29‏/01‏/2020

رواية جبل النظيف / الفصل السادس

رواية جبل النظيف / الفصل السادس

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............

     لقد تحسَّن الوضعُ المادي لرأفت سليم المخلوسي . فمنذ أن بدأ بإعطاء دروس خصوصية في اللغة الإنجليزية تضاعف دَخْله الشهري ، وتعرَّف على صَفْوة المجتمع . وكلَّ يومٍ _ بعد انتهاءِ دوام المدرسة _ يقضي وقته في عمَّان الغربية متنقلاً من فيلا إلى فيلا حتى ساعة متأخرة من الليل .
     وصل الأستاذ رأفت إلى فيلا فخمة مكتوب على بوابتها العملاقة : [ فيلا الدكتور لؤي عبد الكريم عَطْوة ] . كانت الساعة الخامسة مساءً ، أي إنه جاء في الموعد المحدَّد بدقة . وقد كانت دهشته كبيرة عندما دخل الفيلا ، ورأى الأثاثَ الفاخر ، والديكور المتناسق ، والخدمَ من عِدَّة جنسيات . كان طراز الفيلا غربياً حتى النخاع . وقد تساءل في قرارة نفسه تُرى ماذا يعمل الدكتور لؤي ؟! .
     جلس الأستاذ رأفت على الأريكة ، وأخذ يُجيل بصره في المكان مبهوراً ، وغارقاً في دهشته العارمة وأسئلته الوسواسية المتكاثرة . وبينما هو يصارع أفكارَه ظَهرت امرأةٌ ممتلئة وأنيقة ، ترتدي تنورةً قصيرة ، ويفوحُ منها رائحة عَطْرٍ شديدة . وجهُها أبيض بلا مساحيق، وخدودها وردية بدون بلا مكياجٍ . كانت أرستقراطية بكل معنى الكلمة . وعندما رآها رأفت أيقنَ أنها سيدة المنزل . وتعجَّب في قرارة نفسه من شموخها ، فقد اعتقد لمدة طويلة أن هذا النوع من النساء لا يوجد إلا في الأفلام السينمائية . وقف احتراماً لها . وبدا مهزوزاً بعض الشيء لكنه حاول أن يتماسك قَدْر المستطاع ، ويتخلص من الرجفة الداخلية التي تتلاعب به . إنها رَجفة جنونية شاملة .
     تقدَّمت منه مبتسمةً ، ومدَّت يدَها قائلةً :
     _ ميَّادة سمير حَرَم الدكتور لؤي عَطْوة .
     صافحها رأفت وهو يقول بصوتٍ خائفٍ :
     _ رأفت سليم المخلوسي .. أستاذ اللغة الإنجليزية .
     دخلت يداهما في رَجفةٍ مشتركة . وفوجئ الاثنان من هذا الإحساس الداهم . كانت يدُها وسادةً من الريش. ولم يستطع رأفت نسيانَ نعومة يدها منذ ذلك الحين. لقد صارت نعومةُ يدها سيفاً قاسياً يخدش مرايا ذاكرته ، ويَحفر قاعَ قلبه .
     جلست ميادة على أحد الكراسي . ويبدو أنه كان مُخصَّصاً لها . وقد ارتفعت التنورةُ بسبب جلوسها كاشفةً عن لحمٍ أبيض لا أثر فيه للتعرجات أو التَّرهل .
     وجلس الأستاذ رأفت كالتلميذ الخائف من عقاب مُعلِّمه لأنه لم يحل الواجباتِ المدرسية .
     قالت السيدة ميادة بلا مقدِّمات :
     _ ابني رمزي طالب في المرحلة الابتدائية في مدرسة أجنبية ، وهو يعاني ضعفاً في قواعد اللغة الإنجليزية علماً بأن الجميعَ في البيت يتحدثون الإنجليزية بطلاقة .
     استجمع رأفت قواه ، وارتفعت رأسُه معتقداً أن دوره قد حان لعَرْض فلسفته في الموضوع ، والتنظير في مسألة اللغة ، وقال بكل عنفوان :
     _ إن المحادَثة تختلف عن القواعد اللغوية . فالقواعدُ مثل أعمدة البيت ، أمَّا المحادَثة فيمكن اعتبارها كالطوابق المبنية فوق بعضها . كما أن القواعد عبارة عن جُمل منطقية واضحة لا مكان فيها للحركة أو الفذلكة، أمَّا المحادَثة فهي عالَم شديد المرونة ، ويمكن التحرك فيه يَمنةً ويَسرة .  
     كان رأفت يتعمَّد انتقاءَ الكلمات التي لها وَقْعٌ في النَّفْس ، وذلك ليبدوَ أكثر من مجرد مُعلِّم للإنجليزية . إنه ينتقي الكلمات الرَّنانة ليظهر كالفيلسوف الذي يُبهر مُحاوِرَه ، وينال إعجابَه ، ويسيطر عليه .
     لم تهتم ميادة بهذه التفاصيل ، لذلك لم تعلِّق عليها . واكتفت بالقول :
     _ أُريد أن يتحسن مستوى رمزي .. وهو طفلٌ ذكي لكنه مُشتَّت ، ويُفكِّر كثيراً في اللعب على حساب دراسته . وقد أحضرتُ له مُعلِّمين كثيرين لكنهم لم يُحسِنوا التعاملَ معه.. وما يهمني هو أن يتحسن مستواه ، ويتفوق في دراسته ، وأنا مستعدة لدفع أي مبلغ .
     انتعش رأفت عندما سمع " أي مبلغ " . كان تعبيراً رائعاً بالنسبة إليه ، ولم يُرد أن يُضيِّع هذه الفرصة ، لذلك قال بسرعة قبل أن يبتعد الحديثُ عن المال :
     _ لستُ معنياً بالمال . المهم أن يتحسن أداء الطالب ، وتكون النتائج ملموسة. وبصراحة .. أنا أتقاضى عشرة دنانير عن الساعة الواحدة .
     _ لا ! .
     ذُهل رأفت من هذا الجواب ، وارتبك بشكل واضح . وكل أحلامه المالية في تلك اللحظة بدت كقصرٍ رملي انهار فجأةً . فهو لم يتوقع أن مبلغاً زهيداً بالنسبة لهؤلاء الأغنياء سَيُرْفَض بهذه السرعة . ورغم مشاعره المتساقطة ، ومعنوياته التي صارت في الحضيض ، قال بنبرة كسيرة :
     _ فلتكن ثمانية دنانير .
     _ لا ! .
     وفي تلك اللحظة المرعبة صَبَّ رأفت غضبَه على الأغنياء دون أن يتفوه بكلمة، وشتمهم في قرارة نَفْسه ، واعتبرهم لصوصاً يَسرقون الملايين ، في حين أنهم يَبخلون بدينار أو دينارَيْن . فهم ذئابٌ يختبئون في ثياب الحِملان ، ويَظهرون بمظهر المحترمين وهم مجرد أوغاد يُخفون قذارتهم وراء ربطات العنق والتنانير القصيرة . كل هذه المعاني كانت تحترق في داخله . إن صدره مِرْجل يَغلي بلا رحمة . احمرَّ وجهُه ، وتمنى لو يَقدر على البوحِ بما يُفكِّر فيه لكي يرتاح من هذا العذاب المباغِت . وبينما هو يَغرق في جحيم أفكاره ، قالت ميَّادة :
     _ سأدفع عشرين ديناراً عن الساعة الواحدة .
     نَزلت هذه العبارة على قلبه كالمطر الذي يُطفئ الحرائقَ، وزال الألمُ الذي يخنقه، وأخذ يمدح الأغنياءَ في سِرِّه ، ويَعتبرهم أماناً للمجتمع ، ودعامةً في بناء الاقتصاد الوطني ، ومساعدةِ الطبقات المتدنية ، ودعا لهم بطول العمر ، وزيادة الأموال والأولاد .
     وفي ذلك اليوم استغرقت حِصَّةُ رمزي ساعتين ، من الساعة الخامسة والنصف حتى السابعة والنصف. وتقاضى الأستاذ رأفت أربعين ديناراً . كانت تلك الساعتان من أجمل لحظات حياته دون مبالغة . كان رمزي فتىً لطيفاً ، والسيدةُ ميادة امرأةً مهذَّبة ، والخادمةُ التي أحضرت الحلوى والعصير أنيقةً. كل شيء كان جميلاً ورائعاً. حتى أزقةُ جبل النظيف القذرة التي سار فيها رأفت في طريق عودته إلى بيته ظهرت نظيفةً ولامعة . أحس أنه سيطير من الفرح . سيصبح له جناحان ويُحلِّق ضد الجاذبية ، وضد قوانين نيوتن ، وضد قواعد اللغة الإنجليزية . وأخيراً شعر أن الحياة ابتسمت له مثلما ابتسمت للكثيرين غيره .