04‏/05‏/2017

سان جون بيرس والغربة الأبدية

سان جون بيرس والغربة الأبدية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 4/5/2017

..................

     وُلد الشاعر والدُّبلوماسي الفرنسي سان جون بيرس ( 1887_ 1975) في إحدى جُزر الأنتيل . اسمه الحقيقي ألكسي سان ليجي . انتقل إلى فرنسا في 1898 للدراسة بمدينة بوردو . وفي عام 1914 ، التحق بوزارة الخارجية ، حيث تولى عدة مناصب دبلوماسية في بكين وواشنطن ، ثُمَّ ترقَّى إلى منصب السكرتير العام لوزارة الخارجية .
     عاش بيرس حياة الغربة والترحال الدائم، وهذا الأمر جعله يبتعد في الرؤية الفكرية ، والمعالجة الشِّعرية . وهذا سبب تَمَيُّزه عن مُعاصريه من شعراء النصف الأول من القرن العشرين مِثْل : لوركا ، وكافافيس ، وماياكوفسكي .
     لقد حَوَّلته الغربة إلى إنسان عائش في الأحلام والذكريات ، وصار يرى الأمور من منظور فلسفي مُتميِّز ومُختلف عن الآخرين . كما أنَّ الترحال الدائم جعله يَلتقي بأشخاص مختلفين دينياً وعِرقياً وفكرياً ، كما ساهم في تَعَرُّفه على عادات الشعوب وثقافاتها . ولا شَكَّ أن هذا الانفتاح على الحضارات في الشرق والغرب ، ساهمَ بشكل كبير في توسيع ثقافته ، وإبعاده عن النظرة الأحادية الضَّيقة، وزيادة خِبرته العملية.وهذا انعكسَ إيجاباً على مستواه الفكري وإبداعه الشِّعري.
     لقد كان بيرس شاعراً شديد الحساسية والتميز . يمتلك إحساساً بالرِّفعة والعُلُوِّ . وعلى الرغم من كثرة أسفاره ، واختلاطه بكثير من الناس أثناء ترحاله الدائم ، إلا أنه كان دائم العودة إلى نَفْسه ، ولا يَعيش إلا مع ذاته . كان معتزلاً بصورة دائمة ، وغائباً باستمرار .
     والعُزلةُ والاعتزالُ والغيابُ ، كُلها قيم فكرية ذات تأثير هائل في حياته الشخصية ، وواضحة في شِعره وأفكاره . لقد انعكست تفاصيل حياته الشخصية على أشعاره . وصار مَتنه الشِّعري أشبه بوصفة سِحرية، وخليط من الأحلام الضائعة، والذكريات البعيدة ، والبشر الراحلين في الزمان والمكان . وكأنَّ الشاعر يُقدِّم للبشرية خطاباً شِعرياً مترامي الأطراف ، ونمطاً صعباً وعسيراً على الفهم ، يمتلأ بالصياغات اللغوية الغامضة ، ويتحرَّك ضمن صوت مُقنَّع وأفكار لا نهائية .
     صاغَ بيرس خطاباً شِعرياً شديد التعقيد على الصعيدين اللغوي والفكري ، وكأنَّه خِطاب من العالَم القديم لأحد الخطباء الرومان ، تَمَّ إعداده لِيُلقى على الأمراء وعِلية القَوم . وهذا يدل على أن الشاعر كان نُخبوياً إلى أبعد درجة ، ولَم يكن معنياً بالوصول إلى الناس ، أو تحقيق جماهيرية ونجومية بينهم. لقد آمنَ أن الشِّعر مِرآة الرُّوح الغامضة ، وفن نُخبوي سِرِّي لا علاقة للعوام بِه .
     يمتاز شِعر بيرس بغنائية ذات طبيعة ملحمية ، لا نظير لها بين مُعاصريه . كما أنه يُعتبَر أكبر مُجدِّد في الشِّعر الفرنسي . فعلى المستوى التقني ، نجده يتخلى عن البيت الشِّعري ، لِيُؤسِّس المقطع الشِّعري المتكامل الذي يُشبِه الفقرة ، كما أنه تخلى عن بحور الشِّعر الفرنسي التقليدية ، وراحَ يكتب الشِّعر على شكل إيقاعات متتالية ، ذات موسيقى خاصة بها .
     إن الغربة روحياً ومكانياً تتجلى بكل وضوح في أدق تفاصيل حياة الشاعر . فقد وُلد في أرض غريبة ( إحدى جُزر الأنتيل ) . وتَقَلَّدَ مناصب دبلوماسية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية في بلادٍ بعيدة . ثُمَّ عاش حياة الاغتراب منذ الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة الأمريكية .
     وكل هذا التشرد في المدن والبلاد والجغرافيا ، لَم يفصله روحياً عن العالَم ، ولَم يُؤثِّر سلباً على حساسيته الشِّعرية، ومرجعيته الفكرية. فقد نشر ديوانه الشِّعري الأول"مدائح " عام 1911 تحت اسمه الحقيقي. وبعدها يصمت لمدة ثلاثة عشر عاماً،مع انقطاع عن الوسط الشِّعري الفرنسي، باستثناء صديقيه الشاعر بول كلوديل ، والكاتب فكتور سيغالين الذي كان دليله لمعرفة العالَم الآسيوي مُمثَّلاً بالمجال الثقافي الصيني .
     وهذا الابتعاد جعله بمعزل عن التأثر بالتيارات الشِّعرية في عصره كالسريالية ، والشِّعر الملتزم النضالي. وقد كان كثيراً ما يَسخر من السرياليين ، ويَعتبرهم عائشين في الأوهام والخديعة البصرية.
     وفي عام 1924 ، أصدر ديوانه الشِّعري الثاني" صداقة الأمير " تحت اسم سان جون بيرس ، وهو الاسم الأدبي الذي اختاره لنفسه ، ليتخفى وراءه طيلة حياته الأدبية .
     وفي العام نفسه ، نشر قصيدته الأشهر " آناباز " التي كرَّسته شاعراً عالمياً . و " آناباز " ليس اسماً لفتاة كما يُخيَّل إلى البعض . بل هو تعبير إغريقي قديم يعني " رحلة إلى داخل الذات " .
     وبعدها يصمت مرةً أخرة لمدة ثمانية عشر عاماً ، ثُمَّ يُصدر قصيدته " منفى " التي نشرها في ثلاث مدن في آنٍ معاً : شيكاغو ، وبوينس آيرس ، ومرسيليا ، كما ظهرت بباريس في طبعة سِرِّية . ثُمَّ نشر بشكل متتابع : " قصائد إلى الغريبة " ( 1943) ، ويتلوها بقصيدة " أمطار "    ( 1943) . ثُمَّ قصيدة " ثلوج " ( 1944) ، ويَتلوها بقصيدة " رياح " ( 1946) . وفي عام 1953 ، جمع كُل هذه القصائد المطوَّلة في كتاب واحد عنوانه ( أعمال شِعرية ) .

     وكل هذه الإنجازات الشِّعرية ذات الطبيعة الملحمية المتفرِّدة، ساهمت في فوزه بجائزة نوبل للآداب عام 1960 .