25‏/02‏/2016

شوبنهاور وكراهية النساء

شوبنهاور وكراهية النساء

للكاتب / إبراهيم أبو عواد

جريدة القدس العربي

لندن ، 24/2/2016

..........................

    يُمثِّل الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور ( 1788م _ 1860م ) حالة فلسفية خاصة في النسق الفكري العالمي . فقد بنى أفكاره على التشاؤم المطلق ، بحيث كان يرى الوجود بؤرةً للحزن والكآبة ، ويعتبر الحياة شراً كاملاً، لا مكان فيها للفرح والسعادة . وما يُسمَّى بالسعادة عبارة عن تقليل كمية الأحزان والمصائب لا أكثر.
وهذه النظرة العدمية الشاملة لا بد من تحليلها في ضوء تفاصيل حياة هذا الفيلسوف العالمي ، للوقوف على المنعطفات الخطيرة في حياته الشخصية ، والتي أدَّت إلى توليد فلسفته التشاؤمية الصارخة .
     درس شوبنهاور الفلسفة في جامعة جوتنجن في الفترة ( 1809م _ 1811م ) ، وحصل على الدكتوراة في الفلسفة من جامعة برلين عام 1813م ، ( وهو في الخامسة والعشرين ) . ولا شَكَّ أن الحصول على الدكتوراة في الفلسفة في هذه السن الصغيرة ، مؤشر واضح على عبقرية شوبنهاور ، وأنه قد كرَّس حياته للعِلْم والفلسفة ، والتفتيش عن ماهيات المعنى في عالَم يتساقط حَوْلَه ، والبحث في تفاصيل الوجود ضمن حياة تنهار في داخل جسمه وخارجه ، وإيجاد أجوبة منطقية للأسئلة الوجودية المتكاثرة في وجدانه . وربما كان توجهه إلى طريق الفلسفة محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، وتعويضاً عَن خيبات الأمل في طفولته وشبابه المبكِّر، وانتقاماً مِن أحزانه وأحلامه الضائعة ، وهذا الأمر يتَّضح إذا عَلِمْنا أن أباه قد مات مُنتحراً عام 1805م . وبعبارة أخرى ، لقد تلقى الشاب شوبنهاور الذي كان في السابعة عشرة صدمةً وجدانية هائلة ، وهي انتحار أبيه . وغيابُ الأب بهذا الشكل المأساوي ترك جُرحاً عميقاً في نفس شوبنهاور ، الذي كان في تلك الفترة شاباً يتحسس طريقَه في هذه الحياة . وسقوطُ رمزية الأب بهذه الصورة المؤلمة والمفاجئة ، له تداعيات كارثية على الأسرة. وبما أن شوبنهاور كان وحيد أبويه ، فقد ازدادت حِدَّةُ هذه التداعيات . وكما يُقال : المصائب لا تأتي فُرادى . فقد خسرَ أباه معنوياً ومادياً ، ثم ما لبث أن خسر أُمَّه معنوياً ، حيث لم يجد فيها مثالاً للحب والحنان والاحتضان . ومن الواضح أن أُمَّه قد استغلت هذا الانتحار ، لتعيش حياتها بالطول والعَرْض بلا ضوابط . لقد تحررت من كل القيود الاجتماعية ، ورفضت كل معاني الفضيلة ، وراحت تُقيم علاقات مع الرجال بلا وازع ديني أو أخلاقي . وتصادمَ الشاب شوبنهاور مع أُمِّه بسبب أسلوب حياتها المتحرر ، وحدثت قطيعة تامة بينهما حتى ماتت ، ولم يَرها .
     إن صورة الأم تحطمت في نفس شوبنهاور، فقد كان ينتظر أن تحتضنه أُمُّه بعد انتحار أبيه ، وتُوفِّر له الأمن والأمان والمشاعر الدافئة ، وتُعوِّضه عن فقدان أبيه ، لكن هذا لم يَحدث . إن أُمَّه عاشت حياتها كما يَحلو لها، وكأن ابنها غير موجود أصلاً في عالَمها . عاشت لنفْسها بكل أنانية وتحرر ، دون أي اعتبار لابنها المكسور ، الذي حَوَّلَ شقاءه الحياتي وصِدامه مع أُمِّه إلى كَراهية شديدة للنساء بلا تمييز . اعتبرَ المرأةَ مثالاً للخيانة والاستغلال والشهوة ، لذلك لم يَرتبط بأية امرأة طيلة حياته ، ولم يُقِمْ أية علاقة نسائية ، لا داخل الزواج ولا خارجه .
     وانتقلَ فشلُه العاطفي وانكساره العائلي إلى ميدان العمل ، فأخفقَ في حياته التدريسية ، حيث عمل أستاذاً في جامعة برلين ( 1820م _ 1831م ) . ولم يَحْظَ بأي تقدير ، سواءٌ من طلابه أو زملائه . ولم يحقق نجاحاً من أي نوع . لم تَحْظَ شخصيته بالاحترام ، ولم تكتسب أفكاره تقديراً وانتشاراً ، ولم يُقبل أحد على مؤلفاته. لقد انتقل من فشل إلى فشل ، لذلك آثرَ العزلة والابتعاد عن الناس والاختفاء عن الأنظار ، فحصل على غرفتين في فندق متوسط ، وعاش فِيه الثلاثين سنة الأخيرة من حياته . عاش وحيداً وبائساً .  
     لقد كره هذا الفيلسوف النساء، واعتبرَ المرأة منبع الشرور ، ومثالاً لجنون الشهوة ، وتجسيداً للخيانة والغدر والحقد . وحصرَ المرأة في زاوية الجسد ، ولم يرها إلا من خلال بؤرة الجنس ، لذلك كان يُعلي من شأن الغريزة الجنسية ، ويجعل منها المحور الأساسي في حياة الإنسان ، ويَعتبر أن كل سلوك اجتماعي يمكن تفسيره بالكامل وفق الدافع الجنسي . وهذا يعني أنه جرَّد المرأة من كل فضيلة ، واعتبرَها آلةً للتكاثر وبقاء النَّوع البشري ، والحفاظ على الحياة في وجه الموت .
     لقد ترك شوبنهاور عدة مؤلفات، من أبرزها: 1_ الأصول الأربعة لمبدأ السبب الكافي ( رسالة الدكتوراة) ( 1813م ). 2_ الإرادة في الطبيعة ( 1836م ). 3_المشكلتان الأساسيتان في فلسفة الأخلاق ( 1841م). وبدأت مؤلفاته في نهاية حياته تثير الاهتمام ، وتلقى نوعاً من الرواج .

     وبعيداً عن مؤلفاته ، فإِن فلسفة شوبنهاور الاجتماعية تجاه الإنسان والمرأة تحديداً ، يمكن تلخيصها وفق مقولاته الشخصية . ووفق تقديري البسيط ، فإِن هناك خمس مقولات لشوبنهاور تلخص فلسفته الاجتماعية كاملةً . المقولة الأولى : " حياة الوحدة مصير كل الأرواح العظيمة " . وهذا يعني أن العزلة هي طريق السُّمو الأخلاقي ، وأن الابتعاد عن الناس يدل على المجد والعَظَمة، وأن التعامل مع الناس سبب كل الشرور . والمقولة الثانية : " كل مآسينا تقريباً تنبع من صِلاتنا بالآخرين " . وهذه العبارة مترابطة تماماً مع قناعته بأن العلاقات مع الآخرين سبب للشقاء والتعاسة والأحزان، وأن الانفراد بالذات طريق السعادة وراحة الضمير. والمقولة الثالثة: " يمكن للمرء أن يكون على طبيعته فقط عندما يكون وَحْدَه " . لقد اعتبرَ الحياة الاجتماعية قائمة على النفاق والرياء وارتداء الأقنعة ، ولا يمكن للمرء أن يجد نفْسَه الحقيقية ، ويرى وجهه بلا قِناع ، إلا إذا كان وحيداً ومنقطعاً عن الناس . والمقولة الرابعة : " التضحية باللذة في سبيل تجنب الألم مكسب واضح " . يُشدِّد على أهمية النظر إلى ما وراء الأمور ، وعدم التخندق في اللذة الآنية الزائلة ، فقد تَكون اللذةُ المؤقَّتةُ سبباً للشقاء الأبدي ، لذلك يُركِّز على فكرة التضحية باللذة من أجل تجنب الألم . وهذه المقولة قد تُفهَم في سياق العلاقة الزوجية . حيث إِن شوبنهاور يَعتبر المرأة منبع الشرور ، ويعتبر الحياة جحيماً من المصائب والكوارث . والمرأةُ والحياة وحدة واحدة لا تتجزَّأ ، لأن المرأة هي الحاضنة للجنس البشري ، وهي التي تحفظ بقاء النَّوع الإنساني من الانقراض . وهذا يَعني أن المرأة هي السبب في شقاء الإنسان وعذابه ، لأنها السبب في مجيئه إلى الأرض . لذلك من الذكاء _ وفق شوبنهاور _ التضحية باللذة الجنسية التي تؤدي إلى ولادة الإنسان ، من أجل تخليص الإنسان من العذاب ، وتجنب الشقاء والمعاناة والآلام . والمقولة الخامسة والأخيرة : " الرجال بطبيعتهم لا يُبالون ببعضهم البعض ، أمَّا النساء فأعداء بطبيعتهم ". إنه فاقد الثقة بالرجال والنساء على السواء ، فالعلاقات الاجتماعية يحكمها الرياء والحقد والعداوة ، وتفتقد إلى المشاعر الدافئة ، والأحاسيس البريئة . لا أحد يحب أحداً في هذا العالَم القائم على الحقد والشر والكراهية والعدم. لذلك، حسمَ شوبنهاور أمرَه ، وقرَّر اعتزالَ الناس، والاكتفاء بمعرفة نفْسه بعيداً عن الأنظار. لقد أرادَ أن يَكون على طبيعته ، فعاشَ وَحيداً ويائساً .