدف التضحية سامياً . ولا يوجد أسمى من الإخلاص لله تعالى كهدف وحيد .
     والذي تعلَّم العلمَ ، وزاحم العلماء في مجالسهم . وقام بقضاء الليالي في الدراسة ، وأعطى الدروس للطلاب ، ونشر العلمَ في كل الاتجاهات . كلُّ ذلك لا فائدة منه إذا كانت النيةُ غير خالصة لله تعالى . فكثيرٌ من طلبة العلم إنما يهدفون لنيل مكانة اجتماعية مرموقة ، وأن يُوَسَّع لهم في المجالس ، ويُوصفوا بالعلماء . فترى الواحد منهم يقضي حياته طالباً للعلم من أجل شهادة ورقية تزيد راتبَه الشهري أو تضمن له ترقية جامعية ، أو منزلة سامية بين أقرانه . فصار العلمُ للأسف من أجل إضافة حرف " د " إلى بداية الاسم . فصار الواحدُ يطلب العلمَ لكي يُوصف بالدكتور أو البروفسور أو العلامة ، فيتصدر المجالس ، ويقتحم عالم اللقاءات التلفزيونية ، ويجلس مع عِلية القوم من السياسيين ورجال الأعمال لتحقيق منافع شخصية لا تمتُّ للحياة العلمية بصلة . وهؤلاء خاب مسعاهم ، ولم يذوقوا حلاوة الإخلاص في طلب العلم ، لأنهم غرقوا في الألقاب العلمية ، فشُغلوا بها عن القيمة الشريفة للعلم . وصدق القائل :
ولم أَقضِ حَقَّ العلم إن كان كُلما              بدا طَمعٌ صَيَّرْتُه لِي سُلَّمـــا
     أما الذي تصدق بأمواله رياءً وسمعة ، وأنفق في دروب الخير ليُقال إنه جواد ومحسن . فإنفاقُه سيكون وبالاً عليه ، لأنه لم يقصد وجهَ الله تعالى ، ولم يعرف حقَّ خالقه الرزاق الذي منحه الأموال فأنفقها للفت انتباه الناس، والحصول على إعجابهم وتقديرهم ، وكَيْل المديح له . وبالتالي فإن نيته الفاسدة سوف تورده المهالك لأنه حصر هَمَّه في أغراض دنيوية بائسة وزائلة ، ولم ينظر إلى النعيم المقيم ، لذلك فقد أخذ نصيبه من الدنيا ، مديحاً زائلاً وإعجاباً مؤقتاً وإطراءاً لا يدوم . وفي الآخرة سيأتي صفر اليدين مأزوراً لا مأجوراً .
     فعلى الإنسان أن يُسقط الناسَ من حساباته ، ليس بمعنى احتقارهم . بل بمعنى الإيمان بأنهم لا يملكون من أمورهم شيئاً ، وليس بيدهم الضر أو النفع . وبالتالي يركِّز جهودَه على تنقية عبادته من أية شائبة رياء معتصماً بالإخلاص في أدق التفاصيل، لأن مديح الناس سرعان ما يذهب أدراج الرياح، إذ إن إرضاءهم غاية لا تُدرَك . وكما قال أحدهم : (( نظرتُ إلى الناس فرأيتُهم موتى فكبَّرتُ عليهم أربع تكبيرات )) .
.............الحاشية...............

{(1)} رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 365 ) برقم ( 7937 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .