17‏/05‏/2016

بوصلة النص الشعري

بوصلة النص الشعري

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

twitter.com/abuawwad1982

...........................

     إن القوة الحقيقية في النسغ الشعري تتمثل في اكتشاف تفسيرات تاريخية للعلاقات الإنسانية في إطارها الروحي والمادي . وهذا الأفق التفسيري نابع من كَوْن النص الشعري تاريخاً جديداً للوجود بكل تراكيبه . والنص الشعري _ بما يملكه من سِحر ونفوذ وسُلطة _ قادر على تأريخ المشاعر الإنسانية وعلاقاتها بالواقع تمهيداً لصناعة نهضة بشرية منطقية لا تسقط ضحية صراع الأضداد الفكرية والأنساقِ المتضاربة للثقافة التلقينية المدجَّنة ( ثقافة الببغاوات ) التي تقول ما يُقال دون تمحيص .
     ومن خلال هذا المنظور التمحيصي الذي يعتمده النص الشعري ، تتحول العلاقاتُ الروتينية الوظيفية في المجتمع الميت إلى قفزات حضارية إبداعية تعيد الحياة إلى المجتمع. وهذه الممارسة المنطقية تشير إلى الدور المركزي الوجودي للثقافة الإبداعية ، وهو تحويل التجمعات البشرية المتآكلة إلى خلية نحل دؤوب .
     وبما أن النص الشعري يحمل صفاتٍ ثورية مركزية ، فهو يتشكل في قلب الحياة الإنسانية لا الهامش ، وهذا يدفع باتجاه فهمٍ حقيقي لطبيعة اللغة القصائدية وتحركاتها الأفقية والعمودية في المجتمع، وتحريكِ الساكن عبر إلقاء الحجارة في الماء الراكد، وكشفِ المسكوت عنه ، وإشاعةِ ثقافة السؤال والبحث والنقد والنقض . وكلما التصقت القصيدةُ بأساس المجتمع البشري ، اتضحت مكانتها المحورية في تحريك الرأي العام وقيادةِ الجماهير فِعلياً لا شعاراتياً . الأمر الذي يعيد للنص الإبداعي تألقه وأهميته في بناء العقل النقدي المنفتح الذي يتصدى للعقل الميكانيكي المحصور .
     وبالتركيز على الحقائق الثقافية للأبجدية المناوئة لأيديولوجية البنى الاجتماعية المنحرِفة ، نكتشف مزيداً من العوالم الذهنية التي تعمل جاهدةً على إعادة تشكيل العالَم وفق رؤية متحررة من سطوة تعاليم الخوف وسُلطةِ المعنى المحتضر .
     ولا يتأتى للقصيدة أن تُحرِّر المجتمعَ إلا إذا تحرَّرت مِن جُمودها وعُزلتها . لذلك على القصيدة أن تُغيِّر جِلْدَها باستمرار ، أي أن تخترع آلياتٍ معرفية غير معهودة ، وتجدِّد في طبيعة الأفكار وأسلوب العَرْضِ . وهذا التغيير لا يعني _ بأية حالٍ من الأحوال _ التخلي عن المبادئ أو المتاجرة بالكلمة . ولا يمكن الإحساس بجدوى فِعل الكتابة الشعرية ، إلا إذا تكرَّسَ تاريخُ القصيدة كتاريخ للحياة الإنسانية بكل تشابكاتها . وهذا الأمرُ ضروري للغاية، وليس فِعلاً ترفيهياً أو ممارسةً روتينية زائدة عن الحاجة . إِنهُ أمرٌ شديد المركزية ، وضَمانةٌ حتمية لاستمرار الفلسفة الشعرية في تأدية دَورها الحضاري، وأنسنةِ القيم المتوحشة المتشظية في الذات البشرية.

     والقصيدةُ ينبغي أن تواصل الحركة لكي تحافظ على توازنها ، وتوازنِ العناصر الاجتماعية من حَوْلها . فالأبجديةُ الشعرية مثل الدراجة ( إذا توقَّفتْ سَقَطَتْ ) . وهي مثل النار ( إذا لم تجد ما تأكله ستأكل نفْسَها )، وهي أيضاً كالسابح ( إذا ارتبكَ غَرِقَ ) . ومن خلال هذه الرؤية المركزية الشاملة، تتَّضح أهميةُ إمداد النَّص الشِّعري بالوقود اللازم للاستمرارية ، وحَرْقِ المراحل ، وصولاً إلى آفاق جديدة للمجتمعات العاجزة عن تحديد وُجهتها، والتي تسير في النفق بلا ضوء . ولا يمكن فتحُ الطريق المسدود ، واكتشافُ الأفق الجديد ، إلا إذا حصلنا على بوصلة النص الشعري السحرية .