08‏/08‏/2021

شارل بودلير وأزهار الشر

 

شارل بودلير وأزهار الشر

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..................

     وُلد الشاعر الفرنسي شارل بودلير ( 1821_ 1867) في باريس . تُوُفِّيَ والده الثري وهو في السادسة مِن العُمر ، فتزوَّجت أُمُّه من ضابط كبير صار فيما بعد سفيرًا لبلاده ، وترك هذا الزواج في نفس الطفل شرخًا عميقًا لَم يَقْدِر على التعافي مِنه ، خصوصًا أنه وُضِع في مدرسة داخلية، وفقد حنان الأم ، وهذا وَلَّدَ عنده تمرُّدًا وعنادًا ، فانصرفَ إلى المطالعة .

     وعندما صار شَابًّا ، مالَ إلى الشِّعر ، وبرز بين أقرانه في هذا المجال، لكنه كان ماجنًا مُبَذِّرًا ، وهذا دفع أسرته _ بتوجيه مِن زَوج أُمِّه _ إلى الحد من استهتاره ، وجعل أمر الإنفاق عليه من الثروة الطائلة التي تركها له والده مَنُوطًا بموافقة وصي شرعي،وكان هذا بخيلاً لَم يهتم باحتياجات الشاعر الشاب الأنيق ومشاعره ، وقلبه المعلَّق بامرأة ماجنة أتعبته بشهواتها ونزواتها، فعاشَ الشاعر حياةً مليئة بالألم والحزن ، وأُصيب بمرض الزُّهري، ومُنِيَ بالحرمان والفقر حتى وفاته .

     بسبب هذه الحياة المضطربة القائمة على الحب الضائع والخيبة والمرض ، استوحى بودلير قصائد ديوانه الشهير " أزهار الشر " ( 1857) . وأحدثَ عند نشره ضجةً هائلةً بين بعض فئات المجتمع الفرنسي المحافظة ، وأُقيمت على الشاعر وناشره دعوى قضائية ، بِحُجَّة أن بعض قصائد الديوان تُنافي الأخلاق الحميدة ، وتصطدم بثوابت المجتمع ، بما تضمَّنته من جُرأة فاضحة في وصف الشهوة ومفاتن الجسد . وحكمت المحكمة على الشاعر بدفع غرامة مالية ، وإزالة ست قصائد من الديوان ، مع منع إعادة نشرها .

     لقد ترك حُكم المحكمة في نفس الشاعر ألَمًا وخَيبةً وحسرةً ، لكنَّه صَنَعَ شُهرةً كبيرة لهذا الديوان على مستوى فرنسا . وظَلَّ بودلير يُتابع نشاطه الأدبي ، ونشر مؤلفات في النقد الفني لفتت الأنظار إليه .

     بدأ بودلير كتابة قصائده النثرية عام 1857، عَقِب نشر ديوانه" أزهار الشر " . وكان راغبًا في إيجاد شكل شِعري يُمكنه استيعاب العديد من تناقضات الحياة اليومية في المدن الكبرى . وقد وَجد بودلير ضالته في " البالاد " ، وهو النص الذي يُشبِه الموال القصصي في العربية ، وهو الشكل الذي استوحاه وردزورث وكولردج في ثورتهما على جمود الكلاسيكية .

     وفي عام 1861 ، بدأ بودلير في محاولة لتدقيق اقتراحه الجمالي وتنفيذه ، فكتبَ هذه القصائد التي تُمثِّل المدينة أهم ملامحها ، وتُعتبَر مَعينًا لا ينضب من النماذج والأحلام .

     يُعتبَر بودلير من أبرز شعراء القرن التاسع عشر ، ومِن رموز الحداثة في العالم . وكان شِعره مُتَقَدِّمًا على شِعر زمنه ، فلم يُفهَم جَيِّدًا إلا بعد وفاته . وكان يرى أن الحياة الباريسية غنية بالموضوعات الشعرية الرائعة ، وهي القصائد التي أُضيفت إلى " أزهار الشر " في طبعته الثانية عام 1861، تحت عنوان لوحات باريسية .

     إن أبرز ما قدَّمه بودلير في أدبه وحياته مَعًا ، هو ذلك الصراع القائم بين الخير والشر . وعندما كانت تُسيطر عليه مشاعر الاكتئاب وكراهية الحياة ، كان يلجأ إلى الحشيش والخمر .

     لقد كانت رُوح بودلير قلقةً ، وهذا القلق تَحَوَّل إلى رؤية شعرية ، تمتزج فيها الأصوات والألوان والروائح ، لتصنع رِعشة أدبية محتوية على الأفكار الإبداعية والخواطر الشفافة .

     ووَفْق وُجهة نظر بودلير ، ينبغي أن يَنْفذ الشاعر الْمُلْهَم إلى جميع العلاقات القائمة بين الإنسان والطبيعة . وعليه أن يسبح في بحر الرموز المنسجمة ، التي تفتح له آفاقًا من المعرفة لأسرار الكون. فيصبح الشِّعر قادرًا على الإيحاء والإيماء .

     وقد كان ديوان " أزهار الشر " تعبيرًا عن ثورة الشِّعر الفرنسي ، والشعر الأوروبي كُلِّه ، بعد أن تُرْجِم إلى معظم اللغات . وصارَ عام 1857 فاتحةً لعصر جديد في الشِّعر ، وتأثَّر بهذا الديوان عدد كبير من الشعراء الرمزيين مِثل : مالارميه ورامبو .

     واستطاعَ بودلير أن يفتح حُدود الشِّعر على بعضها البعض ، ويصنع صُوَرًا شِعرية رائعة وفريدة . وقد لَمَسَ جميع الشعراء في شِعره سِحْرًا وإبداعًا وتجديدًا ، ولا تزال الدراسات النقدية تكشف عن أسرار شِعر بودلير ، وتُوضِّح جمالياته الرمزية .

     ولا تزال آثار بودلير في النقد الفني مجالاً خصبًا لكثير من الآراء والأفكار والخواطر ، التي تُبيِّن ذائقته الفنية الناضجة الواعية ، وتكشف روائعَ اللوحات الفنية وعبقرية إبداعها .