15‏/04‏/2017

صرخة الأزمنة

صرخة الأزمنة

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 10/4/2017

.................

[1] لا أُحِبُّ إنشاءَ حَديقةٍ مَنْزليةٍ . أُحِبُّ مُساعدةَ الأزهارِ في اختيار مَقرِّها .

إذا أنشأتُ حديقةً فقد فَرضتُ شروطي على الأزهار . سأتركُ الأزهارَ تَكتشف مسارَها بِنَفْسها، وتحدِّد مصيرها دون إملاءات خارجية. أتركُ لها حريةَ الاختيار الذهني، والتطبيق الواقعي . وسوفَ أقوم بالمساعدة تطوُّعاً . وهكذا أُردُّ بعضَ الدَّيْنِ في عُنقي لتاريخي الشخصي ، وبيئتي الداخلية ، وبيئتي الخارجية ، وحضارتي الكَوْنية . لا أفرضُ شروطي ورؤيتي على العناصر ، وإنما أُساعد العناصر لكي تختارَ طريقها بنفسها دون ضغط خارجي. وقد عَلَّمتُ تلاميذي أن يَنقلبوا عليَّ، وألا يأخذوا كلامي كمُسلَّمات . لستُ صنماً ، ولا أودُّ أن يتَّخذني الآخرون صنماً . أُحبُّ التعرضَ للنقد البنَّاء لأنه يَكشف عيوبي، وهذا يُساعدني في ردم الثغرات في حياتي ، وإزالة نقاط ضَعفي ، وتعزيز نقاط قُوَّتي ، وتصحيحِ مساري ، وتحسين أدائي الحياتي . ورَحِمَ اللهُ مَن أهدى إِلَيَّ عيوبي . الحبُّ الحقيقيُّ لا يَظهر في الامتلاك ، وإنما يَظهر في التَّخلي . لا يَظهر في الاستحواذ ، وإنما يَظهر في المشارَكة . افتحْ بابَ القفص لكي يَطير العُصفورُ . إن تحريره هو السيطرةُ الحقيقية عليه . إذا حَرَّرْتَه فقد امْتَلَكْتَه إلى الأبد . اترك الزَّهرةَ في الحديقة ولا تَقطفها . إذا قَطَفْتَها فقد خَسرتَ نَفْسكَ وخَسِرْتَ الزَّهرةَ إلى الأبد . إذا قَطعتَ العلاقةَ بين الزَّهرةِ والأرضِ ، فقد قَطعتَ العلاقةَ بَيْنكَ وبين الأرض . والأرضُ هِيَ أُمُّنا التي أَنْجبتنا ، وهِيَ التي سَتَبْلعنا . العِشْقُ هُوَ التضحيةُ ، أن تَتركَ المرأةَ التي أَحْبَبْتَها إذا كُنتَ عاجزاً عن إسعادها ، تَتْركها لشخصٍ آخر قادرٍ على إِسْعادها . لا تكنْ عَقبةً في طريق الأشخاص الذين أَحبُّوكَ بدافع الأنانية ، وحُبِّ الامتلاك والسيطرة . إذا رَأيتَ نَفْسَكَ فَلَن تَرى الآخرين ، وهذا هُوَ الانتحارُ في الحياة ، فاهربْ مِن مُسْتنقعِ الانتحار إلى ضوءِ الحياة . إنَّ الحياةَ الحقيقية هي المعنى الإنساني الذي يَدور حَوْلَ التَّضحية، اتْرُك الْحُلْمَ للحالِم ، ولا تَنْسَ نَصيبكَ مِنَ الْحُلْمِ . المكانُ يَتَّسِعُ للجميع . ولا أحَدَ يَأخُذُ مكانَ أحَد .

[2]الفَيْلسوفُ هُوَ الكائنُ الوحيدُ الذي يَكونُ عُمرُه حَيواتٍ متكررة منبثقة من أحزانه المتكررة.

إِنَّ الفيلسوفَ هُوَ ضَميرُ الثورةِ الحيُّ ، إنه صَرخةُ العالَمِ الرافضِ للتدجين . مِهْنته هِيَ صَعقُ الناس لتحريرهم مِن أنفسهم ، وانتشالهم من النظام الاستهلاكي الخانق ، والأخذ بأيديهم إلى خالقهم ، وإِرْشادهم إلى الضَّوْءِ في نهاية النَّفق ، وإنقاذهم من الخوف لكي يَنطلقوا إلى الأمام . وأفضلُ طريقةٍ للتخلص من الخوف هِيَ اقتحامُه . ارْمِ نَفْسَكَ في قلبِ الخوف لكي تُفجِّرَ الخوفَ مِن دَاخله، وتَشعرَ بالأمان الروحيِّ والهدوءِ الماديِّ . إنَّ وَظيفةَ الفَيلسوف هِيَ البحث عن العِطْر في أكوام القُمامة . وَلَوْ خَيَّرُوني أن أَكُونَ فَيْلَسوفاً أوْ مَلِكاً ، لاخترتُ الأوَّلَ ، لأنَّه الملِكُ الحقيقيُّ . الفَلْسَفةُ تُزيلُ اكتئابي ، وتُشعِرُني بِجَدوى الحياةِ ، وأهميةِ العقلِ الإنسانِيِّ في حَركةِ التاريخِ ومَسارِ الوُجودِ. والفلسفةُ هِيَ فَنُّ التَّنقيبِ عن الذات وتطهيرُها. والوسيلةُ الوَحيدةُ لِتَخليدِ الفلسفةِ هِيَ بِنَاؤُها على رَمزيةِ اللغةِ والمشاعرِ الإنسانيةِ . وَسِوَى ذلك سَوْفَ تَزولُ الفَلسفةُ . الفلسفةُ هِيَ ضَوْءُ الشمعة، وخارطةُ الضوءِ ، وخُطةٌ واقعية لكي يُصبح الذَّكرُ رَجلاً ، وتصبح الأنثى امرأةً ، ويُصبح الشخصُ إنساناً . والفَيْلسوفُ يَحرقُ الشوائبَ في الرُّوح الإنسانية لكي يَمنح الخلاصَ والطهارةَ للإِنسان . إنَّ إزالةَ الشوائب من الرُّوح الإنسانية تَجْعل الرُّوحَ طاهرةً ومُطهِّرةً . ولا يَخفى أن إزالةَ الشوائب من الذَّهبِ تَرتقي بالذَّهبِ إلى درجةٍ أعلى . ولا مَكان للبريقِ في ظِلِّ وُجودِ الشَّوائب . عُمر الفَيْلسوفِ حَيَوَاتٌ متكررة لأنه يَعيش في أماكن كثيرة دون أن يُغادِر مكانه، ويُولَد في أزمنة كثيرة مع أنَّ تاريخَ ميلاده _ في شهادة الميلاد الرَّسمية _ واحدٌ لا يتكرر . وهذه الحيواتُ الحارقةُ المحترِقةُ تَنبعث من أحزانه ، لأنه موجودٌ في مجتمعٍ استهلاكي .

[3] مَا يَدْفعُ الأشخاصَ إِلى الكتابةِ هُوَ حُبٌّ عَنيفٌ أو حُزْنٌ عَنيفٌ .

الكتابةُ تَعبيرٌ عن الأنا الأُخرى الكامنةِ فِينا ، وعمليةُ تطهُّرٍ مستمرةٌ . والأشخاصُ يُمارِسون فِعلَ الكتابة مُنطَلِقين مِن حُب عنيف أو حُزن عنيف . وهاتان الطاقتان ( الحب / الحزن ) أكبرُ من قُدرة الإنسان على التَّحمل، فيتمُّ اللجوء إلى الكتابةِ للتخلص من هذا الحِمْل الزائد ، وهذا الضغطِ الهستيري ، مِمَّا يُؤدي إلى تحقيقِ التوازن في النَّفْسِ البشريةِ . إِنَّنا في سَفينةٍ مهترئةٍ في قلب البحرِ الثائر ، ويَنبغي التخلصُ من الأحمال الزائدة لكي تَستعيدَ السفينةُ توازنَها، ويَستعيدَ البحَّارةُ ثِقتهم بأنفسهم ، ويَصلوا إلى شاطئِ الأمان . ورَغْمَ كُلِّ شيء ، سَيَظلُّ الكاتبُ الحقيقيُّ هُوَ الذي يَعتبر الكتابةَ موقفاً من الوجود بِأَسْره ، لا لحظةَ حُب زائلة ، أو شعوراً حزيناً عابراً . إنَّ الكتابةَ هِيَ فَلسفةُ الوجودِ الواقعيِّ والخيالِيِّ ، ولَيْسَتْ هِوَايةً لِمَلْءِ وَقْتِ الفَراغ ، أو وَجاهةً اجتماعية . وأبجديةُ الْحُلْمِ في الكتابةِ هِيَ العذابُ المتواصلُ الذي يَهْدِفُ إلى تَخليصِ المجتمعِ مِنَ العذابِ ، وتَحريرِ الأنساقِ الحياتية مِنَ الفَوضى ، وترسيخِ المعاني الثَّورية في أقصى المشاعرِ الإنسانية .

[4] كُنْ مِسْماراً في نَعْشِ الاحتلالِ لا قِيثارةً يَتغنَّى بها الأحرارُ .


التَّضحيةُ بالنَّفْسِ أعلى درجات التضحية . ولا بُدَّ مِن مواجهة الاحتلال بالحديد والنار ، فما أُخذ بالقوة لا يُستردُّ إلا بالقوة . أمَّا بناءُ نسقٍ رومانسي حالِم فهو أداءٌ متأخرٌ لا يَجوز البَدءُ به . وفرقٌ شاسعٌ بَيْنَ مَن يَكتبُ بِدمه ، وَمَن يَكتب بالحِبر . الموتُ أعلى وأقوى مِن الحُبِّ . والسَّيفُ هُوَ البُنيةُ التحتيةُ ( الحاملة ) ، والقلمُ هو البنيةُ الفَوْقية ( المحمولة ) . والأساسُ هو البنية التحتية . جَذرُ الشَّجرةِ أهمُّ بكثير مِن الأغصان . ولا يُمكن أن يُفكِّرَ العَقلُ إِلا إِذا أُشبعت الغرائزُ ( الحاجات البيولوجية ). وإذا أرادَ أحدُهم الوصولَ إلى الطابقِ الثاني في بنايةٍ ما ، فلا بُدَّ أن يمرَّ بالطابقِ الأول . لا بُدَّ مِنَ البناءِ الإنسانِيِّ وَفْقَ التَّفكيرِ المنطقيِّ الْمُتَسَلْسِلِ . وهذا المبدأ الثابت هو أساسُ الفَلسفةِ الحياتيةِ ، حياةِ الفردِ وحياةِ الجماعة .