18‏/04‏/2025

متحف المقابر الجماعية

 

متحف المقابر الجماعية

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد

.....................

     المَطَرُ القِرْمِزِيُّ يَسْقِي مَقَابِرَ الغُرَبَاءِ / فَيَنْمُو النَّعناعُ في ثُقوبِ شَوَاهِدِ القُبورِ / أَنقِذْنِي يا ضَوْءَ القَمَرِ مِن أشلائي الكريستالِيَّةِ / شَراييني مُوحِشَةٌ / وَدَمِي مُتَوَحِّشٌ / والخَنَاجِرُ التي تتكاثرُ في شَهيقي وَزَفيري / تَرْسُمُ وُجُوهَ الأمواتِ على زُجاجِ نافذتي / والزَّوابعُ تَرْسُمُ دُمُوعَ العَصَافِيرِ عَلى زُجاجِ القِطَاراتِ/والضجيجُ الذي تُلْقِيهِ نَبَضَاتُ قَلْبِي عَلى وِسَادتي يَمْنَعُنِي مِنَ النَّوْمِ/ذَهَبَ أبي إلى المَوْتِ/وَبَقِيَ مُسَدَّسُهُ تَحْتَ الوِسَادَةِ/ذَهَبَتْ أُمِّي إلى المَوْتِ/ وَبَقِيَتْ أَسَاوِرُهَا في صُحُونِ المَطْبَخِ/

     في لَيْلِ الانقلاباتِ العسكريةِ / لَمْ يُفَرِّق الأطفالُ الذينَ يَبِيعُونَ العِلكةَ على إشاراتِ المُرُورِ / بَيْنَ صَوْتِ المَطَرِ وَصَوْتِ الرَّصَاصِ / كُلَّمَا سَمِعْتُ صَوْتَ المَطَرِ تَفَجَّرَتْ أصواتُ المَوْتَى في جِلْدِي/ وَرَأيْتُ في لَمَعَانِ أظافري خُدُودَهُم التي سَيَأكُلُهَا الدُّودُ / لا أبكي على المَوْتَى / أبكي على نَفْسِي / تَنَاثَرَتْ كُرَيَاتُ دَمِي في مَرفأ الجِرذان / كَمَا تَنَاثَرَتْ حَبَّاتُ الرُّمَّانِ بَيْنَ قَطَرَاتِ المَطَرِ الوَهَّاجَةِ / والذِّئبةُ تنتظرُ نُمُوَّ ثَدْيَيْهَا كَي تَفْتَخِرَ بِهِمَا في سُوقِ النِّخَاسَةِ / وَتُتَاجِرُ بِهِمَا في بُورصةِ الرَّقيقِ الأبيضِ/ ويَجُرُّ الأطفالُ نُعُوشَ أُمَّهَاتِهِم في طُرُقَاتِ الطاعون/ وضَفَائِرُ الغَزَالاتِ تتطايرُ بَيْنَ مَساميرِ النُّعوشِ التي يُلَمِّعُهَا ضَوْءُ القَمَرِ / وَبَيْنَ أعمدةِ الكَهْرَبَاءِ التي حَطَّمَهَا الإعصارُ /

     قُتِلَ النَّهْرُ في اشتباكٍ مُسَلَّحٍ مَعَ الذِّكرياتِ / قَتَلْنَاهُ وَمَشَيْنَا في جِنَازَتِهِ / أنا المَنْفَى في أوراقِ الخريفِ / أنا المَنْفِيُّ في قَطَرَاتِ المَطَرِ / أركضُ في شَراييني النُّحاسيةِ / وأتدرَّبُ على كِتابةِ قَصائدِ الرِّثاءِ / وأَزُورُ أطلالَ قَلْبي في عِيدِ السَّرابِ / حِينَ تَرْحَلُ أحلامُ الطُّفولةِ مِن قَمْحِ الغُزاةِ إلى سَنابلِ الغُروبِ / وأُحَنِّطُ أشلائي في لَوْحَاتِ المَتَاحِفِ / حِينَ تُهَاجِرُ الشَّركَسِيَّاتُ مِن أُغْنِيَاتِ الرَّحِيلِ إلى غَابَاتِ الشَّفَقِ /

     الأُمَّهاتُ واقفاتٌ في طَوابيرَ أمامَ الحاجزِ العسكريِّ لاستلامِ جَثامينِ أبنائِهِنَّ / والعبيدُ واقفونَ في طَوابيرَ أمَامَ قَصْرِ المَلِكِ المَخلوعِ لاستلامِ بَراميلِ النِّفْطِ/ وأنا النَجَّارُ الأخيرُ في مَدينةِ السَّرابِ/ جِئْتُ كَي أصْنَعَ نُعُوشَكُم/ فلا تَكْرَهِيني أيَّتُها الرِّمَالُ المُتَحَرِّكَةُ / أنا الحَدَّادُ الأخيرُ في مَدينةِ الوَهْمِ / جِئْتُ كَي أصْنَعَ مَسَامِيرَ نُعُوشِكُم / فَلا تَكْرَهِيني أيَّتُها الشُّطآنُ الغارقةُ /

     طَيْفُ الأُنوثةِ المُستحيلةِ يُنِيرُ أوْرِدَتي الحَجَرِيَّةَ في ليالي الشِّتاءِ السِّحريةِ / ويَغسِلُ ألواحَ تابوتي بِمِلْحِ الدُّموعِ السِّرِّيةِ / يا زَائِرَتِي الغامضةَ في السَّحَرِ/ اقْتُلِيني في ليالي الصَّيفِ البَعيدِ / لأنَّ أمطارَ الشِّتاءِ تُحَطِّمُ شَاهِدَ قَبْري.