09‏/10‏/2015

التهجد وقيام الليل

التهجد وقيام الليل

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

...........................

     إن التهجد {(1)} وقيام الليل دليل باهر على صدق العلاقة بين المخلوق والخالق وتماسكها . ويدل على تجذر الإيمان في نفس العبد الذي استطاع التفوق على شهواته ونزواته ، وضحى براحته في سبيل نيل رضا خالقه تعالى .
     قال الله تعالى : } ومن الليل فتهَجَّدْ به نافلةً لكَ  {[ الإسراء : 79] .
     فقد ألزم اللهُ تعالى رسولَه الكريم صلى الله عليه وسلم بقيام الليل ( شرف المؤمن ) لما في ذلك من مجدٍ ورِفعة للنبي صلى الله عليه وسلم . فصلاةُ الليل تفتح آفاقاً جديدة للعبد الذي يبتعد عن ضجيج النهار ، وصخب الناس ، ويهجر النومَ ، من أجل ملاقاة خالقه تعالى . فالناسُ يغطون في سُبات عميق ، أما هو فيكسر شهوةَ نفسه ، وينقلها إلى عوالم القُرب من الله تعالى . ولا شك أن قيام الليل هو قمةُ الإخلاص وإدارة الظهر لمتاع الدنيا الزائل ، وصدقُ التوجه إلى الخالق العظيم . وكل الصالحين عبر الحقب الزمنية المختلفة كان قيامُ الليل جزءاً أساسياً من حياتهم ، يُجدِّدون به عهدَهم مع الله تعالى . وقيامُ الليل هو العلاقة الصافية بين العبد وربِّه ، والتي لا يَمكن أن يخالطها الرياء .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 3/ 75 ) : (( أمرٌ له بقيام الليل بعد المكتوبة ... فإن التهجد ما كان بعد النوم ... واخْتُلِف في معنى قوله تعالى : } نافلةً لكَ {  ،  فقيل : معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك ، فجعلوا قيام الليل واجباً في حقه دون الأمة . رواه العوفي عن ابن عباس وهو أحد قولي العلماء ، وأحد قولي الشافعي _ رحمه الله _ واختاره ابن جرير . وقيل : إنما جعل قيام الليل في حقه نافلة على الخصوص ، لأنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وغيره من أمته إنما يُكفِّر عنه صلواته النوافلُ )) اهـ .
     إن قيامَ الليل واجبٌ في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك لكي يبقى على اتصال بخالقه تعالى . ففي الليل يخلو كلُّ حبيبٍ بحبيبه ، وأعظمُ حُب هو حب الله تعالى . وأُنس العبد بربِّه تعالى لا يتحقق على الوجه الأكمل إلا في الليل ، لأن النهار وعاء الضجيج والعلاقات الاجتماعية ولهاث الفرد وراء متطلبات الحياة التي لا تنتهي . أمَّا الليل فهو السَّكينة المطْلقة ، وفيه تهدأ الجوارحُ وترتاح من صخب الحياة اليومية، فيصبح القلبُ في أعلى درجات الصفاء ، مستعداً لتلقي التجليات الربانية ، والنفحاتِ الإيمانية. ومَن كان مع الله تعالى لا يحب أن يكون مع غيره ، ومن أَنِسَ بالخالق تعالى لم يأنس بالمخلوقين ، وشعر بالوحشة منهم . ومما لا شك فيه أن قيامَ الليل دليلٌ باهر على محبة العبد لخالقه تعالى ، وهروبه من سراب الدنيا وضوضاءِ الحياة الاستهلاكية إلى حقيقة الإيمان الصافية .
     وفي المستطرف للأبشيهي ( 1/ 19 ) : (( وقيل: أوحى اللهُ تعالى إلى داود _عليه السلام _ : يا داود ،  كَذب من ادَّعى محبتي ،  وإذا جُنَّ عليه الليل نام عني ،  أليس كل محب يحب الخلوة بحبيبه ؟ )) اهـ .
     ويقول عبد الله بن المبارك _ رحمه الله تعالى _ :
إذا ما الليل أظلم كابـدوه           فيسفر عنهم و هم ركـوع
أطار الخوفُ نومَهم فقامـوا          وأهل الأمن في الدنيا هجوع
     فالليلُ هو متعة العابدين الذين يَجدون فيه سعادتهم ، فهم يملؤونه بالعبادة . وقد مَلَكَ قلوبَهم الخوفُ من الله تعالى فطار النومُ من عيونهم ، فقاموا الليلَ لعلمهم بأهمية العبادة من أجل النجاة والخلاص . أمَّا أهلُ الدنيا فهُم غاطسون في غفلتهم وشهواتهم لذلك قضوا حياتهم نائمين . وسوف يَسْتيقظون عندما يَصعقهم الموتُ ، ويَدفعون ثمنَ تفريطهم . فالناسُ نِيامٌ ، وإذا ماتوا انتبهوا .
     وروى الحاكم في المستدرك ( 4/ 360 ) وصحَّحه ووافقه الذهبي أن جبريل _عليه السلام _ قال مخاطِباً النبي صلى الله عليه وسلم : (( يا مُحمَّد ، شَرَفُ المؤمنِ قيامُ الليلِ )) .
     إن قيامَ الليل هو تاريخُ المؤمن وشَرَفه الذي يَعتز به، ولا يسمح بزواله مهما حَدث . فالشرفُ الحقيقي نابع من الإيمان وليس من العلاقات الاجتماعية . وذلك لأن رابطة الدِّين أسمى من كل الروابط. وكلما ازداد الإيمانُ في قلب المرء ازداد شرفاً وسُلطةً _ مهما كانت منزلته الاجتماعية _ أمَّا إذا ابتعد عن الدِّين فقد سَقط في قاع الذل، ولن ينتفع بماله أو رابطةِ الدمِ أو علاقاتِ المصلحة.
     وفي صحيح مسلم ( 2/ 821 ): عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل )) .
     مما يشير إلى أهمية قيام الليل ، وأن يتوجه العبدُ إلى خالقه تعالى حيث لا يراه الناس ولا يشعرون به . وهذا يزرع في النفس الإنسانية الإخلاصَ ، وينقِّيها من أية شائبة رياء . ولا يصل إلى هذه المرحلة إلا العباد الصادقون أصحاب الهمة العالية .
     فقيامُ الليل يدل على الإخلاص الصافي المكتمل . فلا يمكن للمرء أن يقوم في جوف الليل فيتوضأ ويصلي ويضحِّي بشهوة النوم اللذيذة إلا وهو يريد وجهَ الله تعالى ، ولا شيء سواه . وهذا السلوكُ انعكاس للإيمان الراسخ في القلب ، والتصديق بالحساب يوم القيامة .
     قال الله تعالى : } ومن الليل فسَبِّحْه وأدبارَ السجود  {[ ق : 40] .
     فالتسبيحُ في الليل وبعد انتهاء الصلاة يزيد الإيمانَ في القلوب ، ويُبقي القلبَ معلَّقاً بخالقه . فالليلُ هو مركز التأمل الهادئ والفكر العميق الذي لا تشوبه ضوضاء ، فيكونُ فيه التسبيحُ صافياً نابعاً من قلب حاضر غير مشغول بحركة الدنيا وتقلبات المعاش . والتسبيحُ بعد الصلاة إكمال للمسيرة الإيمانية . إذ إن ختم العبادة الجليلة ( الصلاة ) بذكر الله تعالى يدل على أن العبادات متصلة لا تنفصل . فحياةُ المسلم كلها لله تعالى ، لكنَّ العبادات تأخذ أشكالاً مختلفة وأزمنةً متباينة لئلا يُصاب القلب بالسآمة أو الملل .
     فالصلاةُ عبادةٌ فِعْلية وقَوْلية ، أما التسبيح فعبادةٌ قَوْلية ، مما يشير إلى تكاملية العبادات ودورها المركزي في إنقاذ الأفراد والجماعة من أزماتهم الوجودية الخانقة ، وصناعة الكيانات الإنسانية والمجتمعية بشكل متماسك فعال لا يقيم أدنى قطيعة مع العبادة .  
     قال الشوكاني في فتح القدير ( 5/ 114) : (( أي سَبِّحه بعض الليل . وقيل : هي صلاة الليل ، وقيل : ركعتا الفجر، وقيل: صلاة العشاء. والأول أولى .} وأدبارَ السجود{ أي : وسبِّحه أعقاب الصلوات )) اهـ .
     وهذا الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بالتسبيح في أوقات مخصوصة هو أمرٌ لعموم الأمة ، وذلك يدفع باتجاه تقوية العلاقة بين العبد وربه تعالى ، فيظل العبدُ على اتصال بخالقه ، يذكره دون ملل ، ويقوم بمسؤولية العبادة على أكمل وجه .
     قال الله تعالى: } كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون (17) وبالأسحار هم يستغفرون (18)  {[الذاريات ].
     وهاتان الآيتان توضحان صفتَيْن عظيمتين من صفات المؤمنين الصادقين ، وتشتملان على مدح لهم لتثبيتهم ورفع معنوياتهم وتشجيعهم على مواصلة العبادة .
     فالصفةُ الأولى تشير إلى سهر المؤمنين الصادقين في طاعة الله تعالى ، وتضحيتهم بساعات نومهم من أجل إعطاء العبادة حقها. فقد (( كانوا قليلاً من الليل هجوعهم ...وصفهم بذلك مدحاً لهم ، وأثنى عليهم به فوصفهم بكثرة العمل ، وسهر الليل ومكابدته فيما يقربهم منه ويرضيه عنهم )){(2)}.
     وقد ورد أكثر من تفسير للآية الشريفة : } كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون  {.
     فعن أنس _ رضي الله عنه _ قال : (( كانوا يصلون بين العشاء والمغرب )){(3)}.
     أي إنهم حريصون على الصلاة لأنها العلاقة المقدَّسة بين المخلوق والخالق ، والرابطة الوثيقة بين الأرض والسماء. لذلك هم يملؤون أوقاتهم بالصلاة، ولا يُضيِّعون أوقاتهم في اللهو والعبث. فالمؤمنُ وقتُه ثمين ، ويستغل كلَّ لحظة في طاعة الله تعالى ، ولا يوجد في عُمره وقت فراغ ، لأن الفراغ أكبر مفسدة . ونَفْسُك إن لم تشغلها بالحق شَغَلَتْكَ بالباطل . وكما قال الشاعر :
إِن الشبابَ والفراغَ والجِدَةْ           مفسدةٌ للمرءِ أِيُّ مفسـدةْ
     وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:((لا يمر بهم ليلة ينامون حتى يصبحوا يُصلون فيها)){(4) }.
     إن وقتَ المؤمن حلقة متصلة من العبادات ، وإعمار الأرض ، ونشر الخير . فالليلُ والنهار هما ساحة العبادة. والعبادةُ مفهومٌ شامل لكل ما يحبُّه الله تعالى ويرضاه. وفي واقع الأمر، لا توجد _ في حياة المؤمن _ أفعال دنيوية وأفعال دينية ، لأن الدنيا مزرعة الآخرة . فالمؤمنُ فارسٌ في النهار ، راهبٌ في الليل ، يُحوِّل جميعَ أفعاله إلى عبادات ، وذلك بجعل النيةَ خالصةً لوجه الله تعالى .
     أما الصفة الثانية فهي الاستغفار في الأسحار ( جمع سَحَر ، وهو وقت ما قبل الفجر ) . وهذه الأوقاتُ العظيمة يرجى فيها استجابة الدعاء . كما تدل على إخلاص المؤمن وحرصه على العبادة في وقت يكون فيه الناس نائمين ، أما هو فمستيقظ لأداء العبادة المقدَّسة ، متفوِّقاً على شهواته الطينية ، والنزعةِ الإنسانية نحو الراحة . وعلى قَدْر المشقة يكون الأجرُ . كما ينبغي للمؤمن أن يختار الأوقات المبارَكة والأزمنة الشريفة لأداء عباداته لكي تكون أشد تأثيراً في النفس البشرية ، وأدعى للقبول .
     فعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ، يقول : من يدعوني فأستجيب له ،  من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له )){(5)}.
     واللهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الحركة والانتقال من مكان إلى مكان . فالمعنى أن الله تعالى قريبٌ من العبد تتنزل رحمته في هذا الوقت الفضيل . فيقول تعالى : (( من يدعوني فأستجيب له )) وهو غنيٌّ عن العالَمين . لكنَّ اللهَ تعالى يُذكِّر عبادَه بأهمية الدعاء ، ويعدهم بالاستجابة لهم ، مع أنه _ سبحانه _ لا يحتاجهم ، بل هم يحتاجونه . فالدعاءُ مخُّ العبادة ، وتتزايد أهميته في هذا الوقت العظيم آخر الليل. ويقول تعالى : (( من يسألني فأعطيه )) . فاللهُ تعالى لا تنفد خزائنه ، وهو ينفق في الليل والنهار فلم يُصب بالفقر أو التعب . والإنسانُ العادي يغضب إذا سألتَه ، أما الخالق العظيم فيغضب إذا لم تسأله . فلا شيء يُعجزه ، وكلُّ شيء خاضع له ، فيُعطي كلَّ صاحب مسألة مسألته دون أن يَنقص من مُلْكه شيء. ويقول تعالى : (( من يستغفرني فأغفر له )). فكلُّ الذنوب _ مهما بلغ حجمها وعَظُمَ أمرها _ هي أصغر من الرحمة الإلهية التي وسعت كلَّ شيء . والكبائرُ مثل الصغائر في المغفرة . فالمغفرةُ الإلهية أعظم من أن تُحصَر في صغيرة أو كبيرة . فالعفو الإلهي قرارٌ رباني لا يخضع لحجم الإثم . إنه محضُ فضل من الخالق _ سبحانه _ .
..........الحاشية............
{(1)} قال ابن منظور في لسان العرب ( 3/ 431 ) : (( وتَهَجَّدَ القوم استيقظوا للصلاة أَو غيرها ... الجوهري : هَجَدَ وتهَجَّدَ أَي نام ليلاً ، وهَجَدَ وتَهَجَّدَ أَي سَهِرَ ، وهو من الأَضدادِ . ومنه قيل لصلاة الليل التَّهَجُّد ، والتهْجِيدُ التَّنْويمُ ... قال الأَزهري : والمعروف في كلام العرب أَن الهاجد هو النائم ، وهَجَدَ هُجوداً إِذا نام ، وأَما الْمُتَهَجِّدُ فهو القائم إِلى الصلاة من النوم ، وكأَنه قيل له مُتَهَجِّد لإِلقائه الهُجُود عن نفسه )) .
{(2)} تفسير الطبري ( 11/ 451 ) .
{(3)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 507 ) برقم ( 3737 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .
{(4)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 507 ) برقم ( 3738 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .
وفي فتح الباري ( 3/ 29 ) : (( زاد الأصيلي أي ينامون. وقد ذكر الطبري وغيره الخلاف عن أهل التفسير في ذلك  . ونقل عن قتادة ومجاهد وغيرهما أن معناه : كانوا لا ينامون ليلة حتى الصباح لا يتهجدون ... عن ابن عباس قال: معناه لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئاً  ... ورجَّح الأول ، لأن الله تعالى وصفهم بذلك مادحاً لهم بكثرة العمل. قال ابن التين : وعلى هذا تكون ما زائدة أو مصدرية وهو أبين الأقوال وأقعدها بكلام أهل اللغة. وعلى الآخر تكون ما نافية )) اهـ .
{(5)} متفق عليه . البخاري ( 1/ 384 ) برقم ( 1094) ، ومسلم ( 1/ 521 ) برقم ( 758) .

وقال ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه ( ص 194و196) : (( وقد روى حديث النزول عشرون صحابياً ، وقد سبق القول أنه يستحيل على الله _ عز وجل _ الحركة والنُّقْلة والتغير ... والواجب على الخلق اعتقاد التنزيه ، وامتناع تجويز النُّقْلة  ، وأن النزول الذي هو انتقال من مكان إلى مكان يفتقر إلى ثلاثة أجسام : جسم عالٍ، وهو مكان الساكن، وجسم سافل ، وجسم ينتقل من علو إلى أسفل ، وهذا لا يجوز على الله تعالى قطعاً . فإن قال العامي : فما الذي أراد بالنزول ؟، قيل: أراد به معنى يليق بجلاله لا يلزمك التفتيش عنه ، فإن قال : كيف حدَّث بما لا أفهمه ؟ ،قلنا: قد علمتَ أن النازل إليك قريب منك ، فاقتنع بالقرب ولا تظنه كقرب الأجسام )) اهـ .