30‏/09‏/2015

الطهارة والتطهر من منظور إسلامي

الطهارة والتطهر من منظور إسلامي

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد 

facebook.com/abuawwad1982

..............................

     لقد حرص الإسلام على تجذير مبدأ الطهارة في المجتمع على المستوى الفردي والجماعي ، والمستوى المحسوس وغير المحسوس. فالمسلم هو عبدٌ لله تعالى ، فينبغي أن يكون طاهراً حتى يصح التوجه إلى خالقه تعالى . كما أن الطهارة هي أساس العبادات ، سواءٌ بمعناها الفعلي المادي أو المعنوي ( ماوراء المادة الملموسة ) .
     قال الله تعالى : } ويُنَزِّل عليكم من السماء ماءً ليُطَهِّركم به  {[ الأنفال : 11] .
     إن الماءَ هو أساس الطهارة . وقد نزَّل اللهُ تعالى على المؤمنين ماءً في غزوة بَدْر ليُطهِّرهم به . يَشربون منه ، ويَغتسلون به ، ويُصَلُّون طاهرين . وفي ذلك الموقف العصيب كان الماءُ مفقوداً ، وقد جاء الغَوْثُ الإلهي رحمةً بالمؤمنين ، وتطهيراً لهم، وإنقاذاً لهم من هذا المأزق القاسي . والإنسانُ لا يَعرف قيمةَ النِّعمة إلا في حال فَقْدها .
     وفي تفسير القرطبي ( 7/ 326 ) : (( وحكى الزجاج : أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه ، وبقي المؤمنون لا ماء لهم ، فوجست نفوسهم ، وعطشوا ، وأجنبوا ، وصَلُّوا كذلك . فقال بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم : نزعم أنا أولياء الله وفينا رسوله وحالنا هذه والمشركون على الماء ، فأنزل الله المطر ليلة بدر ، السابعة عشرة من رمضان ، حتى سالت الأودية فشربوا وتطهروا )) اهـ .
     ومع أن الظروف المحيطة بالصحابة _ رضي الله عنهم _ ظروف حرب ( غزوة بدر ) ، إلا أن الله تعالى أراد أن يجعل عبادَه طاهرين لكي يواجهوا الأعداءَ وهم في أعلى درجات النقاء المعنوية والحسية . فهذا الماءُ الذي أنزله الله تعالى كان طاهراً مطهِّراً ، وبثَّ السكينةَ في قلوب المؤمنين ، ونقلهم إلى مرتبة الطهارة الكاملة . وهذا يدل على أهمية النقاء والصفاء في كيان المسلم وبيئته .
     وطهارةُ المسلم ليست شكليةً ظاهرية فحسب ، بل إنها تنفذ إلى صميم كيان المسلم الذي داخله كخارجه لا تعارض بينهما. فالطهارةُ هي الحاضنة الشرعية لروح المسلم وجسده، تنقله إلى عوالم القرب من خالقه تعالى. وليست الطهارةُ _بأية حال من الأحوال_ إجراءً تجميلياً تنظيفياً مجرَّداً من أبعاده الروحية ودلالاته الاجتماعية . إذ إن مفهومها أوسع من ذلك، وأكثر شموليةً وعمقاً. إنها تطهُّرٌ من شوائب الدنيا ، وانقطاعٌ تام عن النجاسات الحسية والمعنوية ، وعمليةُ تطهير للإنسان من القيم السلبية على الصعيد المعنوي والمادي. فلا يمكن للنور أن يستقر في مكان نجس ، لذلك كانت الطهارةُ هي الاستعداد الضروري لاستقبال الهداية، والتَّهيئة الحتمية لاحتضان النور .  
     قال الله تعالى : } وإن كنتم جُنُباً فاطَّهروا  {[ المائدة : 6]{(1)}.
     أي اغْتَسِلوا بالماء في حال حدوث جنابة ( الحدث الأكبر ) . وذلك لكي يظل المسلمون طاهرين في كل أحوالهم . فديمومةُ الطهارة بالغة الأهمية من أجل استقبال الفيوضات الرَّحمانية ، والبقاء على أُهبة الاستعداد لتلقي النفحات الربانية . فغيابُ الطهارة قطيعةٌ مع الهداية الإلهية .
     وفي صحيح البخاري ( 1/ 99 ) : عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ، ثم يُدخل أصابعه في الماء فيُخلِّل بها أصول شَعره ، ثم يصب على رأسه ثلاث غُرف بيديه ، ثم يُفيض الماءَ على جِلده كله .
     والنبيُّ صلى الله عليه وسلم _ وهو الطاهر المطهَّر_ لا يقوم بأعماله عبثاً، ولا تخضع حركاته وسكناته للصدفة . فالحرصُ على الاغتسال من الجنابة مؤشر على أهمية الطهارة ، كما أن هذا الترتيب الدقيق المشتمل على البدء باليدين ثم وضوء الصلاة والحرص على إيصال الماء لأصول الشَّعر ثم صب الماء على الرأس بدون إفراط في استهلاك الماء ، ثم تعميم الماء على الجلد كله ، ليس ترتيباً عبثياً ، بل هو نظام دقيق يتضمن عدم الإسراف في الماء ، واستحضار وضوء الصلاة الذي يدل على الارتباط اللصيق بين الطهارة والصلاة ، وإيصال الماء إلى كل نقاط الجسم دون استثناء . كما أن التَّيامن ( البدء بجهة اليمين ) سُنَّة نبوية ثابتة. فهذه المنظومة المتكاملة تشير إلى أهمية الطهارة في حياة المسلم وانعكاساتها على حياته وطبيعة تفكيره وسلوكياته . فليست الطهارةُ كميةً من الماء تُسكَب على الجسم وينتهي الأمر ، أو مجموعة من المواد الكيميائية لإزالة الأوساخ . إن ماهيتها أكبر من ذلك ، فهي تحتوي على منهجية شاملة لتجهيز العبد وتهيئته نفسياً وجسمياً لاستحضار عَظَمة الخالق تعالى والوقوف بين يديه ونشر تعاليمه . 
     وقال الله تعالى : } وثيابكَ فَطَهِّرْ  {[ المدَّثر : 4] .
     فهذا الأمرُ الإلهي يشير إلى أهمية الطهارة ، سواءٌ كان المقصود بالآية الطهارة المادية ، وهي تطهير الثياب من النجاسات التي قد تلحق بها. أو الطهارة المعنوية ، كتطهير القلب أو الجسم ... .
     والمعنوي اللغوي الظاهر من الآية هو تطهير الثياب الملبوسة . والأصلُ حَمْلُ آياتِ القرآن على المعنى الظاهر ، ولا يتم اللجوء إلى المجاز إلا في حال ظهور قرينة .
     أمَّا مَن فسَّر " الثياب " في الآية بالقلب ، فقد استدل بقول امرئ القيس في معلَّقته :
وَإِن تَكُ قد ساءتكِ مني خَليقةٌ          فسُلِّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُـلِ
     أو بقول عنترة :
فَشَكَكْتُ بالرُّمحِ الأصمِّ ثيابَهُ          ليسَ الكريمُ على القَنا بِمُحَرَّمِ
     قال الشوكاني في فتح القدير ( 5/ 454 ) : (( المراد بها الثياب الملبوسة على ما هو المعنى اللغوي . أمره اللهُ _ سبحانه _ بتطهير ثيابه وحفظها عن النجاسات ، وإزالة ما وقع فيها منها . وقيل : المراد بالثياب العمل ، وقيل : القلب ، وقيل : النفس ، وقيل : الجسم ، وقيل : الأهل ، وقيل : الدِّين ، وقيل : الأخلاق . قال مجاهد وابن زيد وأبو رزين : أي عملك فأصلح . وقال قتادة : نفسك فطهِّر من الذنب ، والثياب عبارة عن النفس . وقال سعيد بن جبير : قلبك فطهِّر . ومن هذا قول امرئ القيس : ( فسلي ثيابي من ثيابك تنسل ) . وقال عكرمة : المعنى ألبسها على غير غدر وغير فجرة ، وقال : أما سمعت قول الشاعر :
                 وإني بحمد الله لا ثوب فاجر           لبستُ ولا من غدرة أتقنع )) اهـ .
     وعن جابر بن عبد الله الأنصاري _ رضي الله عنهما _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدِّث عن فترة الوحي ، قال في حديثه : (( بَيْنا أنا أمشي سمعتُ صوتاً من السماء فرفعتُ بصري فإذا الْمَلَك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، ففرقتُ منه، فرجعتُ ، فقلتُ : زَمِّلوني زملوني )) ، فدثَّروه ، فأنزل الله تعالى :} يا أيها المدَّثر . قُمْ فأنذِرْ . وربَّكَ فكبِّرْ . وثيابكَ فطهِّرْ . والرُّجْزَ فاهْجُرْ  {[ المدثر 1_5]{(2)}.
     لقد أمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بالطهارة الحسية والمعنوية . وهذا الأمرُ شامل لكل الأمة . وهنا تتجلى رحمة الله تعالى بعباده الذين أرادهم أنقياء أصفياء بلا شوائب ، يدخلون إلى حضرته العَلِيَّة وفق أحسن صورة ، قلباً وقالباً .
     فالدربُ إلى الله تعالى لا مكان فيه للنجاسات والشوائب، فهو دربٌ نوراني ممتلئ بالتطهر والخير والسعادة. ومن اختار أن يمشيَ فيه ، عليه أن يكون طاهرَ السريرة ، وطاهرَ البدن . يهاجر إلى خالقه تعالى مستعداً ، وعلى أفضل هيئة .
     قال الله تعالى : } لا يَمَسُّهُ إلا المطَهَّرون  {[ الواقعة : 79] .
     والذي يَظهر أن المقصود في الآية هو الكتاب المكنون ( الكتاب الذي في السماء ) ، وليس القرآن الكريم . فالقرآنُ يمسُّه المؤمنُ الطاهر والكافرُ النجس . أمَّا الكتاب المكنون فلا يمسُّه إلا المطهَّرون ، وهُم الملائكة .
     قال الشوكاني في فتح القدير ( 5/ 227 ) : (( قال الواحدي : أكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الكتاب المكنون: أي لا يمس الكتاب المكنون إلا المطهَّرون، وهم الملائكة. وقيل : هم الملائكة والرسل من بني آدم )) اهـ .
     وعن عبد الرحمن بن يزيد قال : كنا مع سلمان _ رضي الله عنه _ فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا ، ثم خرج إلينا ، وليس بيننا وبينه ماء . قال : فقلنا له : يا أبا عبد الله لو توضأتَ فسألناكَ عن أشياء من القرآن ، قال : فقال : سلوا ، فإني لستُ أَمسه ، فقال: إنما يمسه المطهرون . ثم تلا : } إنه لقرآنٌ كريم  {[ الواقعة : 77] . } لا يَمَسُّهُ إلا المطَهَّرون  {[ الواقعة : 79]{(3)}.
     ووفق هذا الحديث يتَّضح أن سلمان الفارسي _ رضي الله عنه _ يعتقد أن المقصود في الآية هو القرآن الكريم ، لذا رَفض أن يمسُّه وهو على غير وضوء . وهذا ما ذهب إليه بعضُ المفسِّرين الذي يَرَوْن أن القرآن الكريم لا ينبغي مسُّه من قِبَل غير المطهَّرين ،  ومن لم يلتزم بذلك فقد خالفَ الشريعةَ .
     ومن خلال النصوص الشرعية تتضح أهمية الطهارة والتطهر على جميع الأصعدة . لما في ذلك من تهيئة الفرد للاضطلاع بمسؤولياته الجسيمة، باعتباره حامل أمانة الدِّين ، وخليفة الله في الأرض. فالمنهج الشرعي واضحٌ في مساره ، حيث يحاط الإنسان بسياج الطهارة والتطهر ، لكي يظل دائماً على اتصال مع خالقه تعالى ، وهو في أبهى حُلَّة مشتملة على نقاء العبودية ، وصدقِ التوجه إلى الله تعالى .
     قال الله تعالى : } وإذ قالت الملائكةُ يا مريمُ إن الله اصطفاكِ وطهَّركِ  {[ آل عمران : 42] .
     أي إن الله اختاركِ وطهَّركِ من الكفر والضلال والدنس ، وجعلكِ نقيةً عابدة تقية ذات قلب صافٍ لا مكان للشوائب فيه ، وذات جسد طاهر شريف لا مكان للحرام فيه . فالسيدة مريم _ عليها السلام _ جُعلت ذات قلب طاهر وجسدٍ نقي لكي تضطلع بدورها المحوري في الدعوة الإسلامية . فالهدايةُ الربانية والنجاسة ضدان لا يجتمعان . ولو وُجدت أدنى شُبهة حول السيدة مريم لكان ذلك ضربةً قاضية للدعوة ، وباباً واسعاً لدخول المشكِّكين الطاعنين في الدِّين ، وعندئذ ستؤول دعوة النبي عيسى صلى الله عليه وسلم إلى الفشل بسبب غياب الحاضنة الطاهرة . وهذا مُحال . فاللهُ تعالى اختار المنبعَ الصافي ( السيدة مريم ) لاحتضان هذا النبي العظيم ، والمساهمة في الدعوة الإسلامية من خلال موقف قوي متماسك، ومنظورٍ إيماني لا تتسلل إليه الشبهات أو النجاسات المعنوية والحسية . فالدعوةُ تخرج من حاضنة طاهرة شريفة لكي تكون ذات تأثير وإقناع في الرأي العام ، ولا يمكن أن تنبع من مكان مشبوه .
     وقال الشوكاني في فتح القدير ( 1/ 510 ) : (( قيل : هذا الاصطفاء الآخر غير الاصطفاء الأول . فالأول هو حيث تقبلها بقبول حسن ، والآخر لولادة عيسى ... وقيل : الاصطفاء الآخر تأكيد للاصطفاء الأول ، والمراد بهما جميعاً واحد )) اهـ .
     وهكذا تتجذر الطهارة كرتبة سامية ومنزلة عظيمة لا يحصل عليها إلا من اختاره اللهُ تعالى لحمل مسؤولية الدين وتبليغه ، وإيصال الدعوة الإسلامية إلى الآخرين . فالسيدةُ مريم _ عليها السلام _ ليست امرأةً عادية حَبِلت وَوَلَدَت . فاللهُ تعالى اختارها لإجراء معجزة خالدة ، حيث صارت حُبلى بدون زواج ، وهذا الطفلُ الذي كان في أحشاؤها هو واحد من أعظم أنبياء الله تعالى ، وهو عيسى صلى الله عليه وسلم الذي خلقه الله تعالى بدون أب ليرى الناسُ قدرةَ الخالق غير المحدودة .
.........الحاشية..............
{(1)} قال الشوكاني في فتح القدير ( 2/ 25 ) : ((  وقد ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود إلى أن الجنب لا يتيمم البتة ، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء استدلالاً بهذه الآية . وذهب الجمهور إلى وجوب التيمم للجنابة مع عدم الماء ، وهذه الآية هي للواجد ، على أن التطهر هو أعم من الحاصل بالماء أو بما هو عوض عنه مع عدمه وهو التراب . وقد صح عن عمر وابن مسعود الرجوع إلى ما قاله الجمهور للأحاديث الصحيحة الواردة في تيمم الجنب مع عدم الماء )) اهـ . وقال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 4/ 5) : (( وأصل الجنابة في اللغة : البُعد . وتُطلَق على الذي وجب عليه غُسْلٌ بجِماع ، أو خروج مني ، لأنه يجتنب الصلاةَ والقراءة والمسجد ، ويتباعد عنها ، والله أعلم )) .
{(2)} متفق عليه.واللفظ للبخاري( 4/ 1895 )برقم( 4671 ).ومسلم ( 1/ 143) برقم ( 161).

{(3)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 519 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .