21‏/02‏/2021

بول ريكور والنزعة الفلسفية الإنسانية

 

بول ريكور والنزعة الفلسفية الإنسانية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...............

     وُلد الفيلسوف الفرنسي بول ريكور ( 1913 _ 2005 ) في مدينة فالنس الفرنسية ، لعائلة بروتستانتية محافظة . تُوُفِّيت أُمُّه بعد ولادته بستة أشهر . وقُتل والده عام 1915 على جبهة القتال في الحرب العالمية الأولى . وشكَّل هذا الحادث الأليم بالنسبة إليه تأسيسًا هاجسيًّا لمسألة مُقلقة ومُزعجة حول إشكالية الشر ، والخطيئة والمعاناة ، وهذا ما جعله يتبنى الشيوعية وهو شاب مراهق. وهو ما سيدفع به إلى معالجة مشكلة العدالة والذاكرة ، ومسألة الأيديولوجيا والعنف .

     بعد هذا اليُتم المزدوَج، تولَّى جَدَّاه وعَمُّته تربيته في بيت عُرف بالصرامة والانضباط السلوكي، إلا أنه لَم يكن يخلو من الحب والحنان ، كما وصفه ريكور نفْسه .

     أنهى دراسته الثانوية في رين ، ثم دخل جامعتها ، وحصل منها على شهادة الماجستير . جُنِّد في عام 1939 للحرب العالمية الثانية في مواجهة ألمانيا ، وسُجن إلى غاية عام 1945 . وينضاف إلى سلسلة المآسي السابقة فاجعة وفاة أخته في ريعان شبابها ، وانتحار ابنه .

     في السجن استثمر وقته في قراءة الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز ، فكانت بداية مسار التعرُّف على الذات . وترجم كتاب هوسِّرل " أفكار " ، ويُعتبَر هذا مثالاً نادرًا عن الصداقة مع لغة العدو من خلال ضحيته. وهذا يعني ترسُّخ مبدأ التعرُّف على الذات من خلال الآخر لدى ريكور . وهو مثال أيضًا عن الفيلسوف الذي يستمع لفيلسوف آخر،ويُصغي إليه في لُغته.حيث إن اهتمامه بالآخر يُغذِّي إبداعه للذات ، وفق قاعدة تقول إنه " لا توجد طريقة للخروج من الذات إلا بالتغرُّب في الغَير " . بعد إطلاق سراحه ، شاركَ مع بعض الفلاسفة الفرنسيين في التعريف بالفينومينولوجيا الألمانية، واستثمرها في سنوات الستينيات في حواره مع العلوم الإنسانية ، وعلى الخصوص مع التحليل النفسي ، غير أن هيمنة البنيوية وأفكار سارتر ولاكان ، حالت دون انتشار أفكاره في فرنسا . اختار ريكور منفاه الفلسفي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث انتقل إلى جامعة شيكاغو ، وبقي فيها حتى عام 1990 . تعرَّف عن قُرب على الفلسفة الأنجلوسكسونية ، وساهم في نشر الفلسفة التحليلية الأمريكية بفرنسا ، التي ساعدته على فتح خطابه الفلسفي ومشروعه في تشييد الذات على الفعل ، وربطه بالفكر داخل دائرة تأويل واحدة . وقد ظهرت لدى ريكور ملامح مشروع إمكانية التفكير والفعل بواسطة الذات نفسها ، كما يُوضِّحه عنوان كتابه " الذات عَيْنها كآخر " ( 1990 ) . وهذا المشروع ليس إلا جُزءًا من حياته ومسيرته في البحث عن ذات الفلسفة من خلال ذاته . ولهذا اعتبر ريكور أن الأنا أو الذات تثبت في أفعالها . بعد أن نُفِيَ ريكور عن المشهد الثقافي الفرنسي، عاد إلى فرنسا ، وتَمَّت إعادة اكتشافه من جديد ، ولكن في خضم الصراعات الفكرية والأيديولوجية العنيفة في فرنسا .

     فضَّل ريكور الإصغاء والانتباه للخصوم ، مُحترمًا حُججهم ، ولَم يكن يهتم بشروط إمكان الفلسفة ، ولا بالبحث عن ميدان يكون في النهاية مجال عَظَمة وسيادة ، بل اهتمَّ بالمضامين الفلسفية التي تعمل بطريقة مستترة في الخطابات العلمية ، ذلك أن الفلسفة لا تستغني عن الحوار مع العلوم . ويُذكِّرنا ريكور بأن الفلسفة تموت إذا قطعنا حوارها مع العلوم الدقيقة ، والعلوم الطبيعية ، والعلوم الإنسانية .

     ساهمَ ريكور في إثراء السجالات والحوارات التي يقوم بها الخطاب الفلسفي مع العلوم الأخرى، وهذا بفضل قدرة فائقة على القراءة ، حتى سمَّاه أحد الباحثين الفرنسيين " غول القراءة"، وهو ما أفضى إلى تملكه النص ، وقُدرته على التواصل مع مُحاوريه عبر النصوص ، بطريقة تسمح بالخروج بنتائج عملية ، كما هو حال دلالة عنوان أحد مؤلفاته"من النص إلى الفِعل".

     يرى ريكور أن " الفيلسوف بوصفه مفكرًا مسؤولاً ، يجب أن يسلك طريقًا وسطًا بين الإلحاد والإيمان ، لأنه لا يُمكنه أن يكتفيَ بمزاوجة هرمينوطيقا تُطيح بأصنام الآلهة الميتة ، وهرمينوطيقا موضوعية هي تكرار لموت الإله الأخلاقي وإعادة تجميع الأنبياء والمجتمع المسيحي الأول . إن مسؤولية الفيلسوف هي التفكير ".

     وبهذا فإن الهرمينوطيقا الإنجيلية كانت أقل حضورًا في أعماله من الهرمينوطيقا الفلسفية ، وإن تضمَّنت نصوصه حوارًا مع ما يُسمِّيه ريكور " بالفكر الإنجيلي " . أي الفكر الذي يشتغل على تفسير النصوص الإنجيلية وتأويلها .

     لقد تركت الأحداث المؤلمة في حياة ريكور أثرًا عميقًا في نفْسه، وانعكست فيما بعد على مشروعه الفلسفي المشبع بالنَّزعة الإنسانية ، والساعي إلى إعادة الإنسان في كَوْنيته إلى إنسانيته .

     مِن أبرز مؤلفاته: فلسفة الإرادة ( 1950 ). التاريخ والحقيقة ( 1955 ) . صراع التأويلات ( 1969 ). الاستعارة الحية ( 1975 ) . الذاكرة والتاريخ والنسيان ( 2000 ) .