21‏/11‏/2019

البحر صومعة الجثث / قصيدة

البحر صومعة الجثث / قصيدة

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد

...............

     مَاتَ البَحَّارُ عَلى ظَهْرِ السَّفينةِ / رَمَيْنا جُثتهُ في البَحْرِ / والرُّبَّانُ المشلولُ يَتَذَكَّرُ الْحُبَّ الأوَّلَ وأحلامَ الطفولةِ / والسفينةُ تَغْرَقُ كَالقُلوبِ المكسورةِ / مَذْبُوحةٌ أنتِ يَا شُموعَ الغاباتِ / مَجْرُوحةٌ أنتِ يا جَدَائِلَ البُحَيراتِ/والعناكبُ الْمُلَوَّنةُ تُزَيِّنُ حِيطانَ غُرفتي/والطحالبُ تُضِيءُ أوعيتي الدَّمويةَ/
     سَيَعُودُ رَجُلُ الثلجِ إلى مَوْقَدَةِ الخريفِ في قَلْبِ الليلِ / والقَطِطُ الْمُشَرَّدَةُ تنامُ عَلى الأثاثِ الملفوفِ بالأكفانِ البَيضاءِ / سَتَأكُلُ فِئرانُ السَّفينةِ جُثمانَ الرُّبَّان / أشلاؤُنا هِيَ أعلامُ القَراصنةِ / وَشَوَاهِدُ القُبورِ بُوصَلَةٌ تُرْشِدُ طُيورَ البَحْرِ إلى دُموعِ الأيتامِ/ حِينَ يَبْنُونَ القُصورَ الرَّمليةَ وَيَهْدِمُونها/
     أركضُ إلى البَحْرِ في الليلةِ الباردةِ كَي أسْمَعَ نَبضاتِ قَلبي/ أجنحةُ العَصافيرِ هِيَ خَشَبَةُ المذْبَحِ/ لَكِنَّ الرَّاهبةَ العَمْيَاءَ تَسْكُبُ دُمُوعَها / في مَزْهرياتِ غُرفةِ الاعترافِ / وَالقَنَّاصُ يَصطادُ أشجارَ المقبرةِ فَراشةً فَراشةً / كُلَّمَا سَأَلْتُ البَحْرَ عَن الذِّكرياتِ أخْبَرَني أنَّها مَاتتْ / أشِعَّةُ القَمرِ تَتساقطُ على أجسادِ النِّساءِ الْمُغْتَصَبَاتِ / وأسرارُ البَنَفْسَجِ تُولَدُ في خُدودِ الأنهارِ /
     البَحْرُ هَادِئٌ كأعصابِ القَتلى / وَجَدائلُ النِّساءِ عَلى رَصيفِ المِيناءِ / قَلْبي دَليلٌ سِيَاحِيٌّ في المقابرِ الكريستالِيَّةِ / وأنا بَائِعٌ مُتَجَوِّلٌ أمامَ المحاكمِ العَسكرِيَّةِ / أبيعُ أشلاءَ النَّهْرِ للغرباءِ والجرادِ/ والرِّيحُ تُحَنِّطُ أشلائي في مَتْحَفِ أحلامِ الطفولةِ / وُلِدْتُ بَيْنَ الزَّيْتِ والزَّعترِ / لَكِنِّي مِتُّ تَحْتَ جُسورِ سَراييفو / كُلَّما قُتِلْتُ بَيْنَ طُفولةِ السَّنابلِ وأسرارِ الزَّنابقِ / عَرَفْتُ أنَّ مَوْتي سَفَرٌ إلى قَلْبي/
     أهْرُبُ مِن ذَاتي لأكتشِفَ ذَاتي / كُلَّما اقتربتُ مِن أوردةِ الزَّوابعِ / اقتربتُ مِن أكفانِ الخريفِ الزُّمُرُّدِيِّ / والنَّعناعُ يَصْعَدُ مِن فِرَاشِ الموْتِ / والضَّبابُ يَكْسِرُ الْحُزْنَ في عُيونِ الشَّركسياتِ / والرَّصاصُ الْحَيُّ يَغْسِلُ خُدودَ البُوسنِيَّاتِ / لَم يَعُدْ هُناكَ فَراشاتٌ كَي نَكْسِرَ أجنحتها / لَم يَعُدْ هُناكَ ذِكرياتٌ كَي نَبكيَ عَلَيها / لا فَراشاتٌ ولا ذِكريات / كُلُّ شَيْءٍ مَات /   
     احْرِقْ خَشَبَ البَراويزِ بِدُمُوعِكَ / واكْسِر المِلْحَ في دُموعِ أُمِّكَ / وَابْحَثْ عَن صُورَتِكَ في مَرايا الموْتِ/ أنا شَاهِدُ قَبْرِكَ/ فَلا تَخَفْ مِنِّي / أنا رايةُ المعركةِ / فاقْتُلْ أحزانَ الطفولةِ في الأغاني الوَطنيةِ/ يَمشي القَتلى تَحْتَ أقواسِ النَّصْرِ / والأراملُ يَنْثُرْنَ أكاليلَ الغارِ عَلى الجنودِ / الذينَ هَرَبُوا مِنَ المعركةِ/ فَلا تَهْرُبْ مِنِّي/ أنا طَيْفُ الأمواتِ عَلى زُجاجِ القِطَاراتِ / أنا ظِلالُ القَتلى عَلى نوافذِ الخريفِ/ قَد أَمُوتُ في لَيلةٍ مَاطرةٍ / يَكْسِرُ المطَرُ مَساميرَ نَعْشي / وَيَأكلُ البَقُّ أخشابَ تابوتي/ وَقَد أذهبُ إلى صَلاةِ الفَجْرِ / وأموتُ في صَباحٍ مَاطِرٍ / وَسَوْفَ يَظَلُّ البَحْرُ شَابَّاً / لأنَّهُ مَاتَ شَابَّاً .