25‏/03‏/2021

تيودور مومسن وإغراء التاريخ

 

تيودور مومسن وإغراء التاريخ

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..........

     وُلِدَ العالِم الألماني تيودور مُومسِن ( 1817 _ 1903 ) في مدينة غاردنغ في دُوقية شلسفيغ التي كانت خاضعةً للحُكم الدنماركي، وتُوُفِّيَ في مدينة شارلوتن بورغ .

     يصعب تصنيفه في مجال مُحدَّد بسبب تعدد مواهبه، وكثرة اختصاصاته. فهو كاتب وعالِم آثار وصحفي وسياسي ومُؤرِّخ.

     نشأ مُومسِن في أسرة مُثقفة ، فوالده قِس بروتستانتي مُتبحِّر في عِلم اللاهوت. وقد شَجَّعَ ابْنَه على مطالعة الكتب، والتعرف على الأدب الألماني، والاطلاع على النتاج الأدبي للكُتَّاب الأجانب مثل : شكسبير وبايرون وهوغو .

     درسَ الحقوقَ في جامعة كيل ، وتَخَصَّصَ في القانون الروماني ، وتعمَّقَ في دراسة فلسفة هذا القانون، وحصل على درجة الدكتوراة بامتياز عام 1834.وهذا جَعَلَه مرجعًا في القانون الروماني، وصار كلامُه حُجَّةً في هذا المجال .

     كانت فترة الدراسة من أخصب فترات حياته، حيث تزاملَ معَ أخيه تيكو ، والكاتب شتورم. ونشأت صداقة عميقة بين الثلاثة . وقد تجلَّت آثارُ هذه الصداقة في المجال الأدبي ، فنتجَ عنها عملان أدبيان مُشترَكان . الأول : مجموعة حكايات خرافية . والثاني : أغاني الأصدقاء الثلاثة. وقد نُشرا معًا عام 1843.وهذا يدل على أن حب التأليف كان مغروسًا في كيان مُومسِن مُبَكِّرًا .

     لقد كانت المشاركةُ في تأليف هذين الكتابَيْن الإنجازَ الأول ( الفِعْلي ) في حياة مومسن ، والخطوةَ الأولى في طريق الإبداع . أمَّا الإنجاز الثاني فهو حصوله عام 1844بسبب تفوقه على منحة عِلمية من ملك الدنمارك مدتها أربع سنوات لدراسة النقوش الأثرية الرومانية . وبما أنه اختارَ هذا المجال التاريخي الصارم ، فقد توجَّبَ عليه اختيار معهد الآثار في رُوما ليكون وَطَنَه الجديد ، ومُنطلقًا لأبحاثه ، وحاضنةً عِلمية لأفكاره .

     إن منهج مومسن الفكري التاريخي المتميِّز ما كان لِيَرى النور لَولا أربعة عوامل : 1_ استلهام فكرة العلاقة المتبادلة بين التاريخ والقانون من كتابات العالِم سافيني ، أحد مُؤسِّسي المدرسة التاريخية لدراسة القانون . 2 _ استخدام منهج أستاذه أوتو يان في قراءة النقوش القديمة . 3_ دراسة النقوش اللاتينية وَفْق مبادئ فقه اللغة التاريخي . 4_ العمل تحت إشراف العالِم الإيطالي بورغيزي . 

     إن هذه العوامل الأربعة جَعلت منه عالِمًا مُتمكِّنًا يُشار إلَيه بالبنان . وقد صارَ مُعلِّمًا بارعًا في دراسة النقوش الكتابية ، ونجحَ نجاحًا باهرًا في الربط بين التطورات التاريخية والتطورات القانونية . الأمر الذي قادَه وقادَ الباحثين مِن بَعده إلى فهم أكثر عُمقًا للحياة في روما القديمة ، والوقوف على تفاصيل هذه الحياة وأسرارها ، وإخراجها من حَيِّز الغموض والخفاء إلى الفضاء المكشوف . وهذا كُلُّه كانَ تمهيدًا للإنجاز العِلْمي الرئيسي في حياته ، ألا وهو " تاريخ روما " ( 1854_ 1856) الذي صدر في ثلاثة مجلدات .

     لقد انعكست أيديولوجية مومسن على حياته الشخصية والعملية ، فقد كانَ ليبراليًّا داعيًا إلى وَحدة الأراضي الألمانية ، وتحررها من الهيمنة الأجنبية ، في ظل حكومة جمهورية تحترم حقوق المواطن ، وتدافع عن وجود الجماعة ، وتَبسط سيادتها على كامل التراب الألماني .

     وهذه الأفكار مرتبطة بشكل وثيق بالأحداث السياسية آنذاك . فقد كانت ألمانيا في أوج ثورتها البرجوازية عام 1848 .وعُيِّنَ مومسن في نفْس السنة أستاذًا للحقوق في جامعة لايبزيغ . وبعد سنتين ، جاء الوقتُ لكي يَدفع ثمن مواقفه مواقفه السياسية ، فلا يوجد موقف بلا ثمن . فقد تَمَّ استبعاده من الجامعة بسبب نشاطاته الثورية .

     لقد أَغلقت الجامعةُ أبوابَها في وجهه، ووصل إلى طريق مسدود ، مِمَّا جَعله يَبحث عن طريق آخر . فحصلَ على كرسي القانون الروماني في جامعة زيورخ عام 1852 . ثُمَّ على الكرسي نفْسه في جامعة بريسلاو عام 1854. ثُمَّ على كرسي التاريخ القديم في جامعة برلين عام 1858.

     آمنَ مومسن بأهمية انخراط المفكر في الحياة العامة ، وذلك لكي يتكرَّسَ مُثقفًا عُضويًّا ، مُندمجًا بقضايا مجتمعه وأُمَّته، وقادرًا على قيادة التغيير من داخل مؤسسات صنع الفرار ، رافضًا الاكتفاء بالتنظير مِن البُرج العاجي . وهذه القناعة تتجلى في انتخابه عضوًا في أكاديمية العلوم البروسية . ولم يقف الأمر عند هذا الحد. فقد صارَ أيضًا نائبًا في البرلمان المحلي البروسي ( 1873_ 1879)، وفي البرلمان الألماني ( 1881_ 1884) . 

     تميَّزت أبحاثُه بالدقة العِلْمية واللغةِ الأدبية السلسة بعيدًا عن الإنشاء والتَّنظير الاستعراضي . ومن أبرز أعماله : تاريخ روما . قانون دولة روما " ثلاثة مجلدات " ( 1871_ 1888) . وآخرُ إنجازاته العِلمية هي قانون العقوبات الروماني ( 1899) . وقد تُرجمت كُتبه إلى عدة لغات ، وصارت مراجع أكاديمية . وبسبب تميُّز أعماله ، تَمَّ الاعتراف بِه عالميًّا، ومُنح جائزة نوبل للآداب عام 1902. وكأنها مكافأة نهاية الخدمة . ففي عام 1903 رحل عن عالَمنا .