01‏/03‏/2017

خشبة المسرح وخشبة الإعدام / قصيدة

خشبة المسرح وخشبة الإعدام / قصيدة

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد

...............

    غَزا البرتقالُ صَوْتَ النُّجُومِ في عُقْرِ دَارِه / أَعرفكَ أيها النَّزيفُ المنتصِبُ ذاكرةً للثلجِ / لا شَكلُ الياقوتِ عَشيقُ المومساتِ / ولا عَظْمي حارسُ الملكاتِ / عُصفورةٌ تَعزفُ على حَبلِ مِشنقتي/ والشواطئُ أحْمرُ شِفاهٍ للسَّجيناتِ/ فلا تَسأل السَّجانةَ / لماذا تَغسلين نَعْشَكِ بالمبيداتِ الحشريةِ ؟ /
     أيُّها الأعمى في المحاكمِ العَسْكريةِ/ أَعْطِني عَصاكَ كَي أَصطادَ ذِكْرياتِ البَعوضِ/ خَاتَمُ الخطوبةِ في إصبعِ خَيْمتي/ يَحتلُّ مَطاراتِ كَبِدي/ يَتفرَّقُ دَمي بين قَبائلِ الموْجِ / كما يَتفرَّقُ رِجالُ البوليسِ السِّري بين أزرارِ قَميصي / فاكْرَهِيني يَا مِدْخنةَ كُوخي أو أَحِبِّيني / إِنَّ الآلةَ الحاسبةَ لم تَحْسِبْ دَقَّاتِ قَلبي /
     يَا ضَباباً يَبيتُ جائعاً في زَوْرقِ البُكاءِ / لماذا تَستخدمُ دَمِي لِتَقْطيرِ الويسكي ؟ / يُعلِّمني ضَحايا المجزرةِ جَدْولَ الضَّرْبِ/ أسلاكُ المعْتَقَلِ الصَّحراويِّ في آخِرِ الصَّيْفِ / وَلَحْمُ البُحيرةِ مُقطَّعٌ على مائدتي / والأريافُ الدَّمويةُ تُنادي على أهدابي / أُتَرْجِمُ ظِلالي إلى لُغةٍ يَفْهمها سَجَّاني ولا تَفْهمها أرملتي / أُضَيِّعُ وَقْتي في احتضانِ مِرْآتي / وأَدْفعُ مَهْرَ ابْنةِ حَفَّارِ قَبْري / وأَجْمعُ ضَفادعَ النَّحيبِ كالطوابعِ البريدية في أكواخِ الصَّفيحِ / سَتَبْذرُ العاصفةُ اللازورديةُ رائحةَ الجثثِ في الرِّياحِ الشَّمْسيةِ / وأَمْشي إلى قَبْرِ أبي رِيفاً بلا سُكَّان / أَو سُكَّاناً بِلا رِيفٍ / وَسَوْفَ يَدْفِنُ زُجاجُ الكنائسِ الراهباتِ في مَقبرةٍ رِيفيةٍ / تَحْتَ أضواءِ المساءِ الجريحِ /
     الليلُ النازفُ فَراشاتٍ عِندَ شُطآنِ مَعِدتي / جِئْتَ يا حُزْنَ القطاراتِ في مَوْعدِ احتضاري / قصائدي تَتْلوها الأشجارُ أمامَ ضريحي / وثُلوجُ بِلادي قُبَلُ المجازرِ على خَدِّ المساءِ / لَم تَجِد الغَيمةُ ألواناً زَيْتيةً لِرَسْمِ انتحاراتي/الأنهارُ الحُبْلى بالبارودِ/ هَل تأخَّرتْ عِظَامي عَن حَفْلةِ الهياكلِ العَظْميةِ؟/ أُطْلِقُ كُرياتِ دَمي على تِلالِ الشَّمْسِ / وأبكي مَعَ القَمَرِ الميِّتِ / خانتني دُموعُ الميناءِ ولم أَخُنْها / والهِضابُ تُهرِّبُ أسماءَ فراشاتي إلى سكرتيرِ الجنرالِ / في مَكْتبه القِرميديِّ على خَيْلِ التَّتارِ /
     البراري تتحرَّشُ جِنْسياً بضريحِ الشَّلالِ / استغربَ الحِبرُ أن تُعْلِنَ الزَّوْبعةُ العِصيانَ المدنيَّ في جِلْدي / دَفنتُ تِينةً في عَمودي الفِقريِّ / صَنعتُ أراجيحَ للسُّنونو في نظاراتِ القمرِ الشَّمْسيةِ / دَرَّسْتُ الكِيمياءَ للقِططِ الضَّالةِ في القَبْو / والعواصفُ تَبني مَحاكمِ الذُّبابِ/ خَلعتُ حُقولَ الكاكاو مِن نَعْشي/ كَمَا يَخْلعُ الموْتى مُلوكَهم/ وكَمَا تَخْلعُ الفتياتُ المغْتَصَبَاتُ أجفانَ السَّجانِ /
     افْتَخِرْ بِي أيها الرَّصاصُ المطاطيُّ / تَقَيَّأْتُ جُمهورياتِ الظِّلِّ المتآكلِ / وخَسرتُ مَقْعدي على طاولةِ البَحر / قُولِي لِي :  (( اذهبْ إلى جَمالِ الذي خَلَقَ جَمالي )) / نَسيتُ حياتي لَمَّا رَأيتُ حَياةَ المقاصلِ / واخترتُ أثاثَ المنفى / لأنَّ العناكبَ تَبني قَلْعتي/ والحشراتُ تَخرجُ مِن رؤوسِ القَتْلى / والغزاةُ يَغسلون سَيَّاراتِهم بأكبادِ الثائرين / أيُّها النهرُ الذي يتوهَّجُ كالبنادقِ الجديدةِ / كُن أَجْملَ مِن غُيومِ دمائي عِنْدَ المغيبِ المرتعشِ /
     أَمْسَكْنا ضَوْءاً قَادِماً مِن خَواتمِ الجواري / لَمَحْنا نُعوشاً تَسيلُ مِن جَدائلِ البُحيراتِ / أَحْضِر الخِيامَ أيها الذبابُ اللاجِئُ / لِنَعْقِدَ اتفاقيةَ سَلامٍ بين كُرياتِ دَمي الحمراءِ والبيضاءِ / تَعَلَّمْنا الكِيمياءَ مِن حِبال المشانقِ/ والبُرتقالُ أرشيفُ القَتْلى / والموْجُ صَديقي القتيلُ/طَارَدَ اليتيماتِ في مَذبحةِ الكهرمانِ/ ثُمَّ حَمَلَ السلاحَ في وَجْهِ الذكرياتِ/ الذُّبابةُ حَارِسةُ قَبْري/ أَشُمُّ رائحةَ نزيفي على عَتباتِ المسْلَخِ / وأَسْمعُ بُكاءَ جُدرانِ شراييني/ أفعى تتعلمُ الرَّشاقةَ مِن فِيلٍ / أَحالَهُ مِعْصمُ الفيضانِ على التقاعدِ/ودُفِنَ في خَاتَمي سَيَّافٌ /مَشى في رَحيقِ العاصفةِ الْمُرِّ/ حَوْلي المطرُ الحِمْضِيُّ غَارِقاً في براويزِ الأيتامِ / حُطامٌ أَزْرقُ كَشِبْلٍ يَصْبغُ ذاكرةَ البراكين بألوانِ السنابل /
     كُنْ أَيُّها الغَيْمُ المزروعُ بالجماجمِ مِصْباحاً للأراملِ/ الجنودُ عَاطِلون عَن العَملِ / ويَجْلسون على بابِ مَعِدتي / تُسافِرُ قواربُ الصَّيْدِ إلى أصابعِ الغروب / ولا تَعود / تتبوَّلُ الأشجارُ في أعصابِ الأسرى/وأسنانُ البُحيرةِ تَتساقطُ كالحضاراتِ/ أخافُ أن تَخونني رُموشي / فارجعْ يا بُركانَ العِشق إلى الشواطئِ الموْبوءةِ وحيداً /
     اسْتَوْلَى على ضَريحي حِيتانٌ زَرْقاء / مُحنَّطةٌ في الكَهْرمانِ الغريبِ / اكتئابي مَختومٌ بالشَّمْعِ الأحمر / أخافُ مِن دَمي الممْزوجِ بالرِّمالِ / وأَحْلمُ بأنني لا أَحْلُمُ / تتساقطُ الذكرياتُ كأغصانِ القلبِ / فَكُنْ وَاثِقاً بمرايا الطوفان / حِينَ تتساقطُ الدُّوَلُ حَوْلَكَ كمشاعرِ العَوانسِ/ حَبْلُ مِشْنقتي كَامِلُ الدَّسم / سأتحرَّرُ مِن قَناديلِ شَنْقي / عِندما تتحرَّرُ الرَّاقِصةُ مِن رَقْصتها /
     بَعْدَ مَوْتي سَتأخذُ رَاتبي التقاعديَّ النُّسورُ / التي أَكلتْ جُثتي / يَلتصقُ عِطْرُ سَجَّاني بهواءِ العواصمِ المحروقةِ / زِلزالٌ يَنامُ بين أجنحةِ عُقابٍ أعْزب/ وتنمو الألغامُ البحريةُ في حَديقةِ مَنْزِلنا / أُخَزِّنُ بَراميلَ البارودِ في حَلْقي/ وأَرْفعُ الرايةَ البيضاءَ أمامَ كُرياتِ دَمي البيضاءِ /
     مَاتَ قَلبي مَسْموماً / وَمَاتَ المساءُ بَعْدَ أن تَناولَ ذِكْرياتٍ مُنْتَهِيَةَ الصَّلاحِيَّةِ / وَطُردتْ مِن عَمَلِها نخلةٌ / لأنها ترتدي الحِجابَ / قُلتُ للبيادرِ المنهوبة : (( إِمَّا أن أكُون شهيداً أو شهيداً )) / ذُباباتُ تُعالِجُ النَّدى المريضَ على أسوارِ المنافي / أنا متفائلٌ لأنَّ المشانقَ البيضاءَ سَتُزْهِرُ عمَّا قليل/ ثائرٌ أنا في حُزْنٍ يَحْكمه اللصوصُ المقدَّسون/ مَرافئُ تُغيِّر جِلْدَها أناقةَ أعاصير / وعِندما أَوْقَدَت الأمطارُ سِراجي/ كُنتُ أنام مَعَ الزِّنزانةِ في فِراشٍ وَاحِدٍ / نَدفنُ أحلامَنا على ظُهورِ الخيْلِ / التي تَسحبُ توابيتَ آبائنا / أيتها الغمامةُ التي تشنقني / كُوني الشَّاهِدةَ على ابتساماتي / كُوني شَعْرِي يَوْمَ تَسكنُ النيازك في جِبالِ حَنجرتي / وتتهاوى اللبؤاتُ في عُلبِ الكِبْريتِ الفارغةِ / ضِفدعةٌ اهترأَ مِشْطُها الفِضِّيُّ /
     رَاجِعاً مِن أمعاءِ الحافلات/ اصطدمتُ بِقَوْسِ قُزَحَ/ الزَّنبقاتُ الوحيداتُ / وقطاراتُ الغروبِ / والخبزُ المحمَّصُ في شِتاءِ الأرامل / أُعلنُ قِيامَ دَوْلةِ شقائقِ النُّعْمانِ في سُعالي / مُتَأَخِّراً وَصلتُ إلى ذِكرى مِيلادي / وكانتْ أحزاني تتقاسمُ الرُّتبَ العسكريةَ / كما تتقاسمُ الجيوشُ أوسمةَ الهزيمةِ / عِشْتُ ومِتُّ / وقِناعي يُحاولُ اكتشافَ وَجْهي / والقَمحُ يَنمو على نَعشي /
     يَا فَتاةُ / عَلى سَاعةِ يَدِكِ انقلاباتٌ عسكريةٌ وَرِياحٌ جائعةٌ / حتى أنتِ تُلاحقينني بالقُيودِ / كَيْفَ أَعُودُ بِلا مِنْجَلِ أَبي ؟ / كَيْفَ أَعُودُ ؟ / ضَاعَ ساعي البريدِ في شَوارعِ بُلْعومي / أُعانِقُ بَقايايَ وأزهارَ المقابرِ / ضَاعَ الضَّياعُ في ضَياعِ سَرطانِ الثدي في بَراميلِ النِّفْطِ / أتناولُ كَأْسَ عَصيرٍ مِن يَدِ الزِّنزانةِ / سَلاماً أيُّها الوَطنُ الضائعُ / سَلاماً أيُّها الحزنُ الطالعُ / رَمَاني المساءُ في قَوافي الشِّعْرِ / وَكُلُّ المحاكِمِ التي تَعْشَقُ تَشْريحي بُرتقالةٌ مَنْفِيَّةٌ / أَلُمُّ فُتاتَ الخبزِ لِئلا يَدُوسَه مَوْكِبُ الحاكِمةِ / جُعْتُ وَمَشَيْتُ حَافِي الرَّصَاصَتَيْن في المراعي / نِمْتُ مَعَ الأغنامِ في الشَّفق الذبيحِ / اشْتَغَلْتُ عَامِلَ نَظافةٍ في مَعِدتي التي تَصْلبني / والرَّمْلُ حَفِظَ جَدْولَ الضَّرْبِ / لِيَحْسِبَ الرُّقَعَ في ثَوْبي /
     خُلْجانُ الدُّموعِ / والمِدْخَنةُ المكْسورةُ التي قَصَفَتْها الطائراتُ / والمطابِخُ الخاليةُ مِن الأُمَّهاتِ / والرُّؤوسُ المقْطوعةُ تَحْتَ جُسورِ سَراييفو / كُنَّا نَائِمين في أكوابِ الشَّاي الأخضرِ / في مَرْسمٍ لِتَلْوينِ الآلهةِ الفاشلةِ / حِينَ سُحِقَت الشُّموسُ في ليالي العُشْبِ الأحْمرِ / والليلُ عُرْسُ الضَّبابِ الحامِضِ/ الفَتياتُ تَرَكْنَ مَناديلَ الوَداعِ لِنَوارسِ البَحرِ/ والعَصافيرُ تَنْقُرُ جَدائلَ الرَّاهباتِ المجروحاتِ عاطفياً / وعُمَّالُ النَّظافةِ يُكَنِّسُونَ الْجُثَثَ في الشَّوارعِ / وأنا الْمُهَاجِرُ في أشلائي الضَّوئيةِ / طَلَّقْتُ الْمَلِكَاتِ / وتَزَوَّجْتُ البَدَوِيَّاتِ / وعُدْتُ إلى رَعْيِ الغَنَمِ في الوَطَنِ الضَّائعِ /

     انْتَظِرْني يا جُرْحي في أعالي زَفيرِ الذبابِ / تكتبُ الشَّجراتُ وَصِيَّتها بِحِبْرِ حَنْجرتي / يَا غَيْمةً تُظَلِّلُ التَّوابيتَ الْمُزَخْرَفَةَ/ كُونِي أُخْتي في الدُّروبِ / يَنْسِفُ المطرُ شَهيقَ صُكُوكِ الغُفرانِ في مَمَرَّاتِ مَحاكمِ التَّفتيشِ / وعِندَما تَضيعُ الْجُغرافيا / ابْحَثْ عَن جَسَدِ امرأةٍ لِتَعيشَ فِيه / وعِندَما تَضيعُ الدَّولةُ / ابْحَثْ عَن صَوْتِ الْحَمَامِ لِتَمُوتَ فِيه .