11‏/11‏/2015

الإيمان والإسلام ومثال الإيمان

الإيمان والإسلام ومثال الإيمان

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

...............................

     قال الله تعالى : } قالت الأعرابُ آمنَّا قُل لم تؤمنوا ولكن قولوا أَسْلَمْنا ولَمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم {    [ الحجرات : 14] .
     إن الآية السابقة تشير إلى وجود فرق بين الإيمان والإسلام . وهذه مسألة مشهورة عند أهل العلم . فهؤلاء الأعراب الذين ادعوا الإيمانَ لم يصلوا إلى هذه الرتبة ، فجاء الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : } لم تؤمنوا {، أي لم تصلوا إلى منزلة المؤمنين، ولم تنالوا رتبةَ الإيمان . } ولكن قولوا أَسْلَمْنا { . ولَمَّا تدخل شعائر الإيمان وحقيقته في قلوبكم . فالإسلام قولٌ ، أما الإيمان فقولٌ وعمل . وهذا يشير إلى أن الإيمان مكانة مميزة أخص من الإسلام .
     وفي حديث جبريل الشهير في صحيح مسلم ( 1/ 36 ) : أن النبي صلى الله عليه وسلم عرَّف الإسلامَ بقوله : (( أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً )) ، ثم انتقل إلى تعريف الإيمان فقال صلى الله عليه وسلم : (( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره )) ، ثم انتقل إلى تعريف الإحسان فقال صلى الله عليه وسلم : (( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )) .
     أي إن النبي صلى الله عليه وسلم انتقل من العام ( الإسلام ) إلى الخاص( الإيمان ) إلى الأخص( الإحسان)، وفرَّق بين هذه المفاهيم الثلاثة في التعريف . مما يدل _ بلا ريب _ على اختلاف معنى الإسلام عن معنى الإيمان.
     وعن سعد بن أبي وقاص _ رضي الله عنه _ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطاً وسعد جالس، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجلاً هو أعجبهم إلَيَّ، فقلتُ: يا رسول الله، ما لك عن فلان ؟ ، فوالله إني لأراه مؤمناً ، فقال : (( أو مسلماً )){(1)}.
     (( فليس فيه إنكار كَوْنه مؤمناً ، بل معناه : النهي عن القطع بالإيمان ، وإن لفظة الإسلام أولى به ، فإن الإسلام معلوم بحكم الظاهر ، وأما الإيمان فباطن لا يعلمه إلا الله تعالى )){(2)}.
     وهكذا نرى أن فرقاً جوهرياً بين الإسلام والإيمان . فكل من نطق الشهادتين يُحكَم عليه بالإسلام ، ويصبح معصومَ الدم ، بغض النظر عن صدقه أو كذبه ، وتُجرَى عليه الأحكام حسب ظاهره ، وحسابه عند الله تعالى الذي يعلم الباطنَ .
     أما الإيمان فباطنٌ مكانه القلب لا سبيل لمخلوق للاطلاع عليه لأنه مخفي عن عيون الناس ، ولا يعلم حقيقته إلا الله تعالى الذي يحاسب الناس ، ليس بالنظر إلى صورهم ، بل إلى قلوبهم .
مثال الإيمان :
     لقد ضرب اللهُ تعالى مثلاً باهراً للإيمان ، حيث امرأتان في منتهى الإيمان والطهارة ، تجذر في قلبَيْهما حب الله تعالى والالتزام بأوامره . وفي ذلك تكريمٌ خصوصي للمرأة ، حيث ذُكرت في القرآن ، وصارت مثلاً سامياً للإخلاص يتردد اسمها حتى يوم القيامة .
     ولا يوجد أعظم من هذا التكريم الذي يرد على كل أولئك الذين يرمون الإسلامَ بتهمة احتقار المرأة ، وهم لا يملكون أية دليل . بل إن الأدلة الشرعية متضافرة على تكريم الإسلام للإنسان عموماً ، والمرأة خصوصاً .
     قال الله تعالى :} وضربَ اللهُ مثلاً للذين آمنوا امرأةَ فِرْعَوْن إذْ قالتْ ربِّ ابْنِ لي عندكَ بيتاً في الجنَّة ونجِّني من فرعون وعمله ونجِّني من القوم الظالمين { [ التحريم : 11] .
     فامرأةُ فرعون وهي آسيا بنت مزاحم كانت مؤمنةً بموسى صلى الله عليه وسلم ورسالته ، ولم يُؤثِّر عليها كَوْنها زوجةً لفرعون اللعين ، لأن الإيمان قد تجذر في قلبها، فدينها متماسكٌ، وطهارتها في الأوج، وصلتها بالله تعالى وثيقة ، فهي تدعوه ، وتتوجه إليه .
     وهذا المثال الإيماني الباهر يُعتبر قدوةً عظمى ليس للنساء فحسْب ، بل أيضاً للرجال . فهذه المرأة عانت من كفر زوجها وظلمه ، لكنها بقيت متماسكةً راسخة الإيمان رغم ضعف الأنثى . إذ إن علاقتها المتينة مع خالقها تعالى جعلتْ منها قرآناً يُتلى حتى يوم القيامة ، وأنموذجاً خالد الذكر ، وقدوةً تُحتذى في كل العالم . إنها مثال لشحذ الهمم وحث النفوس على الصبر في طريق الإيمان ، والثباتِ على الحق مهما كانت المعاناة والأزمات والتهديد والعذاب . 
     وفي هذا المثل الرباني العظيم دروس جليلةٌ منها : إن مخالطة الكافرين لا تضر إذا وُجدت ضرورة لذلك . وإن اللهَ تعالى لا يؤاخذ شخصاً بذنب آخر ، فامرأةُ فرعون كانت زوجةً لفرعون إمامِ الكافرين ، فلم تتأثر ، لأنها كانت مؤمنة متمسكة بعلاقتها مع الله تعالى .
     (( ومن فضائل آسية امرأة فرعون أنها اختارت القتل على المُلْك ، والعذاب في الدنيا على النعيم الذي كانت فيه . وكانت فراستها في موسى _ عليه السلام _ صادقة ، حين قالت :} قُرَّةُ عَيْنٍ لي { [ القَصَص : 9] )){(3)}.
     أما دعاءُ آسيا _ رضي الله عنها : } ربِّ ابْنِ لي عندكَ بيتاً في الجنَّة { ، فيدل على كمال عقلها ، وقوةِ إيمانها ، لأنها قدَّمت ذكر الله تعالى على البيت فلم تقل : ابن لي بيتاً في الجنة عندكَ ، وإنما قالت : } ابْنِ لي عندكَ بيتاً في الجنَّة { ، أي قريب من رحمتك ، أو في أعلى درجات الجنة ، فاللهُ تعالى مُنَزَّه عن المكان ، فلا يحل في الأشياء ، ولا تحل الأشياء فيه .
     وعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ : أن فرعون أوتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها ، فكان إذا تفرقوا عنها ظَلَّلَتْها الملائكة فقالت : } ربِّ ابْنِ لي عندكَ بيتاً في الجنَّة ونجِّني من فرعون وعمله ونجِّني من القوم الظالمين { ، فكُشف لها عن بيتها في الجنة{(4)}.
     وهذا يشير إلى شدة العذاب الذي لقيته السيدة آسيا _ رضي الله عنه _ ، وقوةِ تحملها وصبرها على الألم في سبيل الله تعالى الذي أكرمها بأن جعل الملائكة تظلِّلها كرامةً لها . مما يدل على وصولها إلى رتبة إيمانية سامية نالتها بفعل ثبوتها على طاعة الله تعالى في أحلك الظروف ، وأشد الأزمات النفسية والجسدية . وقد صارت مضربَ المثل في الصبر على الطاعة وقوةِ التحمل . فأضحت _ بذلك _ قدوةً للرجال والنساء على السواء . وقد أكرمها اللهُ تعالى بأن جعلها قرآناً يُتلى آناء الليل وأطراف النهار .
     وصدق الشاعر إذ يقول :
ولو كان النساء كمثل  هذي           لفُضِّلت النساءُ على الرجال

     وقد وردت بعض الأوصاف لطريقة تعذيبها ، وقوةِ صبرها على الشدائد الجسيمة .
     فعن عبد الله بن مسعود _ رضي الله عنه _ قال : (( وتَّد فرعون لامرأته أربعة أوتاد ، ثم جعل على ظهرها رحىً عظيماً حتى ماتت )){(5)}.
     وعن سلمان _ رضي الله عنه _ قال : (( كانت امرأة فرعون تُعَذَّب بالشمس )){(6)}.
     وما دعاؤها الله تعالى بأن ينجِّيها من فرعون وعمله والقوم الظالمين إلا مؤشر بالغ على رفضها للكافرين وأعمالهم الشريرة بكل أشكالها ، وهذا يعكس حرصها على الإيمان والتمسك به حتى اللحظة الأخيرة .
     وهناك مثلٌ إيماني باهر يتجاوز مثال السيدة آسيا بنت مزاحم _ رضي الله عنها _ ، وهو السيدة مريم الصِّديقة _ رضي الله عنها _ .
     قال الله تعالى : } ومريمَ ابنةَ عِمْران التي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فيه من روحنا وصدَّقتْ بكلمات ربِّها وكتبه وكانت من القانتين { [ التحريم : 12] .
     إن هذا الكلام الإلهي المقدَّس مديحٌ رباني للسيدة مريم _ رضي الله عنها _ ، حيث أثبت القرآنُ طهارتها وإحصانها لفَرْجها، أي إنها حفظته من الشبهات والشكوك والفجور ، وحافظت على ورعها وطهارتها وشرفها . لا كما زعم اليهود بأنها زانية ، وأن المسيح ابن زنا . فهي الطاهرةُ النقية التي لا تتسلل الريبةُ إلى سلوكها .
     وقد أكرمها اللهُ تعالى بأن جعلها تحبل بالنبي عيسى صلى الله عليه وسلم من غير زَوْج . وذلك عن طريق الْمَلَك جبريل _ عليه السلام _ الذي نفخ في فتحة جَيْبها فحبلتْ .
     وقد شهد اللهُ تعالى بأن مريم صِدِّيقة في قوله : } وصدَّقتْ بكلمات ربِّها وكتبه { ، أي آمنتْ بقَدَر الله تعالى وشرعه وكتبه السماوية . وفي هذا إشارة بليغة إلى علم السيدة مريم بالكتب السماوية وقراءتها لهذه الكتب. فلا يُعقَل أن تؤمن بشيء تجهله . وهذا غير مستغرب ، فهي العالِمة التقية الطاهرة التي اختارها اللهُ تعالى على نساء العالَمِين . وهي القانتة العابدة لخالقها ، والمطيعة له، والملتزمة بأوامره ، والمجتنبة لنواهيه .
     وهكذا نجد أن الله تعالى قد كرَّم المرأة كامرأة ، وذكر امرأتين عابدتَيْن ، وجعلهما مثلاً خالداً للإيمان الذي لا يهتز أمام الأزمات .
     وعن أبي موسى الأشعري _رضي الله عنه_ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( كَمُلَ من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون )){(7)}.
     وقد أثبت النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكمال لمريم وآسيا _ رضي الله عنهما _ ، وهذا يعني وصولهما إلى رتبة الولاية العظمى ، ومنتهى الفضائل والأخلاق الطيبة ، وقمةِ الطهارة .
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما_ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد،ومريم بنت عمران،وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون)){(8)}.
     وبالطبع ، فهؤلاء النساءُ العظيمات لم يصلن إلى هذه المكانة السامية إلا بالإيمان بالله تعالى ، والصبر على الشدائد، والتحلي بالأخلاق الفاضلة . وهُنَّ بذلك يُعطينَ القدوةَ الحسنة لباقي النساء من بعدهن . والمرأةُ الحريصة على رضا الله تعالى تقتفي آثارهن وتتشبَّه بهن ، بدلاً من التشبه بالممثلات والمطربات في الشرق والغرب .
..........الحاشية................
{(1)} متفق عليه . البخاري ( 1/ 18) برقم ( 27) ، ومسلم ( 1/ 132 ) برقم ( 150 ) .
{(2)} شرح النووي على صحيح مسلم ( 2/ 181 ) .
{(3)} فتح الباري لابن حجر ( 6/ 448 ) .
{(4)} رواه أبو يعلى ( 11/ 316 ) برقم (6431 ) . وقال الهيثمي في المجمع ( 9/ 350 ) : (( ورجاله رجال الصحيح )) . وقال السيوطي في الدر المنثور ( 8/ 229 ) : أخرجه أبو يعلى والبيهقي بسند صحيح .
{(5)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 568 ) برقم ( 3929 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .
{(6)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 538 ) برقم ( 3834 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .
{(7)} متفق عليه. البخاري ( 5/ 2067 ) برقم ( 5102 )،ومسلم ( 4/ 1886 ) برقم ( 2431).

{(8)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 539 ) برقم ( 3836 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .