16‏/09‏/2021

فريدريش هولدرلين وعالم الجنون

 

فريدريش هولدرلين وعالم الجنون

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.................


     وُلِد الشاعر الألماني فريدريش هولدرلين ( 1770_ 1843) في مدينة صغيرة اسمها( لاوفن) تقع على ضفاف نهر النيكار . يُعتبَر مِن أشهر الشعراء في تاريخ الأدب الألماني .

     كان والده مُعَلِّمًا في الدَّير ، وكانت والدته ربَّة بيت متواضعة الثقافة، رأت أن تُلْحقه بالمدرسة الكنسية المجانية التي سَتُؤهِّله لسلك الكهنوت البروتستانتي .

     تلقَّى تعليمًا دينيًّا في مدارس دينية متعددة . وفي عام 1788 ، التحقَ بمعهد مدينة توبِنغن الديني لدراسة علم اللاهوت تحقيقًا لرغبة أُمِّه المتدينة . وكان يَلجأ إلى عالَم الآداب هروبًا من المحيط العام في المعهد ، الذي كانت تَسُوده وتحكمه قواعد صارمة وعادات متشددة .

     تركت الثورة الفرنسية أثرًا عميقًا في كتاباته ، سواءٌ الأدبية مِنها أَم الفلسفية التي وضعها بالاشتراك مع زملائه في المعهد مِثل : هِيغل وشيلنغ .

     لَم يعمل هولدرلين واعظًا دينيًّا ، وإنما أرادَ أن يَكسب قُوته كمُدرِّس خصوصي . وفي عام 1796 ، عمل في مَنْزل المصرفي ياكوب غونتارد في مدينة فرانكفورت ، حيث وقع في حُب أُم تلاميذه زوزيت غونتارد ، والتي جسَّدها في شخصية ( ديوتيما ) في روايته ( هيبريون ) فيما بعد ، وكان هذا تَيَمُّنًا بالكاهنة ديوتيما ، التي أعلمت سُقراط عن قُدسية الحب في " وليمة " أفلاطون .

وقد اضْطُر هولدرلين إلى مغادرة المنزل بعد افتضاح علاقته مع هذه السيدة ( زوجة المصرفي ) .

     أثَّرت الأوضاع السياسية المضطربة في إنتاجه الأدبي بشكل مثمر . وفي الفترة ( 1797_ 1799)، ظهر الجزء الأول من روايته " هيبريون " . واشتغل على مسرحيته " موت إمبيدوقلس"   ( 1798_ 1800) .

     أُصِيب هولدرلين بانهيار عصبي بعد تَلَقِّيه خبر وفاة زوزيت غونتارد ، وأُحْضِر إلى إحدى مستشفيات مدينة توبنغن ، حيث تم تشخيص حالته الصحية كمرض عقلي .

     كان وقع الصدمة على هولدرلين هائلاً، فاهتزَّ كيانه ، وفقد توازنه العقلي ، وتخلى عن عمله ، وعادَ مشيًا على الأقدام مِن بوردو حتى توبنغن . وعلى الرغم من أزمته النفسية الشديدة، استمر هولدرلين بنظم الشِّعر ، والترجمة من اللغة الإغريقية .

     عاشَ هولدرلين إلى حين وفاته في بيت نجَّار ، كان قد تكفَّل برعايته ، وخصَّص له مكانًا على نهر النيكار أُطلِق عليه " صَومعة هولدرلين " .

     يعود السبب في هذا المصير المأساوي للشاعر الوطني والإنساني هولدرلين إلى بحثه اليائس عن مخرج من النظام الملكي الاستبدادي المهيمن حينذاك ، والضاغط على الإنسان البالغ الحساسية على نَحْو مقلق . وكان هولدرلين يتوق إلى نظام اجتماعي مثالي وجده في العالَم الإغريقي القديم .

     يُمجِّد هولدرلين في أشعاره الأولى المسمَّاة " أناشيد توبنغن " الْمُثُل الإنسانية الإغريقية ، مِثل الجمال والحب والحرية والصداقة . كما رحَّب في أعماله بالتغيرات السياسية التي شهدها عصره. وشكَّلت ثنائية ( الطبيعة والجمال ) جوهرَ كتاباته الشعرية .

     وفي العديد من أناشيده المتحررة مِن أوزان الشِّعر الكلاسيكية، يرتبط عالَم تجاربه الفردية مع صورة التاريخ المتحوِّل الذي عاصره بشكل وثيق . وكغيره من مثقفي عصره المتأثرين بالمذهب الكلاسيكي ، سعى هولدرلين إلى الْمُثُل العُليا ، أو المثال الأعلى الذي يتجلى حَسَب رأيه في تحقيق الانسجام المنشود بين  "الإله "و"الإنسان " و"الطبيعة" على أرض اليونان القديمة .

     وتظل رواية "هيبريون" غَير الْمُكتملة أبرز تجسيد لأفكار هذا الشاعر الكلاسيكي . والجديرُ بالذِّكر أن أعمال هولدرلين لَم تلقَ الاهتمام الكافي والاعتراف الكامل ، إلا في القرن العشرين .

     كان هولدرلين يحتقر أبناء ثقافته ، عَبر تجاهله للتيارات الأدبية والفكرية التي أخذت بالازدهار في ألمانيا معَ ظُهور فلسفة كانت ، حيث فضَّل الرجوع إلى الماضي ، والاستفادة من الإرث الفني عند اليونانيين القُدامى. وعلى الرغم مِن أن إنتاج هولدرلين الأدبي لَم يكن غزيرًا ، إلا أن صوته الشعري الصافي يُعتبَر مِن أُسس الشعر الحديث في أوروبا . سعى هولدرلين إلى تجديد مجتمعه ثوريًّا . وتجلى ذلك بوضوح في إبداعه الشعري والروائي والمسرحي ، وكذلك في كتاباته النظرية غَير الْمُكتملة . ومعَ هذا ، فقد أضافت كثيرًا إلى جوهر الفكر الكلاسيكي الألماني ، بتركيزها على مسؤولية الأديب تجاه مجتمعه ، وعلى ضرورة تربية الأجيال الجديدة إنسانِيًّا ، من أجل تفتُّح الذات الفردية بجميع إمكانياتها الإبداعية والعِلمية باتجاه المستقبل المتغيِّر . في مرحلة إبداعه الأخيرة ، اتَّسمت قصائده بالغموض الناتج عن تصوُّره لارتباط مصير الفرد المأساوي بانهيار الوطن. وقد عبَّرت هذه القصائد عن فلسفة التاريخ عند هولدرلين في صور شِعرية جريئة ، في حِين تأثرت قصائده اللاحقة بأزمته العقلية ، فَلَم يَفهمها أحد ، لَولا بعض الصور الواقعية المحسوسة . ويرى نُقَّاد الأدب والباحثون في اللغة أن اللغة الألمانية قد بلغت ذِروتها في شِعر هولدرلين ، وكذلك في نثره الإيقاعي الغنائي الذي يُعبِّر عن الحنين والرثاء .