04‏/07‏/2016

موريس ماترلينك وغربة الروح

موريس ماترلينك وغربة الروح

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة القدس العربي ، لندن ، 4/7/2016

facebook.com/abuawwad1982

twitter.com/abuawwad1982

...............

     إن الكاتب والشاعر البلجيكي موريس ماترلينك ( 1862_ 1949) هو مثال واضح على الغربة المعنوية والاغتراب المكاني . فقد اختار الكتابة باللغة الفرنسية والانتماء إليها ، وهذا جعله مرفوضاً مِن قِبَل شريحة عريضة من أبناء شعبه .
     وُلد في مدينة غينت البلجيكية لعائلة ثرية ناطقة بالفرنسية . تلقى تعليمه في كلية يسوعية مُتشدِّدة جعلته يَحتقر الكاثوليكية ، وكل الديانات الأخرى . وقد كتب قصائد وروايات قصيرة أثناء دراسته ، ولكن والده كان يُحاول جاهداً إبعاده عن الأدب ، وتوجيهه نحو دراسة القانون . وقد خضع لرغبة والده ، وحصل على شهادة في القانون من جامعة غينت عام 1885. ثم سافر مباشرةً إلى باريس ، حيث قضى فيها عِدَّة أشهر ، وتقابل مع أدباء من الحركة الرمزية ، وحدث تأثير متبادل ، وتبادل للخبرات والأفكار والأحلام . وقد ذاع صيته في عام 1890 ، عندما كتب مقالاً عن رواية للكاتب أوكتاف ميربو في جريدة لوفيغارو الفرنسية ذات الشُّهرة الواسعة .
     حصل ماترلينك على جائزة نوبل للآداب عام 1911، بفضل أعماله الأدبية التي تُرَكِّز على قضية الموت ومعنى الحياة ، والمكتوبة بلغة جدَّدت في التيار الرمزي، كما جدَّدت في اللغة الفرنسية ذاتها . وهذا يتجلى في مسرحياته مثل : الأعمى ، والأخت بياتريس ، والطائر الأزرق . بالإضافة إلى مجموعات شعرية ودراسات ونصوص أدبية مُتنوعة ، جعلته أشهر أدباء بلجيكا في عصره .
     لقد تميَّزت أعماله الأدبية بالأبعاد الدرامية ، وقوة الخيال ، والنَّزعة الشِّعرية ، والإلهام العميق، وحضور الأساطير والخرافات ، وتحفيز مُخيِّلة القُرَّاء وإثارة مشاعرهم عن طريق توظيف الرمزية الغامضة . ومن الأمور الطريفة أن ماترلينك كان يريد أن يصبح جندياً في الجيش ، لكنَّ الحكومة رَدَّته قائلةً : إن قلمك أقوى من كتيبة من الجنود المسلَّحين .
     كان أول عمل له مجموعة شعرية بعنوان مُتحمِّس المخالب . ثم انتقل من الشِّعر إلى الكتابة المسرحية ، فأصدر في العام نفسه ( 1889 ) مسرحيته الأميرة مالين ، التي لَقِيَت إشادةً خاصةً من أوكتاف ميربو ( الناقد الأدبي في جريدة لوفيغارو ) عام 1890 . ثم تتابعت مسرحياته التي تحمل فكراً صوفياً مثل الدَّخيل ( 1890 ) ، الأعمى ( 1892) .
     وقد أتاحت له هذه المسرحيات فرصة التعرف إلى الممثلين والممثلات ، والتعامل معهم عن قُرب ، فأقام علاقة مع الممثلة جورجيت لبلان ، وأثناء هذه العلاقة كتب العديد من الأعمال ، مِن بينها كنز المتواضع ( 1896 ) ، والذي يُعتبَر العمل الأكثر شعبية .
     لقد عانى ماترلينك من غربة روحية عنيفة، وكان لها انعكاسات على الزمان والمكان. والإنسانُ هو ابن بيئته ، وإذا حاول الخروج من هذه البيئة ( الحاضنة ) أو التمرد عليها ، فلا بُدَّ أن يَدفع ضريبة هذا التمرد . فلا يوجد تمرُّد مجاني . وما مِن موقف يمر دون ثمن .
     لقد كان ماترلينك ينتمي إلى الأوساط الفلامندية ، ثم اختار الانتماء إلى اللغة الفرنسية لفظاً ومعنىً ، وهذا يعني أنه اختار الهوية الفرنسية بكل دلالاتها القومية ، مِمَّا جعل الكثيرين من أبناء جِلْدته يَنظرون إليه كخائن ومُنْشَق . كما أن الحكومة البلجيكية اعتبرت كتاباته تافهة ، لا تُؤهِّله للحصول على أي منصب حكومي ، فما كان من ماترلينك إلا أن أعلن تمرده على بلجيكيته ، واحتقاره لها . وهذه رَدَّة فِعل مُتوقَّعة ، لأنه لم يَحْظَ بالتقدير والاحترام مِن قِبَل حكومة بلاده .
     ثم جاءت الغربة المكانية ، فأدار ظَهْرَه لوطنه بلجيكا ، وانتقل إلى العيش في فرنسا ، باعتبارها وطنه الجديد . كما أن التربية الدينية المتطرِّفة التي تَلَقَّاها في صِباه ، جعلته رافضاً للكاثوليكية والأديان الأخرى . وهذا التَّشدد الديني ظهر في مسرحياته التي كانت تحمل نزعةً مسيحية متطرفة ، رافضة لقيم التسامح ، ولا تعترف بالآخَر ، سواءٌ كان مسيحياً أم غير مسيحي .
     وهذا التَّشدد الديني يُمكن فهمه في إطار الفِعل ورد الفِعل . إذ إن ماترلينك عاش منبوذاً ومرفوضاً مِن قِبَل حكومة بلاده وأبناء شعبه ، وبما أنه مرفوض مِن قِبَل الآخرين ، فهذا جعله رافضاً للآخرين . وقد بَقِيَت الحكومة البلجيكية تتجاهله ، حتى فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1911 ، مِمَّا أجبرَ الحكومة على الاعتراف به ، وتكريمه ، والاحتفال بإنجازه العالمي ، باعتباره أول كاتب بلجيكي يفوز بجائزة نوبل للآداب .
     من أبرز أعماله : مُتحمِّس المخالب ( 1889 ) ، الدخيل ( 1890 ) ، الأخت بياتريس     ( 1901) ، الطائر الأزرق ( 1909 )، حياة النمل الأبيض ( 1926)، قبل الصمت الكبير ( 1934) ، ظل الأجنحة ( 1936 ).