03‏/01‏/2024

مقبرة قديمة من المرمر

 

مقبرة قديمة من المرمر

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد

..........................

     مَقبرتي بِلا بَوَّابةٍ / وَدَمِي بِلا شَرَايين / لَكِنِّي أكتشفُ تِلالَ بِلادي بَيْنَ الخَنْجَرِ والسِّكِّين / وأُرَاقِبُ شَجَرَةَ التُّفاحِ وَهِيَ تَنْمُو في الهاويةِ السَّحيقةِ / وأُرَاقِبُ كُرَيَاتِ دَمِي وَهِيَ تَنْبُتُ في قَاعِ المُسْتَنْقَعِ / تَحْتَ أشِعَّةِ القَمَرِ المُخْتَبِئِ وَرَاءَ أقنعةِ الغَيْمِ /

     وُجُوهُ الشَّركسياتِ في لَيْلِ الشِّتاءِ تَغْسِلُ المِلْحَ في دُمُوعي / وَيَتَوَهَّجُ المِلْحُ في خُبْزِ الفُقَراءِ/ لِيُضِيءَ طَرِيقَ النَّوَارِسِ إلى مِقْصَلَةِ البَحْرِ / ضَوْءُ المَنَارةِ يَنكَسِرُ في أوْرِدَةِ العُشَّاقِ الذينَ مَشَوْا عَلى شَاطِئِ المساءِ / وَخَرَجُوا مِن ذَاكرةِ البَحْرِ وَلَمْ يَعُودُوا / وجَمَاجِمُ الأطفالِ الذينَ بَنَوا القُصُورَ الرَّمْلِيَّةَ وَهَدَمُوهَا / مُعَلَّقَةٌ في سَقْفِ حَلْقِي كَقَنَادِيلِ القُرَى المَنْسِيَّةِ /

     كُلَّما وَضَعْتُ رَأسي المقطوعَ عَلى الوِسَادَةِ / رَأيْتُ وُجُوهَ الأمواتِ عَلى زُجاجِ نافذتي / كُلَّما نِمْتُ عَلى دَبابيسِ الذِّكرياتِ/ رَأيْتُ قَاتِلَتِي في المَنَامِ / أخافُ أن أنام / أخافُ أن أنظُرَ في المِرْآةِ / كُلَّما نَظَرْتُ إلى جُثمانِ البَحْرِ / أَطْلَقْتُ الرَّصَاصَ عَلى البَحْرِ / أنا شَبَحٌ يَنْتَظِرُ مَلَكَ المَوْتِ /

     ثَلْجٌ مَنْسِيٌّ عَلى قِرْمِيدِ الأدْيِرَةِ المهجورةِ / والطريقُ إلى ضَوْءِ القَمَرِ مُعَبَّدٌ بأشلاءِ الضَّحايا / وجَسَدُ البُحَيرةِ الرَّصَاصِيَّةِ مَفْرُوشٌ بِجَدَائِلِ الرَّاهباتِ وطَحَالِبِ الذاكرةِ / فيا شَقيقتي الرِّمال / نُعُوشُنا مِن خَشَبِ الأثاثِ المُسْتَعْمَلِ / وأكفانُنا مِن أوراقِ الخريفِ / ولا نَعْرِفُ مَن سَيَمُوتُ أوَّلًا /

     هَرَبَ الجُنودُ مِنَ المَعركةِ / وَمَشَوْا تَحْتَ المَطَرِ في لَيالي الخريفِ / وَرَمَوا الأوسمةَ العَسكريةَ في حَاوِيَاتِ القُمامةِ / والزَّوابعُ تُخَبِّئُ جَثَامِينَ الجُنودِ في حُفَرِ المَجَاري / وَعِظَامُ الفُقَرَاءِ تُزَيِّنُ إشَارَاتِ المُرُورِ في شَوَارِعِ المَلاريا / والثلجُ الأزرقُ يَصْنَعُ مِن أسنانِ النِّساءِ المُغتَصَبَاتِ حِبَالَ غَسِيلٍ عَلى سُطُوحِ البُيُوتِ المهجورةِ / وَضَفَائِرُ الرَّاهباتِ عَلى الصَّليبِ / وأجراسُ الكَنَائِسِ صَامِتَةٌ كَمَزْهَرِيَّاتِ مَحَاكِمِ التَّفتيشِ /

     الهَلَعُ المرسومُ عَلى وُجُوهِ النِّساءِ في أزِقَّةِ الجَرَادِ/وَالخَنْجَرُ الذهبيُّ مَغرُوسٌ في قَلْبِ التُّفَّاحةِ / وَمُدُنُ الطاعونِ مَزروعةٌ بِكَامِيراتِ المُرَاقَبَةِ / وَلَن تَقْدِرَ قِطَطُ الشَّوارعِ عَلى الهَرَبِ مِن مَساميرِ النُّعوشِ / والبَحْرُ مُغلَقٌ بالشَّمْعِ الأحمرِ/ والعُشَّاقُ يَتَنَاوَلُونَ العَشَاءَ عَلى ضَوْءِ الشُّموعِ / وَلَن تَقْدِرَ كِلابُ الحِرَاسَةِ عَلى الهَرَبِ مِنَ الحواجزِ العَسكريةِ / وأسَاوِرُ النِّساءِ تَتساقطُ عَلى بَلاطِ الزَّنازين / وَلَن يَقْدِرَ الحَمَامُ الزَّاجِلُ عَلى الهَرَبِ مِن مَلاقِطِ الغَسِيلِ / السَّفينةُ تَغرَقُ في بَحْرِ الدِّماءِ / والذِّكرياتُ مُحَنَّطَةٌ في مِلْحِ الدُّموعِ / وفِئرانُ السَّفينةِ تَأكُلُ جُثَثَ البَحَّارَةِ .