03‏/01‏/2016

حقيقة القرآن والرد على الجاحدين

حقيقة القرآن والرد على الجاحدين

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

https://www.facebook.com/abuawwad1982

.....................

  قال الله تعالى : } أفلا يتدبَّرون القرآنَ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً { [ النساء : 82] .
     فالقرآنُ هو كلام الله، لا يمكن الوقوف على عظمته إلا بفهم معانيه والغوص في دلالات آياته. ولو كان القرآنُ من تأليف بَشر كما يزعم الكافرون لوجدوا فيه تناقضاتٍ شديدة ، وخليطاً من الحق والباطل ، وأخباراً متضاربة . ولكنَّ القرآن _ لأنه من عند الله _ مُنَزَّهٌ عن الخطأ والتناقض والكذب. كما أن كلام البشر إذا طال سيضعف مستواه اللغوي والفكري ، أما القرآنُ فليس فيه إلا البلاغة والبيان سواءٌ كانت السورة طويلة أم قصيرة . وكلُّ آياتِ القرآن يُصَدِّق بعضُها بعضاً ولا يَهدم بعضُها بعضاً . كما أن القرآن خالٍ من الاختلاف والتعارض .
     (( ولا يدخل في هذا اختلاف مقادير الآيات والسُّوَر ، لأن المراد اختلاف التناقض والتفاوت وعدم المطابقة للواقع ، وهذا شأن كلام البشر ، لا سيما إذا طال وتعرض قائله للإخبار بالغيب فإنه لا يوجد منه صحيحاً مطابقاً للواقع إلا القليل النادر )) {(1)}.
     فالقرآنُ الكريم تختلف سُوره وآياته في مقدارها والمواضيعِ التي تتحدث عنها ، والأحكامِ الواردة ، وهذا كلُّه لا علاقة له بالتناقض . إنما هو دليل إعجاز القرآن وتلائمه مع كل زمان ومكان رغم ما فيهما من متغيرات وأحوالٍ مستجدَّة واختلافِ طبائع الناس وأجناسهم وبيئاتهم . والقرآنُ الذي قَدَّم الحلولَ النافعة للبشرية لأكثر من أربعة عشر قرناً ، قادرٌ أن يُقدِّم الحلولَ حتى يوم القيامة . فهو الكتابُ الإلهي الكامل المعصوم المحفوظ الخالي من التناقض والأخطاء . وإذا اعتمده المسلمون دستوراً حياتياً واقعياً فإن حياتهم ستتغير للأفضل كما تغيرت حياة أسلافهم ، ولن تَصلح هذه الأُمَّةُ إلا بما صَلح به أوَّلها .
     وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ... وإنما نزل كتابُ الله يُصَدِّق بعضُه بعضاً ، فلا تُكذِّبوا بعضَه ببعض، فما علمتُم منه فقولوا ، وما جهلتُم فكلوه إلى عالمه )){(2)}.
     وفي صحيح مسلم ( 4/ 2053 ) : أن عبد الله بن عمرو _ رضي الله عنه _ قال : هَجَّرْتُ _ أي بَكَّرْتُ_ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً . قال : فسمع أصوات رَجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعرَف في وجهه الغضب،فقال: (( إنما هَلَكَ مَن كان قبلكم باختلافهم في الكتاب)).
     وهذا الاختلاف المحذور هو الاختلاف في الأصول التي لا تَقبل النقاش ، ولا تقبل الاجتهادَ بسبب كَوْنها ثوابت غير مطروحة للحوار ، ويشمل الحظرُ الاختلاف المؤدي إلى الفتن وتشكيكِ الناس في دينهم ، وتأجيجِ العداوات بينهم . أما الاختلاف في تفسير بعض الآيات ظَنِّية الدلالة فهذا لا يدخل في باب الاختلاف في الكتاب. فالأفهامُ تتفاوت ولا بد أن تختلف ، ولكن الاختلاف يكون في استنتاج الفروع من الأصول ، ولا يكون الاختلاف على الأصول .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 218 ) : (( وأما الاختلاف في استنباط فروع الدِّين منه _ أي من القرآن _ ، ومناظرة أهل العلم في ذلك على سبيل الفائدة ، وإظهار الحق واختلافهم في ذلك فليس منهياً عنه ، بل هو مأمور به وفضيلة ظاهرة . وقد أجمع المسلمون على هذا من عهد الصحابة إلى الآن ، والله أعلم )) اهـ .
     وقال الله تعالى : } لو أَنزلنا هذا القرآنَ على جبلٍ لرأيتَه خاشعاً مُتصدِّعاً من خشية الله { [ الحشْر: 21].
     فالقرآنُ العظيم لو أُنزِل على جبل _ رغم قسوته وضخامة حجمه _ لاهتزَّ وتصدَّع وصار ذليلاً خاضعاً لكلام الله تعالى لما فيه من الحكمِ البليغة ، والفصاحةِ العظمى ، والبيانِ الجليل ، والبشارةِ الكبرى ، والإنذارِ المخيف ، وخوفاً من عدم القيام بحق القرآن المتمثل في فهمه وتعظيمه وتطبيقه. فعلى المرء أن يستوعب هذا المعنى العظيم من أجل تعميق كتاب الله في قلبه فهماً وحفظاً، ويسعى _ قدر المستطاع _ إلى جعل الآيات القرآنية واقعاً عملياً لا حِبراً على الورق فحسب ، فالقرآن لم يجيء ليوضع على الرفوف .
     وقال الطبري في تفسيره ( 12/ 51) : (( يقول _ جَلَّ ثناؤه _ : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل وهو حجر لرأيته يا محمد خاشعاً ، يقول : متذلِّلاً متصدِّعاً من خشية الله على قساوته حذراً من أن لا يؤديَ حَقَّ الله المفترَض عليه في تعظيم القرآن ، وقد أُنزل على ابن آدم ، وهو بحقه مستخف ، وعنه عما فيه من العِبر والذِّكر مُعرِض ، كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً )) اهـ .
     وقال الله تعالى : } ولقد يَسَّرْنا القرآنَ للذِّكْر {[ القمر : 17] .
     فالقرآنُ تم تيسيره للحفظ والفهم والتطبيق الواقعي دون تعقيدات . فهو مقروءٌ في الكتب ، ومحفوظٌ في الصدور ، ومنتشرٌ بسهولة على الألسنة .
     وفي الحديث القُدسي الذي رواه مسلم( 4/ 2197 ): أن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم :     (( وأَنزلتُ عليكَ كتاباً لا يغسله الماءُ تقرأه نائماً ويقظان )) .
     والمعنى : إن القرآن الكريم محفوظٌ في السطور والصدور على مر الأزمنة، لا يمكن إزالته أو استئصاله أو التلاعب به ، وقراءته مُيَسَّرةٌ وسهلة في كل الأوضاع .
     وقال الله تعالى : } نزَّل عَلَيْكَ الكتابَ بالحق مُصدِّقاً لما بين يَدَيْه وأَنزل التوراةَ والإنجيلَ {  [ آل عمران : 3] .
     فاللهُ تعالى نزَّل القرآنَ الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم بالحق والعدل والصدق وبالحجج الساطعة مُصَدِّقاً للكتب السابقة التي أنزلها اللهُ تعالى كالتوراة والإنجيل . وفي هذه الآية إشارةٌ إلى أن مصدر الكتب السماوية واحدٌ ، وأن الأنبياء كلهم يدٌ واحدة جاؤوا بالتوحيد بأمر الله تعالى الذي أرسلهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور . كما أن هناك إشارة بليغة إلى صدق الرسالة المحمَّدية الإسلامية . فلو كان القرآنُ من تأليف إنسان يسعى لنيل مصالح دنيوية لما ذَكر التوراةَ والإنجيل خوفاً من تفرق أتباعه عنه . لكن النبي صلى الله عليه وسلم الأمين يُبَلِّغ كلامَ الله تعالى كما أُنزِل دون زيادة أو نقصان ، فقد جاء مُصَدِّقاً لموسى وعيسى       _ عليهما الصلاة والسلام _ ، ولم يطمسهما أو يتجاهل ذكرهما أو يحاول رفع مكانته عبر الانتقاص منهما، كما يفعل الكثير من المؤلِّفين الذين يطمحون إلى رفع منازلهم عبر التهجم على منافِسيهم . مما يشير إلى أن القرآن ليس من كلام المؤلِّفين المتنافِسين على حطام الدنيا ، كما يشير إلى إخلاص النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ الكلام الإلهي حرفياً .
3_ محاججة المنكِرين الجاحدين :
     إن الله تعالى قد أقام الْحُجَّةَ على خلقه بإنزاله الكتب السماوية على رُسُله الكرام_عليهم الصلاة والسلام_. والقرآنُ الكريم هو الكتاب الخاتَم الناسخ لما قبله، وقد وردت فيه آياتٌ كثيرة في محاججة المنكِرين، والرد عليهم ، ودحضِ باطلهم ، وتفنيدِ شبهاتهم . وهذه الآيات تخاطب العقلَ بما يَمكن إدراكه. فاللغةُ القرآنية في الرد على المخالِفين لغةٌ راقية تُقَدِّم الدلائلَ الواضحات، وليست لغةً فلسفية محصورة في عالم الأخيلة والافتراضات اللامنطقية ، كما أن المنهج القرآني في دحض شبهات المخالِفين ليس سِباباً أو صراخاً أو جعجعةً بلا طحن . إنه منهجٌ إلهي متكاملٌ يملك الْحُجَّةَ الناصعة ، ومشتملٌ على معرفة النفس البشرية وما يصلحها وما يفسدها . فاللهُ تعالى مُنْزِلُ القرآن هو خالق الإنسان وأعلم به منه ، ويعلم _ سبحانه وتعالى _ طريقةَ تفكير البشر ، وطبيعةَ شهواتهم وشبهاتهم ووساوسهم .
     وقد أورد القرآنُ شبهاتِ الخصوم وفَنَّدها ، وقَدَّم الدلائلَ الباهرة على وحدانية الخالق تعالى وصدقِ الرسالة ، وكل هذا بلغة قرآنية سامية تعلو ولا يُعلَى عليها .
     وقد تحدى اللهُ تعالى المرتابين في القرآن والشَّاكين فيه أن يأتوا بسورة من مثله ، لكنهم عجزوا عن ذلك . وهذا التحدي مستمرٌ حتى يوم القيامة .
     قال الله تعالى : } وإن كُنتم في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شُهداءكم من دون الله إن كُنتم صادقين {[ البقرة : 23] .
     وهذا التحدي للمشركين الطاعنين في القرآن الكريم أن يأتوا بسورة من مثله في حسن النظم ، والفصاحةِ اللغوية ، والبيانِ الباهر ، ويستعينوا على هذا الأمر بأعوانهم وفصحائهم وآلهتهم من دون الله تعالى .
     ولو كان المشركون الطاعنون في القرآن صادقين في دعواهم لقدَّموا براهينهم التي تَدحض حُجَّةَ القرآن الباهرة . وبما أنهم لم يَفعلوا ولن يَفعلوا ، فهذا مؤشر على عجزهم ، وانكسارهم أمام البرهان القرآني الساطع ، وما عليهم إلا التسليم بأن مصدر القرآن هو السماء لو كانوا يريدون الحق بلا أهواء شخصية .
     ولا يخفى أن العرب هُم أهل الفصاحة والبيان والتبحر في اللغة العربية وأسرارها ، فإن عجزوا عن تحدي القرآن، فغيرهم _ بالتأكيد_ سيكونون أكثر عجزاً . فإذا فشل القويُّ في إتمام عملٍ ما ، فلن ينجح فيه الضعيف .
     وقال الطبري في تفسيره ( 1/ 200) : (( وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفار من أهل الكتابَيْن في شك _ وهو الرَّيب _، مما نَزَّلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان : أنه من عندي ، وأني الذي أنزلته إليه ، فلم تؤمنوا به ، ولم تصدِّقوه فيما يقول ، فأتوا بحجَّة تدفع حُجَّته ، لأنكم تعلمون أن حجة كل ذي نبوة على صدقه في دعواه النبوة : أن يأتيَ ببرهان يعجز عن أن يأتيَ بمثله جميع الخلق ، ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه ، وبرهانه على حقيقة نبوته وأن ما جاء به من عندي ، عجز جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله ، وإذا عجزتم عن ذلك وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والذرابة _ حدة اللسان _ فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز )) اهـ .
     قال الله تعالى : } ويقول الإنسانُ أإذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخرَج حَيَّاً ( 66) أولا يذكر الإنسانُ أنَّا خلقناه من قبل ولم يَكُ شيئاً ( 67 ) { [ سورة مريم ] .
     ويُقدِّم القرآنُ الْحُجَّةَ الساطعة على حقيقة البعث. فالإنسان الذي يتساءل مستنكِراً ومستبعِداً أن يُبعَث بعد موته ، جاءته الْحُجَّةُ الباهرة بأن الذي أوجد الإنسانَ من العَدَم قادرٌ على إعادته .
     (( قال بعض العلماء: لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حُجَّة في البعث على هذا الاختصار لما قدروا عليها، إذ لا شك أن الإعادة ثانياً أهون من الإيجاد أولاً )) {(3)}.
     وفي صحيح البخاري ( 4/ 1903 ) : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( قال اللهُ : كَذَّبَني ابنُ آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمَّا تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أولُ الخلق بأهون عليَّ من إعادته ... )) .
     فالبعثُ ثابتٌ نقلاً وعقلاً . وقد خاطب اللهُ تعالى الناسَ بما يَعقلون، فذكر _ سبحانه _ أن البعث أهون وأيسر من بدء الخلق _ وفق التفكير الإنساني _ . أمَّا اللهُ تعالى فكل شيء عنده هَيِّنٌ فلا يعجزه شيء ، ولا تتفوق على قدرته _ سبحانه _ أية قدرة . فالبداءةُ والبعثُ أمران خاضعان لقضاء الله تعالى ومشيئته . } وإذا قَضى أَمراً فإنما يقول له كُن فَيَكون { .
     وقال الله تعالى : } وقالوا لولا أُنزِل عليه مَلَكٌ ولو أَنزلنا مَلَكاً لَقُضِيَ الأمرُ ثم لا يُنظَرون {  [ الأنعام : 8] .
     ويخبر اللهُ تعالى عن عناد المشركين وجهلهم ، فقد اقترحوا _ بكل جحود _ إنزال مَلَك على النبي صلى الله عليه وسلم ليكون معه نذيراً ومُسانِداً . وهذا مما يتذرع به المشركون ، حيث يخترعون الأشياءَ من بنات أفكارهم بسبب عجزهم عن مقارعة الْحُجَّة بالْحُجَّة . فينتهجون هذا الأسلوب العقيم الذي يُنبئ عن جهل وعناد وفكرة مسبقة رافضة للإيمان مهما حصل من معجزات. لذلك تراهم يبحثون عن أمور غير منطقية ، ويحاولون إلباسها ثوب المنطق ومقارعة الدليل بالدليل .
     لكنَّ الرد الإلهي لا يتأخر في دحض باطلهم ، فلو أُنزِل مَلَكٌ لما أطاقوا رؤيته لعظمته وهَيْبته ومنظره العظيم، أو أن العذاب سيأتيهم عاجلاً بلا تأخر ، وعندئذ لا يُمهَلون ، ولا يُمنَحون فرصةً للتوبة .
     وفي زاد المسير ( 3/ 8) : (( قال مقاتل : نزلت _ أي الآية _ في النضر بن الحارث وعبد الله ابن أبي أمية ونوفل بن خويلد . ولولا بمعنى هَلا أُنزل عليه ملك نصدِّقه ، ولو أنزلنا مَلكاً فعاينوه ولم يؤمنوا لقضي الأمر ، وفيه ثلاثة أقوال: أحدها أن المعنى لماتوا ولم يُؤخَّروا طرفة عين لتوبة، قاله ابن عباس . والثاني : لقامت الساعة ، قاله عكرمة ومجاهد . والثالث : لَعُجِّل لهم العذاب، قاله قتادة )) اهـ .
     ويتواصل الرد على الكافرين . وهذه المرة يدحض القرآنُ باطلَ أهل الكتاب ، ويُفحِمهم فلا يقدرون على الرد .
     قال الله تعالى : } وقالت اليهودُ والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قُل فَلِمَ يُعذِّبكم بذنوبكم { [ المائدة : 18] .
     وهذا الرد البليغ على غرور أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) الذين زعموا أنهم أبناء الله تعالى ، أي إنهم عباده المخلَصون الذين اختارهم وفضَّلهم على الخلق ، وأحبابُه وصفوته من بين الناس . وهذا الزعم الباطل تهاوى أمام الرد القرآني ، فإن كانوا _ كما يزعمون _ فلماذا أعدَّ اللهُ لهم نارَ جهنم خالدين فيها جزاء كفرهم وكذبهم ورفضهم للرسالة المحمَّدية الإسلامية المصدِّقة لما قبلها من الرسالات السماوية ؟ .
     وفي الآية معنى لطيفٌ أن الله تعالى لا يُلقِي حبيبَه في النار ، فلو كان اليهود والنصارى أحباباً لله تعالى لما عَذَّبهم ، بل حماهم من الجحيم ومنحهم الجنةَ .
     وفي الدر المنثور للسيوطي ( 3/ 44) : [ أخرج ابن إسحق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : (( أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أُبَي، وبحري ابن عمرو ، وشاس بن عدي ، فكلَّمهم وكلَّموه ، ودعاهم إلى الله ، وحذَّرهم نقمته ، فقالوا : ما تُخوِّفنا يا محمد ، نحن والله أبناء الله وأحباؤه ، كقول النصارى )) ] ، فأنزل الله فيهم : } وقالت اليهودُ والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قُل فَلِمَ يُعذِّبكم بذنوبكم { .
     إن هذا الغرور والاستعلاء والتحدث بكل عنجهية وفَوْقية ، كل هذه الأمور تُعتبَر حواجز مانعة لوصول الحق . فالإنسانُ الصادق في طلب الحق ، ينبغي أن يَطلبه في كل زمانٍ ومكان بأدب واستعداد نَفْسي لتقبُّله . أمَّا اتخاذ موقف استعلائي مسبق ، فسوف يؤدي قطعاً إلى رفض الحق سواءٌ ظَهر أم لم يَظهر . وهذا هو دَيْدن اليهود في كل العصور الذين يَنظرون إلى أنفسهم على أنهم صفوة الله من خَلْقه ، وشعبه المختار ، وأن الآخرين مجرد عبيد ورعاع وأصحاب منزلة دونية .  
     وعن أنس_رضي الله عنه_ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( واللهِ لا يُلقِي اللهُ حبيبَه في النار )){(4)}.
     فاللهُ تعالى إذا أحبَّ عبداً حماه من كل سوء ، ووفَّقه لفعل الخيرات حتى يقبضه طاهراً مُطَهَّراً ، ثم يدخله الجنةَ ، ولا يجعل النارَ تأكل جسدَه .
     وقال الله تعالى في الرد على اليهود أصحابِ الْحُجَج الواهية : } قُل إن كانت لكم الدارُ الآخِرة عند الله خالصةً من دون الناس فتمنَّوُا الموتَ إن كنتم صادقين { [ البقرة : 94] .
     وهذه الآية فَضحت اليهودَ وكَشفت عن دواخلهم الممتلئة بحب الدنيا وكراهية الموت . فإن كان جزاءُ اليهود الجنةَ في الآخرة فليتمنُّوا الموتَ ، وملاقاةَ الله تعالى لكي يكافئَهم بالنعيم الأبدي ، فيرتاحوا من عناء الدنيا . لكنهم يعلمون أن مصيرهم إلى العذاب فيهربون من الموت _ حسب نظرتهم القاصرة _، ويتشبثون بالدنيا بأسنانهم وأظافرهم لعلمهم بما ينتظرهم بعد الموت من العقوبة الشديدة . وروى أحمد في مسنده ( 1/ 248 ) عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : (( ... ولو أن اليهود تمنُّوا الموتَ لماتوا ، ورأوا مقاعدهم في النار )) .
     وفي تفسير ابن كثير ( 1/ 178 )وصحَّحه، عن عكرمة في قوله تعالى: } فتمنَّوُا الموتَ إن كنتم صادقين { قال : قال ابن عباس : (( لو تَمَنَّى يهودٌ الموتَ لماتوا )) .
     والأسلوبُ القرآني في المحاجَجة يتضمن الرد على الوثنيين المؤمنين بتعدد الآلهة رداً مُفحِماً ينتشل العقلَ من مستنقع الوهم ، ويزرعه في نور الهداية .
     قال الله تعالى : } قُل لو كان معه آلهةٌ كما يقولون إذاً لابْتَغَوْا إلى ذي العرش سبيلاً { [ الإسراء : 42] .
     فلو كان هناك آلهةٌ _ على حد زعم المشركين _ لقامت هذه الآلهة بمنافسة الله تعالى ، ومحاولةِ انتزاع مُلْكه _ كما يحصل بين ملوك الأرض _ . أو لقامت هذه الآلهة بالسعي لنيل رضا الله تعالى لأنها دونه . وبما أنها محتاجة ، إذن، فهي ليست آلهة. وهذا الرد الباهر المفحِم الموجَز يخاطب عقولَ الناس بشتى مستوياتهم الفكرية ، فهو متوافق مع الفطرة السليمة والعقلِ الطبيعي . فلم يُقدِّم القرآنُ رداً فلسفياً مُعقَّداً ، ولم يجيء بأنواع الشتائم للمشركين . وإنما عرض الدليلَ الواضح على وحدانية الله تعالى وبطلانِ فكرة تعدد الآلهة . وهذا يشير إلى عظمة القرآن ، وقوةِ حُجَّته المضيئة التي لا يمكن مواجهة نورها بأية وسيلة من الوسائل . فالحق يعلو ، والباطلُ يذهب أدراج الرياح .
     وقال ابن الجوزي في زاد المسير ( 5/ 38 ) : (( قوله تعالى : } إذاً لابْتَغَوْا إلى ذي العرش سبيلاً { فيه قولان : أحدهما لابتغوا سبيلاً إلى ممانعته وإزالة مُلكه ، قاله الحسن وسعيد بن جبير . والثاني : لابتغوا سبيلاً إلى رضاه لأنهم دونه ، قاله قتادة )) اهـ .
     وقال الله تعالى : } لو كان فيهما آلهةٌ إلا اللهُ لَفَسَدَتَا {[ الأنبياء : 22] .
     فلو كان في السماوات والأرض آلهةٌ غير الله تعالى لفسد نظامُ الكَوْن ، واختلَّ الوجودُ ، وذلك لما يحدث بينها من تنازع وتضاد ومنافسة . فلا يوجود مَلِكان في دولة واحدة ، ولا يوجد جسدٌ برأسَيْن {(5)}.
     وقال البغوي في تفسيره ( 1/ 314 ) : (( لخربتا وهلك من فيهما بوجود التمانع من الآلهة ، لأن كل أمر صدر عن اثنين فأكثر لم يجر على النظام )) اهـ .
........الحاشية.............
{(1)} فتح القدير للشوكاني ( 1/ 741 ) .
{(2)}رواه أحمد في مسنده مرفوعاً (2/ 185)برقم( 6741 )،وحسَّنه العراقي في تخريج الإحياء( 2/ 285).
{(3)} الفخر الرازي ( 21/ 241 ) نقلاً عن صفوة التفاسير للصابوني ( 8/ 48 ) .
{(4)} رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 195) برقم ( 7347 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .

{(5)} قال الصابوني في صفوة التفاسير ( 9/ 7) : (( قال المفسرون : في الآية دليلٌ على التمانع الذي أورده الأصوليون ، وذلك أنَّا لو فرضنا إلهين فأراد أحدهما شيئاً وأراد الآخرُ نقيضَه ، فإما أن تُنفَّذ إرادة كل منهما وذلك محال لاستحالة اجتماع النقيضَيْن ، وإما أن تُنفَّذ إرادة واحد منهما دون الآخر، فيكون الأولُ الذي تُنفَّذ إرادته هو الإله ، والثاني عاجزٌ فلا يصلح أن يكون إلهاً )) .