18‏/04‏/2018

فرجينيا وولف ورسالة انتحارها

فرجينيا وولف ورسالة انتحارها

للكاتب / إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 18/4/2018

..................

     وُلِدت الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف ( 1882_ 1941) في لندن . تُعتبَر سَيِّدة الرواية الإنجليزية الحديثة ، ومِن أهم الرموز الحداثية في أدب القرن العشرين .
     في 28 مارس 1941 ، ارتدت فيرجينيا معطفها ، وملأته بالحجارة وأغرقت نفسها في نهر ( أوس ) القريب من منزلها . ووُجِدَت جثتها في 18 أبريل 1941. ودَفن زوجُها رُفاتها تحت علم في حديقة مونكس هاوس في رودميل ساسيكس .
     في رسالة انتحارها كَتبت لزوجها : (( عزيزي ، أنا على يقين بأنني سَأُجَن ، ولا أظن بأننا قادران على الخوض في تلك الأوقات الرهيبة مرة أخرى ، كما ولا أظن بأنني سأتعافى هذه المرة ، لقد بدأتُ أسمع أصواتًا ، وفقدتُ قدرتي على التركيز . لذا ، سأفعل ما أراه مناسبًا . لقد أشعرتني بسعادة عظيمة ، ولا أظن أن أي أحد قد شعر بسعادة غامرة ، كما شعرنا نحن الاثنين سَوِيَّة إلى أن حَل بي هذا المرض الفظيع . لستُ قادرة على المقاومة بعد الآن ، وأعلم أنني أُفسِد حياتك، وبدوني ستحظى بحياة أفضل . أنا متأكدة من ذلك ، أترى ؟ ، لا أستطيع حتى أن أكتب هذه الرسالة بشكل جيد ، لا أستطيع أن أقرأ . جُل ما أُريد قوله هو أنني أدين لك بسعادتي . لقد كُنتَ جَيِّدًا لِي وَصَبُورًا عليَّ . والجميع يعلم ذلك . لو كان بإمكان أحد ما أن يُنقذني فسيكون ذلك أنت . فقدتُ كل شيء عدا يقيني بأنك شخص جيد . لا أستطيع المضيَّ في تخريب حياتك ، ولا أظن أن أحد شعر بالسعادة كما شعرنا بها )) _ انتهت الرسالة _ .
     هذه الرسالة المؤلمة والمؤثِّرة ينبغي تحليلها بشكل تفصيلي ودقيق ، والوقوف على ألفاظها ومعانيها والأفكار الكامنة بين السطور :
[1] (( عزيزي ، أنا على يقين بأنني سَأُجَن )) : إن الكاتبة تحمل مشاعر الحب والاحترام تجاه زوجها ، وتُدرِك تمامًا أنه الشخص المخلِص لها ، والقادر على تفهُّم معاناتها . إنها مُتأكِّدة أن الجنون مصيرها ، وأنها تفقد قواها العقلية شيئًا فشيئًا ، وهذا يدل على حجم الاضطراب في داخلها ، والانهيار الشامل في أعصابها ، وكأنها تسير إلى الجنون برجليها ، دُون وجود أي أمل . إنه ذهاب بلا عودة .
[2] (( ولا أظن بأننا قادران على الخوض في تلك الأوقات الرهيبة مرة أخرى )) : لا تستطيع الكاتبة العودة إلى الماضي ، وعقارب الساعة لا تعود إلى الوراء . لقد تعذَّبت كثيرًا في السابق ، وتعذَّب زوجها معها . وقد فَقدت القدرة تمامًا على تكرار التجربة السابقة ، لأنها في حالة انهيار كامل ، ولا تُريد تكرار العذابات السابقة.
[3] (( كما ولا أظن بأنني سأتعافى هذه المرة )) : مِن الواضح أن هذه المرة مختلفة عن المرة السابقة . فالكاتبة غير مُقتنعة بإمكانية شفائها ، ولا تظن أننها ستتعافى مِن مرضها الذي يُهيمن على عقلها وبدنها .
[4] (( لقد بدأتُ أسمع أصواتًا، وفقدتُ قدرتي على التركيز )) : إنها تغرق في الوساوس والهواجس والهلاوس. هناك أصوات تتردد في داخلها ، وتسمعها بوضوح . وهذه الأصوات الداخلية تُهيمن على عقلها ، وتمنعه من التفكير ، لذلك فقدت قُدرتها على التركيز، لأن الجبهة الداخلية مُنهارة، ومعنوياتها مُحطَّمة، وإرادتها مكسورة، وبالتالي ، لا تستطيع أن تُواجه الحياة ( الجبهة الخارجية ) ، ولا تقدر على التعامل مع الناس .
[5] (( لذا ، سأفعل ما أراه مناسبًا )) : بعد انهيارها الشامل ، وانكسارها الكامل ، اتَّخذت قرارها الشخصي عن قناعة ، وبدون ضغوطات . لقد فقدت الأملَ ، وخسرت معركتها مع الحياة ، لذلك ، ستفعل ما تراه مُناسبًا لحياتها ، وهو وضع حد حياتها ، والإقدام على الانتحار . وهذا هو الحل الوحيد_ وفق تفكير الكاتبة _.
[6] (( لقد أشعرتني بسعادة عظيمة )) : لا تُريد الكاتبة أن تكون وحيدةً . إنها تُخاطب زوجها ، وتعترف بأهميته في حياتها ، وتُقدِّر دَوره الكبير في إسعادها ، وجعل حياتها مُفعمة بالجمال والفرح والتفاؤل ، وهذه المشاعر الجيَّاشة لا تُنسَى ، وهي مزروعة في ذهن الكاتبة ، وتُمثِّل مصدرًا للطاقة الإيجابية في حياتها .
[7] (( ولا أظن أن أي أحد قد شعر بسعادة غامرة ، كما شعرنا نحن الاثنين سَوِيَّة إلى أن حَل بي هذا المرض الفظيع )) : إنها تعود بالذاكرة إلى الوراء ، إلى السعادة والهناء والحب والتوافق بينها وبين زوجها . كانا أسعد زَوجين _ وفق تقييمها لحياتها الزوجية _ ، وقاما ببناء آمال عريضة على المستقبل الذي كان يبدو مُشرقًا وسعيدًا ، إلى أن هاجمها هذا المرض المرعب فجأةً ، ودمَّر كيانها ، وأحالَ حياتها إلى جحيم لا يُطاق . لقد نسف هذا المرض القاسي كل مشاعر السعادة ، وحطَّم كُل الآمال بلا رحمة . وهكذا ، انتهى معنى حياتها الزوجية .
[8] (( لستُ قادرة على المقاومة بعد الآن )) : هذا هو إعلان الاستسلام ، والتسليم بالأمر الواقع . لقد رَفعت الرايةَ البيضاء أمام المرض الفظيع ، ولَم تعد قادرة على مُقاومته . لقد خسرت إرادتها وقُدرتها أمام هذه المشكلة الرهيبة .   
[9] (( وأعلم أنني أُفسِد حياتك )) : تتعذَّب الكاتبةُ بسبب زوجها ، وتُحمِّل نفسها المسؤوليةَ ، وتعتبر نفسها السبب في إفساد حياة زوجها . ووفق هذه الرؤية ، فإن زوجها ضحية لها . وهي تُريد أن تُريحه مِنها ، كَي يَشعر بالسعادة والهناء . تُريد أن تُضَحِّيَ بنفسها مِن أجله . تعتبر وجودها حجر عثرة في طريق زوجها ، لذلك قرَّرت أن تزيح نفسها مِن طريقه ، وتترك له الحياة كي يستمتع بها . ما ذَنْبُه كي تنهار حياته بسبب زوجته ؟ .
[10] (( وبدوني ستحظى بحياة أفضل . أنا متأكدة من ذلك )) : هذه قمة التضحية _ وفق منظور الكاتبة _، عليها أن تُنهيَ حياتها كي يحظى زوجها بحياة أفضل ، وهي متأكدة مِن ذلك . إنها تحب زوجها وتحترمه ، ولا تُريد أن يدفع ثمن بقائه معها . تُريد أن تدفع الثمن وَحْدَها ، وأن تُضحِّي بحياتها من أجل راحة زوجها .
[11] (( أترى ؟ ، لا أستطيع حتى أن أكتب هذه الرسالة بشكل جيد ، لا أستطيع أن أقرأ )) : إن عجز الكاتبة عن الكتابة بشكل جيِّد هو انتحار معنوي لها ، وبقي عليها أن تُحوِّله إلى انتحار حقيقي على أرض الواقع . إنها عاجزة عن الكتابة والقراءة ، وهي الكاتبة العالمية الشهيرة . هذا يعني أنها دخلت في نفق مُظلِم ، ولا يوجد ضوء في آخره ، وبما أنها فقدت القدرة على الكتابة والقراءة ، فلا معنى لحياتها ، ولا جدوى مِن بقائها ، لأنها كانت تستمد شرعية وجودها من الكتابة والقراءة . والآن ، سقطت هذه الشرعية إلى الأبد .
[12] (( جُل ما أُريد قوله هو أنني أدين لك بسعادتي )) : تتمسَّك بزوجها حتى آخر لحظة ، وتعترف بأنه سبب سعادتها في الحياة ، وأنها مدينة له بالمشاعر الجيَّاشة ، والأحاسيس الجميلة . تُريده أن يَعرف _ قبل رحيلها النهائي _ أنها تعترف بفضله ودَوره المركزي في حياتها ، وهي تُقدِّر مكانته في حياته ، ولا تُنكِر تضحياته من أجلها ، وهي الآن تُريد وضع حد لهذه التضحيات ، كَي تتعذَّب وَحْدَها ، وتتركه للسعادة والهناء في الطريق الذي سيمشيه وَحْدَه بدونها .
[13] (( لقد كُنتَ جَيِّدًا لِي وَصَبُورًا عليَّ . والجميع يعلم ذلك )) . تُعدِّد صفاته الرائعة وأخلاقه الحميدة . كان جَيِّدًا بالنسبة إليها ، وساعدها في حياتها ، ولَم يُسبِّب لها أيَّة مشكلة ، وكان صَبورًا عليها ، ولَم يُضايقها . تَحَمَّل جميع مشكلاتها الذهنية بصدر رحب، ولَم يُشعِرها بنقصها ولا مرضها . وهذا هو معنى الرجولة الحقيقي.
[14] (( لو كان بإمكان أحد ما أن يُنقذني فسيكون ذلك أنت )) : لقد أنقذها زوجها مِن أزماتها السابقة ، وساندها في أصعب الظروف ، ولكن الأمور وصلت إلى نقطة العَودة ، ولو كان هناك مُنقِذ ومُخلِّص فسيكون زوجها، ولكن القضية حُسِمَت ، وانتهى الموضوع . وهي الآن تمشي وحيدة إلى الموت بلا مُنقِذ ولا طَوق نجاة.
[15] (( فقدتُ كل شيء عدا يقيني بأنك شخص جيد )) : زَوجها هو الاستثناء . فقدت ثقتها بكل العناصر مِن حولها ، وخسرت كُل شيء . والشيءُ الوحيدُ الثابت في قلبها ووجدانها هو اليقين التام بأن زوجها شخص جَيِّد ، عاملها بحب واحترام وتقدير ، وهي لَن تنسى له هذا المعروف في طريقها إلى الانتحار .
[16] (( لا أستطيع المضيَّ في تخريب حياتك )) : تُحاول الكاتبة إيجاد مُبرِّر لتصميمها على الانتحار . إنها تعتبر نفسها عقبة في طريق زوجها ، ونقطة سَوداء في صفحته ، فقد دمَّرت حياته ، وزرعت الخراب في تفاصيل وُجوده ، وعليها أن تُكفِّر عن هذه الخطيئة بالتخلص من نفسها ، كي تصبح حياة زوجها بلا مشكلات .
[17] (( ولا أظن أن أحَدًا شعر بالسعادة كما شعرنا بها )) : هذه العبارة هي السطر الأخير في الرسالة التي أقرب ما تكون إلى وصية قبل الموت ، أو استعادة للذكريات قبل الوداع . إنها تُلخِّص حياتها مع زوجها بأنه قمة السعادة ، التي لا تظن أن أحَدًا وصل إليها . ومشاعرُ السعادة كانت تملأ حياتهما . أمَّا الآن ، فقد انتهى كُل شيء ، ويجب وضع نقطة في نهاية السطر . إن الكاتبة قرَّرت الانتحار ، وهذا القرار لا رجعة فيه ، وها هي تكتب النهاية بملء إرادتها ، ودُون ضغط مِن أحد . ولكل بداية نهاية . وهذه هي النهاية المأساوية .