28‏/07‏/2018

العقل في مواجهة الشهوة

العقل في مواجهة الشهوة 

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

........................

[1] الفَيْلَسُوفُ الذي يَكْتُبُ لِنَفْسِهِ يُؤسِّس فَلْسَفَتَهُ في الهواءِ .
     الفلسفةُ هِيَ الشِّيفرةُ السِّريةُ للوُجودِ الإنسانِيِّ ، والمِفتاحُ السِّحريُّ لأبوابِ التاريخِ الحضاريِّ. وهذه الرُّتبةُ السَّامِيَةُ التي وَصلتْ إلَيها الفلسفةُ ، جَعَلَتْ مِنَ اللغةِ الفلسفيةِ لُغةً شَديدة التَّعقيد ، لأنَّ الأفكارَ العظيمةَ لا تُحْمَلُ إلا على الكلمات القوية ، كناطحات السَّحاب لا تَقوم إلا على أقسى أنواع الفولاذ . ومعَ هذا ، لا بُدَّ مِنَ الوُصول إلى نُقطة ما في مُنتصَف الطريق ، وذلك كَحَلٍّ وَسَط . فالفَلسفةُ هِيَ عِلْمٌ إنسانِيٌّ ، والإنسانُ هو الرَّكيزة الأساسية في الفلسفة ، فلا بُدَّ أن تَصِلَ إلَيه الكلمات، كَي تَتِمَّ عَمليةُ الاستيعاب ثُمَّ التطبيق على أرض الواقع. وهُنا تَبْرُز مَهارة الفَيلسوف في صناعة كلمات واضحة وقوية في آنٍ مَعًا ، وتَوليد أفكارٍ عَظيمة ومَفهومة في الوَقْتِ نَفْسِه .
[2] الكاتب لا يَحْمِلُ اسْمَه إلا مؤلفاته .
     " مَنْ خَلَّفَ ما مَات " . والكاتبُ خَلَّفَ تَرِكَةً فكريةً ، سواءٌ تزوَّجَ أَم لَم يتزوَّج . لقد تَرَكَ كلماته في هذا العالَم تَسْبَحُ بلا تَعَبٍ . الشخصُ العاديُّ يَسْعَى إلى الخلودِ عَن طَريقِ التكاثر البيولوجي. أمَّا الشخص الْمُبْدِعُ فَيَسْعَى إلى الخلودِ عَن طريق مُمارَسة الكِتابة ( التكاثر الرُّوحي ) . فالكلمةُ تظلُّ إلى الأبد ، لا تَتحلَّل حُروفُها في التراب ، ولا يَأكلها الدُّود .
[3] عِندَما تَتعاملُ مَعَ الذِّئابِ ، مِنَ الغباءِ أن تَفترِضَ حُسْنَ النِّية .
     لماذا تتعاملُ مَعَ الذِّئاب ؟ ، لأنَّكَ خاضعٌ لسياسة الأمر الواقع . ولَم تَجِد المصلحةَ في التعامل مَعَ الحِمْلان ، فصارَ التعاملُ مَعَ الذئاب هُوَ المصلحة . الأمرُ مَفروضٌ عَلَيك ، ولَيْسَ اختيارًا حُرًّا . لا تَتحوَّل إلى ذِئب أثناءَ التعامل مَعَ الذئاب . احتفِظْ بالْهُوِيَّة الإنسانية ، والشخصيةِ الحضارية ، ولكنْ، تَفَقَّدْ سَلاحَكَ في كل وقت ، واحفظ خَطَّ الرَّجعة . الذِّئبُ سَيَظَلُّ ذِئبًا ، وهذا لَيْسَ ذَنْبَهُ ولا مُشْكِلَتَهُ . هذه مُشكلتك أنتَ . لا تَلُمْ الثَّوْرَ إذا قَتَلَ الْمُصَارِعَ . الْمُصَارِعُ دَفَعَ ثَمَنَ حَماقته . لَم يَكُن الثَّوْرُ وَحشيًّا ، ولَم يَكُن الْمُصَارِعُ رُومانسيًّا . الصَّيادُ هُوَ الصَّيادُ . والفَريسةُ هِيَ الفريسةُ.
[4] كِتابةُ القَصيدةِ مِثْل العَمليةِ الجِراحية .
     القصيدةُ مُخْتَبَرُ الوجودِ . والشاعرُ هُوَ مُخْتَبِرُ الأنساق المعرفية . يَكتبُ الشاعرُ قَصِيدَتَهُ كما يَقومُ الطبيبُ بالعملية الجراحية. لا فَرْقَ بين طبيب وطبيب إلا بالمهارة والمشاعر والذكريات . وحجمُ الألَمِ هو الذي يُميِّز المريضَ عن المريض . أغسلُ يَدَيَّ بالماء والصابون قَبْلَ كتابةِ القصيدةِ وبَعْدَها ، لِئَلا تَنتقل جَراثيمُ الأحزان إلى جسد الذاكرة . أُطَهِّرُ قَصيدتي مِنَ أصواتِ الضَّحايا ، وأُطَهِّرُ قَلبي مِن الأضداد والأندادِ . قَد يَخرجُ المريضُ مِن غُرفة العمليات إلى المقبرةِ ، وقَد يَخرجُ إلى أحضان زوجته . لا شَيْءَ مَضْمُونًا في الأنساقِ الإنسانية والأنساقِ الفكرية .
[5] القَصيدةُ هِيَ الْمُعادَلةُ الأُنثويةُ التي تُعَوِّضُني عَن غِيابِ المرأة في حَيَاتي .
     اخْتَفَت المرأةُ مِن حياتي ، لأنَّني اخْتَفَيْتُ مِنَ الحياةِ . أنا مَغرَمٌ لا مَغنَمٌ . لَوْ أحَبَّتْنِي امرأةٌ فأنا خاسرٌ وَهِيَ خاسرةٌ . هل سَتَكون الكراهيةُ هي وسيلةَ النَّجاة ؟ . إنَّ النَّوْمَ على مقاعد محطة القِطارات أفضلُ من الركوب في القطار الخطأ . التَّوقيتُ مُهِمٌّ ، والوُجهة مُهِمَّةٌ . ولكنَّ الحياةَ لا تَتوقَّف. سأبحثُ عَن أُنوثةِ عناصر الطبيعة لأظلَّ حَيًّا في قلبِ الأبجدية . القصيدةُ هِيَ اختزالٌ لعناصرِ الطبيعة ، والأُنثى المتكرِّرة في الوجوه لا الأقنعة ، والقصيدةُ الأُنثى تَحميني من الجنون ، وتَمنحني التَّوازنَ العاطفيَّ كَي أسيرَ بِهُدوء وعَقلانية في ظِل القَمْع والكَبْت.
[6] كُلَّمَا سَبَحْتُ في اللغةِ اكتشفتُ العناصرَ الرَّمزيةَ في السُّلوكِ البَشَرِيِّ الغامِضِ .
     اللغةُ لَيْسَتْ وَسيلةً للتخاطبِ فَحَسْب . اللغةُ هي الطاقةُ الرمزيةُ للإنسانِ والحضارةِ . وكُلَّما سَبَحْنا في اللغة ، وَصَلْنا إلى أعماق الإنسانِ ، وأمْسَكْنا بِمَنْبَع القيم الحضارية . وإذا عَرَفْنا مَنْبَع النهر سَنعرف مَجْرَاه. إنَّ رمزيةَ اللغة تَكشِف لنا كُلَّ العناصر الرمزية في السلوك البشري الغامض، لأنَّ الرَّمْزَ وَحدةٌ واحدةٌ مُتَّصلة عَبْر الزمان والمكان . واللغةُ هي الفلسفةُ العميقةُ التي تَكسِر قناعَ الإنسان ، وتُبْرِز وَجْهَهُ الحقيقيَّ بِدُون مُسْتَحْضَرَات التَّجميل . والفرقُ الجذريُّ بين اللغة والإنسان، هو أن اللغة كائن حيٌّ خالدٌ ، أمَّا الإنسان فكائنٌ حيٌّ مَيت . وإذا وَظَّفْنا رمزيةَ اللغةِ في السلوك الإنسانِيِّ ، فَسَوْفَ يَتحوَّل الإنسانُ إلى رَمْزٍ لُغويٍّ خَالدٍ ، ويَصير الْحُلْمُ الإنسانِيُّ كلمةً أبديةً .
[7] عِندَما يُصْبِحُ العَقْلُ فَارِغًا يَنحصِرُ التفكيرُ في الشَّهوة الجنسية .
     عِندَما تَنكسِرُ البُنيةُ الفَوقيةُ ( المنظومة العقلانية الأخلاقية ) ، تُصْبِحُ الشَّهوة الجِنسية هي المنظومةَ الحاكمةَ على النَّسَق الحياتِيِّ كُلِّه . والشَّهوةُ لا تُسيطِرُ على العَقْلِ إلا في لحظات الفراغ ، لأنَّ الفراغَ تَفريغٌ للأنظمة العَقلانية ، والجسمُ يَرفض الفراغَ ، فلا بُدَّ أن تَحْدُث عَملية إِحلال ، فَتَحِل الشَّهوةُ الجنسيةُ في البُنية الفَوقية ، ويُصبِحُ الجِنسُ هو العقلَ المسيطِر على تفاصيلِ المشاعر ، وأنساقِ الجسد ، وتقاطعاتِ الألفاظ مَعَ المعاني . وكُلَّما اضمحلَّ صَوْتُ العقلِ ، ارتفعَ صَوْتُ الرصاص ، وَكُلَّما غَابَ العقلُ أو غُيِّبَ ، صَارَت الكلمةُ الفَصْلُ للشَّهوة الغريزية . وهذا أدى إلى نشر هستيريا الجِنس في هذا العالَم الذي دمَّره الإنسان ، لأن الكثيرين يعتقدون أن بنادقَهم هِيَ صَوْتُهم الصادق الذي لا يَخُونهم ، وكُلَّما ابتعدَ الإنسانُ عن قُواه العقلية اقتربَ من قواه البدنية. فالذي يَضرب ويَقتل قَد مَنَحَ عَقْلَه إجازةً مفتوحة . وهذا الفِكْرُ المنحرِفُ يَرْفُضُه المنطقُ العقلانِيُّ ، فلا بُدَّ أن يَكُونَ صَوْتُ الإنسانِ أعْلَى مِن صَوْتِ الغريزة .