16‏/01‏/2020

رواية جبل النظيف / الفصل الثاني

رواية جبل النظيف / الفصل الثاني

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............

     حلماً قاسياً كان الصدى الكُحلي . زهرةً مسمومة كان الجرحُ . نادت على ابنتها الصغيرةِ :
     _ أسرعي، نريد أن نحجز مكاناً .
     كَوَّمَتْ البنتُ صُرَّةً بعد أن وضعت فيها مجموعةً من الأحذية الملمَّعة بصورة عشوائية . وقد كانت الصرةُ ثقيلةً بعض الشيء فلم تتمكن الصغيرة من حملها . فهبت الأم المصابةُ بالسُّكري إلى مساعدتها . وراحت خطواتُ الطفلةِ تتهادى على رقعة اللهب ، وتتقدمُ الأحزانُ كما لو أن نورساً يزحفُ على بطنه .
     أنثى ضئيلة الحجم تمسك بثوبِ والدتها البدينة ليس من كثرة الأكل ، وإنما من كثرة الأمراضِ ، وتسيران محمَّلتَيْن بآثار الوقتِ القاسية . عليهما اجتيازُ الأزقة المتداخلة في الحارات الضيقة كي تصلا إلى السوق .
     _ يا إلهي . الطريقُ طويلٌ .
     قالت الصغيرةُ وعلامات التعب تنهشها . وما تلقَّت أي جوابٍ سوى صمتٍ مغلَّفٍ بالدهشة .
     الدروب تتكرر كل مرةٍ . لا جديد غير أوحالٍ ونفاياتٍ مكدَّسةٍ تناساها عمالُ النظافة ليعودوا إلى جحورهم تحت الأرضِ مُبكرين . لو مشتا في الشارع الرئيسي فهذا يعني إمكانية السقوط ضحية إغراءات سيارات التاكسي ، وبالتالي عجزٌ في الميزانية، وعودةٌ بأيدٍ فارغة . إنهما تمشيان نحو اللاهدف تحت شمسِ الاحتضار .
     كان هذا المشهدُ بالضبط ما رأته رسمية في منامها ، أو ربما كانت أحلام يقظة . هي نفسها لم تعد تعرف طبيعة الأفكار التي تراودها. لكنها تأكدت أنها شَاهدت حُلماً . العَرَقُ يخنقها ويفيضُ على تضاريس جسمها المتآكل ، والقشعريرة تبتلع أعضاءها حجراً حجراً . وقد صار ريقُها مستنقعاً جافاً . وفي تلك اللحظات الرهيبة شَعرت بأنها وحيدة في الفراغ رغم أن زوجها كان نائماً إلى جانبها ، لكن شخيره المرعب زاد من وحدتها ووحشتها .
     ومنذ وفاة الحاجَّة سارة لم تذق ابنتها رسمية طَعم النوم . صارت حياتها أقرب إلى الهلوسة . يقتحم ذهنَها أفكارٌ لا منطقية، وأحلامٌ مختلطة بذكريات قديمة . هجم عليها الأرقُ والكوابيس دون إنذار مسبق . كأنها قَد وَضعت قَدَمَها على طريق الجنون الطويل .
     أحياناً تتفقد جسمَها لتتأكد هل هي موجودة في هذا العالَم أم لا. تتحسس أعضاءها لتطمئن أن جسدها كامل لا ينقصه شيء ! . وهي تقاتل نفسَها من أجل إخفاء هذه الحالة عن زوجها ، فقد يظن أنها مجنونة فيبحث عن زوجة أخرى . وفي هذه الحالة تكون رسمية قد خَسرت أُمَّها وزوجها معاً. وهذا ما لا تريده، ولا تحب أن يخطر في بالها. والحيُّ أبقى من الميت !.