03‏/12‏/2021

فلسفة الشعر الحياتية

 

فلسفة الشعر الحياتية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

....................

     إنَّ النظام الإنساني في الشِّعْر يعتمد على خروج الشاعر مِن نَفْسه ، ثُمَّ النظر إليها عن بُعد، ورصد الثغرات وردمها ، ثُمَّ العودة للاندماج بالذاتِ الشاعرة . والتأثير المعنوي والمادي للقصيدة يعتمد على سَيل أفكار غَير مُتوقَّع . ومن هنا تنبع قوة القصيدة ، فالقدرة على مُباغتة المتلقي هي التي تستفز قواه الذهنية وتُزلزله عاطفيًّا ، مِمَّا يؤدي إلى حالة ذهنية مُتَّقدة ، ومواجهة صاخبة بين النص والمتلقي، أي بين أشعة الكلام ومرايا صاحب أدوات الاكتشاف. والقصيدة وهجٌ قادم من عروق التاريخ البشري ، وتنقيبٌ متواصل عن الربيع داخل الخريف. والقصيدةُ معركةٌ لا بد من خَوْضها من أجل وضع النقاط على الحروف ، ورسمِ حدودِ الوجود تمهيدًا لإزالة الحدود بين الإنسان ونَفْسِه ، وبين الإنسان ومجتمعه ، وبين اللغة والشاعر .

     ومن الضروري الانتباه إلى أن القصيدة كالسَّابح ، كلاهما إذا ارتبكَ غرقَ. وبما أننا في عالَم القصيدة ، فلا بد أن نتحدث عن " موت القصيدة " ، وهذه العملية مرحلة مُؤقَّتة مثل استراحة المُحارِبِ . وهذا " المَوت " أشبه بالهدوء الذي يَسْبق العاصفة . وفي ضوء هذه المعطيات ، ينبغي اعتبار مَوت القصيدة صِفةً مَجَازية . فالقصيدةُ تُولَد مِن مَوتها ، وتتكرَّس في ولادة الشاعر الرائي لكي تحيا حاملةً معها خلودَ صانعها . وهذا الانبعاثُ المتجدد يَجعل القصيدة _ في حقيقة الأمر _ لا تَموت .

     والشاعرُ الحقيقي يَرمي القارئَ في فُوَّهة البركان اللغوي مباشرةً بلا مقدِّمات، ويُلغِي القواسمَ المشتركة بين قصائده. وكلما تعذَّب الشاعرُ ارتفعَ مستوى إنتاجه، وبالتالي استمتع القراء أكثر ! . وهذا الموتُ اللذيذ يُعتبَر تتويجًا لفلسفة الاستمتاع بالعذاب . والشاعرُ ليس وحيدًا في مملكته (القصيدة ) لأن عناصر الطبيعة تشترك معه في صياغة النَّص الشعري ، كما أن الجماهير تساهم في كتابة النَّص بقَدْر ما يُساهم صاحبه. وهذا التلاحمُ التلقائي يمنع تحوُّل الشِّعر إلى شظايا مُعدَّلة وراثيًّا.والشاعرُ لا يموت ولا يمكن قَتْلُه لأنَّه فكرة يَحْملها الناسُ ، هذا هو الوضع الطبيعي . أمَّا الوضعُ الخاص ، فإن الشاعرَ يموت حين يَفقد القدرةَ على الإدهاش .

     لماذا يَكتب الشعراءُ قصائدهم ؟! . هذا سؤال يُشبه إلى حد بعيد أسئلة من قبيل : لماذا نأكل ؟ لماذا نشرب ؟ لماذا نتنفس ؟. فالقصيدةُ نسقٌ فكري وغريزة حيوية في آنٍ معًا . والظاهرةُ الشِّعرية مبنية على الشعور المتبادل بين عناصر الطبيعة وقلب الشاعر. الحلمُ يتكرر ، لكنَّ القلبَ واحدٌ . وهذا القلب بكل شظاياه يُصوِّر لنا حياةً جديدةً نحياها في الخيال ، ويحياها الخيالُ فِينا واقعًا ملموسًا .

     إنَّ أدق تعريف للشِّعْر هو الشِّعْر . إنَّه كُتلةٌ لغوية جبَّارة متكونة من الألفاظ والمعاني ، لا يمكن تأطيرها ضمن حدود معيَّنة بسبب طاقة الكلمات المُشِعَّة في كل الاتجاهات ، والمُحلِّقة فوق الأزمنة والأمكنة . كما أن هذه الكُتلة ( الشِّعر ) لا يمكن تجنيسها لأنها لا تعيش بين الجدران ، أو خلف الأسوار. فالشِّعرُ كاسرٌ للأسوار ولا يَعترف بالجدران. وقد ظهرَ لكي يَقتل الوَحْشَ في الإنسان ، ويُعيد الإنسانَ إلى إنسانيته .