20‏/06‏/2017

المرأة التي تكرهني تُحرّرني

المرأة التي تَكرهني تُحرِّرني

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 20/6/2017

................

(1) المرأةُ التي تَكْرَهُني تُحرِّرني .

     الْحُبُّ نوعٌ من الاستسلام والخضوع . إنه الانكسار أمام القوة الناعمة . والمرأةُ التي تُحِبُّني تُحمِّلني فَوْقَ طَاقتي ، وتضغطُ على أعصابي ، وتفرضُ عليَّ شُروطَها بدافع الحب والتهذيبِ . وهذا يَجعلني خاضعاً لإملاءاتها ونظامِ حياتها . وبالتالي ، أخسرُ إيقاعي الشخصيَّ ، وأَخْرجُ مِن جِلدي شَيئاً فشيئاً، وأفقدُ هُوِيَّتي المميَّزة ، ونظامَ حياتي . وبعبارة أخرى ، سَأُسَلِّمُ أسلحتي لها ، وأُضحِّي بنقاطِ قُوَّتي في سَبيل أوهامٍ عاطفية عابرة . والبقاءُ على الشاطئِ أفضلُ من الإِبحار بلا بوصلة . أمَّا المرأةُ التي تَكْرهني فهي تُسدي إِلَيَّ مَعْروفاً ، تُريحني وتُريح نَفْسَها . تُريحني مِن الضَّغطِ والتَّضحيةِ ، وتُريحُ نَفْسَها مِن ذِكرياتي وأحزانِ طفولتي ، فَنَصِلُ إلى حالة التعادل ، فلا أَفرضُ عليها شُروطي ، ولا تفرضُ عليَّ شُروطَها ، وهذه العمليةُ هِيَ جَوهرُ الحرية والتَّحرر والتحرير . حيث لا غالب ولا مغلوب .

(2) البَشرُ يَخْترعون حَواجز وهميةً ثم يُضيِّعون وَقْتهم مُفكِّرين في تجاوزها .

     إِنهم مَرْضى بالوَهْم . خَيالُهم المريضُ يَبْني لهم قُصوراً مِن الرِّمال . يَخْدَعُهم السَّرابُ فَيَخْدَعون أَنْفُسَهم وَيُصَدِّقون الأُكذوبةَ . الحياةُ كُلُّها أُكذوبة. وَبَعْدَ ذَلكَ يَمْضون في حَياتهم تَائِهين ، يُضيِّعون وَقْتَهم وَجُهْدَهم مُفكِّرين في كَيْفيةِ الانتصار على السَّرابِ ، وسَحْقِ الهواء ، وتفسيرِ الماءِ بالماء .

(3) يُولَدُ الإِنسانُ عِدَّة مَرَّاتٍ ، ويموتُ عِدَّة مرات .

     الإنسانُ هُوَ الخرافةُ المركزيةُ في هذا العالَمِ . جَاءَ مِن التُّرابِ وَسَيَعودُ إلى الترابِ كأنه لم يأتِ أصلاً. له وِلاداتٌ عديدة، وَهِيَ انبعاثاتٌ وإشراقاتٌ وَقْتيةٌ ، لَيْتها كَانت دائمةً . وفي نَفْسِ الوقتِ يَموتُ أكثر مِن مَرَّة . وحالاتُ مَوْته هِيَ نِقاطُ ضَعْفه ، ولحظاتُ انكساره ، وضَياعُ أحلامه . وَسَوْفَ يَظلُّ الإنسانُ حُلْماً هُلامياً ضائعاً في بحر متلاطم الأمواج .

(4) أشتاقُ إلى الأزمنةِ التي أَنبعثُ فيها .

     هذا أنا أشتاقُ إلى حَركةِ الزَّمن التي تتفجَّرُ فِيها أحلامي ، وتتدفَّقُ على سَطْحها ذِكْرياتي . وأشتاقُ أيضاً إلى تضاريسِ التراب ، تِلْكَ الأمكنة التي أُذبَح فيها مبتسماً كالأبله . لَقد صَدَرَ الْحُكْمُ قَبْلَ المحاكَمةِ. انبعاثِي مَوْتي . إِنَّهُ الصُّعودُ إلى الهاويةِ . إِنَّه عَوْدةُ التُّرابِ إلى التراب ، وَرُجوعُ الطِّفلِ إلى حِضن أُمِّه .
(5) الانكماشُ في الأنا العُليا أَساسُ كُلِّ جَريمةٍِ .

     عِنْدما يَتَقَوْقَعُ الشَّخصُ في ذَاته ، ويُعْلِي قَدْرَ نَفْسِه على حَسابِ الآخرين ، سَوْفَ يَسقطُ في حُبِّ الذاتِ وازدراءِ غَيْره . وهذه الأنانيةُ المفرِطةُ هِيَ الأساسُ الفكريُّ للجريمةِ . فالجريمةُ هِيَ مُنتهى الأنانية ، والحقدُ على الآخرين ، والطمعُ الجنوني . المجرِمُ جَعلَ لَذَّته هِيَ مَركز الدائرة ، وجعلَ مُتعته فَوْقَ شُعورِ الآخرين وحياتهم ، فَسَقَطَ في الهاويةِ السَّحيقة ، وهُوَ يظنُّ أنه يَصعد إلى القمة .

(6) وَراءَ كُلِّ طاغية فَيْلسوفٌ مُنْحَرِفٌ .

     الانهيارُ الأخلاقيُّ لم يجئ بِمَحْض الصُّدفةِ . إنه نتاجٌ تراكمي ، وبناءٌ طبقي شديد التعقيد ، وجذورٌ مسمومة ضاربة في الأعماق . وما كان لهذه الجذور أن تجد أرضاً خصبة لولا وجود الفلاسفة المنحرِفِين الذين يَجعلون النهارَ لَيْلاً ، والليلَ نهاراً . يَستخدمون المنطقَ لِشَرعنة الأوهام ، ويتلاعبون بالكلماتِ الرَّنانة لتزيين القُبحِ ، وتحويلِ الرائحةِ الكريهة إلى عِطر فَوَّاح .

(7) يَتخلَّى الفردُ عن انتمائه الوطنيِّ حين تُشْعِرُهُ حكومتُه أنَّ وُجودَه كَعَدَمِه .


     حِينَ يَشعر الفردُ أنه رَقْمٌ تافه في أرشيف ذاكرة المجتمع ، فسوفَ يَنسحب من مجتمعه لِيَسقطَ في بِئر ذاته ، فينسلخ عن هويته، ويتخلى عن الانتماء ، لأن الانتماء _ حينئذٍ _ يُصبح عِبئاً عليه ، وحِملاً ثقيلاً . وهكذا يَفقدُ الفَردُ ظِلَّه ، ويُصبحُ عاطلاً عن الوطن ، ويَخسرُ اسْمَه ، فيكتسبُ اسماً جديداً قاتلاً هُوَ " اللامنتمي " .