20‏/06‏/2021

طاغور وصدمة الأحزان

 

طاغور وصدمة الأحزان

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.................

وُلد الأديب الهندي رابندرانات طاغور ( 1861 _ 1941 ) في القسم البنغالي من مدينة كالكتا لأسرة ثرية مِن طبقة البراهما التي تمتلك سُلطةً دينية مُقدَّسة . وهذه الأسرة النبيلة ( آل طاغور ) كانت رائدة العمل الاجتماعي والفكري ، وسعت جاهدةً لربط المفاهيم الهندية التقليدية بالثقافة الغربية . لقد حفر طاغور اسمه في تاريخ الأدب العالمي بأحرف من ذهب . فكانَ أول آسيوي يفوز بجائزة نوبل للآداب في عام 1913. وهذا يعني أنَّه فتح أنظار العالَم على أدباء القارة الآسيوية وأعمالهم الإبداعية ، وأخرجَ الأدب الآسيوي من العَتَمَة إلى دائرة الضَّوء .

لَم يحصل طاغور على تعليم نظامي في أيَّة مدرسة ، لكنه تلقى تعليمه في البيت على أيدي مُعلِّمين خُصوصِيِّين تحت إشراف مباشر من أسرته العريقة ، التي تعتني بتعليم أبنائها أشد العناية ، وتحرص على تزويدهم بالمعارف والثقافة ، حِفاظًا على المكانة الدينية والفكرية للأسرة ، وحِرْصًا على وزنها الاجتماعي . وقد درس التاريخ والعلوم الحديثة وعِلم الفلك واللغة السنسكريتية ( لغته الأم ) وآدابها واللغة الإنجليزية . وعندما بلغ السابعة عشرة من العمر ، أرسله والده إلى إنجلترا لدراسة الحقوق ، حيث التحق بكلية لندن الجامعية ، لكنه فقد شَغَفَه بالدراسة ، فانقطعَ عنها ، وعاد إلى وطنه دون أن ينال أيَّة شهادة .

بدأ مسلسل الأحزان مُبَكِّرًا في حياة طاغور ، ففي الرابعة عشرة من عُمره ، تُوُفِّيت والدته . وبَقِيَ مَوتها جرحًا عميقًا في نفْسه لا يُفارقه. وفي عام 1883 ، تَزوَّجَ طاغور وهو في الثانية والعشرين بإحدى قريباته التي كانت في العاشرة من العُمر . وقد أحبَّها حُبًّا شديدًا ، وتغزَّل بِها في أشعاره . وكان هذا الحب تعويضًا له عن فقدان أُمِّه التي لَم يَقْدِر على نسيانها . وكانت سعادته معَ زوجته محاولةً لنسيان أحزانه العميقة. لكنَّ هذه السعادة لَم تَدُمْ. فبعد زواجه بسنة أقدمتْ شقيقته على الانتحار ، وهذه الفاجعةُ سَبَّبت له صدمةً هائلة ، وأدخلته في الحزن والاكتئاب . وكما قِيل : المصائب لا تأتي فُرادى ، فبعد سنوات قليلة ، تُوُفِّيت زوجته وهي في مُقتبل العُمر ، ولحقَ بها ابنُه وابنته وأبوه في الفترة ( 1902 _ 1918 ). وهذا الغيابُ الشامل أفقده صوابَه ، وسبَّب له آلامًا عنيفة، وجُروحًا عميقة . لقد شَعر أنه زهرة تذبل شيئًا فشيئًا ، أو شجرة تتساقط أوراقُها ورقةً ورقةً . لقد أحسَّ أنه يموت تدريجيًّا . ولكن ، بسبب تربيته الدينية والفكرية ، استطاعَ التماسكَ ، والوقوفَ على قدميه . وفي الأمثال : الضربةُ التي لا تَقتلك تُحييك وتزيدك قوةً .

لقد قاده مَوْتُ أفراد أسرته واحدًا تِلْو الآخر إلى المحبة الإنسانية بمفهومها الواسع بدلاً مِن التمسك بالحب الفردي الخاص . ولَم يعد يَتعلق بالأشياء ، لإيمانه بأن الفراق أمرٌ حتمي ، وأن الموت هو نهاية الأشياء . وهذه الفلسفةُ العميقةُ منحته القدرةَ على تحويل الألم إلى فرح ، والنظر إلى الحياة على أنها قيمة مُقدَّسة أعلى من الأحزان والآلام .

مضى طاغور إلى الحياة الأدبية ، واعتبرَها الحياة الحقيقية للفرد والمجتمع ، وانطلقَ إلى عالَم الشِّعر الذي رأى فيه الصفاء والنقاء ، فنشرَ عددًا من الدواوين الشِّعرية تَوَّجها في عام 1890 بديوانه " ماناسي " الذي شَكَّلَ قفزةً نوعية في تجربته الشِّعرية ، والشِّعر الهندي عامةً . ثم انتقلَ إلى البنغال الشرقية ( بنغلاديش حاليًّا ) لإدارة ممتلكات العائلة . وبَقِيَ فيها عشر سنوات .

وكانت هذه الفترة من أخصب فترات حياته على المستوى الإبداعي ، فقد اكتشفَ الطبيعة من جديد ، واحتكَّ مع القرويين البسطاء ، وكتبَ القصصَ القصيرة مِن وَحْي معاناتهم اليومية ، وأحلامهم الضائعة ، وفقرهم ، وجهلهم ، وأمراضهم ، دون أن يُخفيَ تعاطفه معهم . وقد نجحَ في التقاط صور المعاناة ومَزْجها بِرُوح الدُّعابة . وهذه التقنية في الكتابة يمكن تسميتها بالكوميديا السَّوداء . لقد كان طاغور طاقةً أدبيةً جبارة ، قدَّم للتراث الإنساني أكثرَ من ألف قصيدة شعرية ، وخمسًا وعشرين مسرحية ، وثماني روايات ، ومئات الأغاني ، اثنتان منها صارتا النشيد الوطني للهند وبنغلاديش . وقد ساهمَ ظهور ديوانه " قُربان الأغاني " باللغة الإنجليزية في عام 1912 ، وانتشاره في أوروبا في حصوله على جائزة نوبل بعد عام واحد فقط ( 1913) .

لقد ذُهل الغربيون مِن مستوى شِعره ، وفُوجئوا بالصور الشِّعرية ذات الجمال الصوفي النابع من الثقافة الهندية . وكان أول أديب شرقي يفوز بالجائزة . وفي عام 1915 نال وسامَ الفارس من مَلِك بريطانيا جورج الخامس ، لكنه خلعه في عام 1919 بعد قيام القوات البريطانية بارتكاب مجزرة راح ضحيتها أكثر من 400 متظاهر هندي .

ترتكز فلسفة طاغور على ثلاثة مبادئ : الأول _ رفض التعصب بين الطوائف والأديان في الهند . الثاني _ محبة الإنسانية جمعاء بدلاً من الحب الفردي والخاص . الثالث_ إيمانه بالكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني ، وهذا كان سبب خلافه مع الزعيم الروحي الهندي غاندي الذي اعتمد على الزهد وبساطة العيش ، وقد اعتبرَ طاغور هذا الأمر تسطيحًا لقضية المقاوَمة .

مِن أبرز أعماله الأدبية : قُربان الأغاني ( 1912) ، مَلِك الغرفة المظلمة ( 1914) ، الأحجار الجائعة ( 1916) ، دورة الربيع ( 1919) ، الهارب ( 1921) .