17‏/04‏/2016

علم اجتماع القصيدة

علم اجتماع القصيدة

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

twitter.com/abuawwad1982

......................

   إن كتب علم الاجتماع العربية والأجنبية تُركِّز على بُنية العلاقات الاجتماعية بين الناس ، وإشكالياتها وتفاصيلها . ولكن من النادر انتقال معنى التفسير الاجتماعي إلى الأشكال الثقافية الحياتية ، وعلى رأسها القصيدة . لذلك فالحاجة تبدو ماسَّةً لتأسيس رؤية شمولية تمسُّ القصيدةَ بكل جوانبها ، خصوصاً الجانب الاجتماعي والتأثير في أنساق التحولات البشرية في المجتمعات .
     ولَمَّا كانت القصيدةُ عَالَمَاً متشابك الأوصال ، كان لزاماً تجذير التجوال في الأبعاد الرمزية للقصيدة ، والتفاعل مع العناصر الفكرية ،  حيث المرور على التقنيات الأدبية في توليد الرؤى والبناءاتِ المتوالية بشكل فاحص لا عابر . وهنا تبرز أهمية اختبار النص الشِّعري كلمةً كلمة  .
     والمرورُ اللغوي في عوالم القصيدة ليس عابراً . إنه تجريد وتعرية . أضف إلى ذلك حتمية العمل المتواصل من أجل إخضاع القصيدة لعِلم اجتماع خاص بها له مُقوِّماته الاستقلالية ، وأبعاده المادية والذهنية بالغة الخصوصية ، وأيضاً من أجل الذهاب إلى ماوراء النص بغية الحصول على صيغة متكاملة لنص منهجي مُكثَّف قادر على تفسير النص الشِّعري المتمتع بكل خصوصياته .
     ويمكن تعريف " عِلْم اجتماع القصيدة " على أنه : ( العِلْمُ الذي يَدرس القصيدةَ باعتبارها مجتمعاً متحركاً بشكل ذهني وواقعي، ويقومُ بتشريحها إلى وحداتٍ بدائيةٍ انطلاقاً من ثلاث محطات: الولادة " الانبعاث" ، والشباب " العنفوان " ، والموت " الانطفاء "، معَ الانتباه إلى حالات التمايز والدمج والمجازِ والحقيقة ، بين هذه المراحل الثلاث المختلِطة إلى درجة الانصهار ، في بؤرية الحلم المستتِر ) .
     والقصيدةُ هي الثورة الذهنية الواقعية الأكثر قدرة على استشراف الواقع المتخيَّل ،  ذلك  الواقع المعجون بالطموح الإنساني الواعي الذي تتم عقلنته في كل لحظة سطوع. وبالتالي فحريٌّ بنا أن ندرس القصيدة بوصفها كائناً حياً له صفات خاصة ، ويمر في أطوار مادية وغير مادية متعددة الجوانب.وهذه الأطوار إنما هي تشكيل للقدرات الإشاراتية التي تستشرف مستقبلَ الحلم، وتُحوِّله إلى وجهٍ للتاريخ ، وطريقةٍ لفهم تحولات الذات الإنسانية في أعماق تشكيلها الشِّعري .
     والبعضُ يعتقدون أن تطور المجتمعات الإنسانية يستند إلى نهضة تكنولوجية مادية مجرَّدة من كل النواحي الأدبية والفنية . وهذا اعتقادٌ موغل في الخرافة الأكيدة ، لأن الأمم المتطورة تكنولوجياً لا بد أن تكون متطورة أدبياً وفنياً ، والعكس غير صحيح . فالأمةُ العربية تعيش أزمةً معرفية شديدة الوطأة ، وهي مُحاصَرة بأشباح التخلف التكنولوجي ، لكن هذا لا يعني أنها متخلفة حضارياً أو أدبياً. بل هي تعجُّ بالمبدِعين والعلماء والفلاسفة والأدباء الذين يستطيعون مُقارَعة أكبر المبدِعين في العالَم ، والتفوق عليهم بسهولة . لكن البيئة العربية عاجزة عن زراعة المبدِع في قلب الحضارة العالمية، بسبب تمركزها السياسي في هامش الأمم، وبالتالي فإن المبدِع العربي يَذهب ضحيةَ انكسار بلاده .
     لقد قَصَّرْنا في صناعة السيارات والطائرات ، أي تقاعسنا في النواحي المادية المحضة ، لكننا ما زِلنا نصنع مجداً أدبياً لافتاً. ومن الأخطاء الكارثية تصنيف الأمة العربية في الآداب والعلوم كدرجة عاشرة لأنها مُتخلِّفة في مجال التكنولوجيا . إِذ إِنه لا توجد مُعادَلة عِلمية تقول إِن الذي لا يُتقِن صُنعَ الحديد لا يُتقِن صُنعَ الإنسان . وهذا يَدفعنا إلى العمل بِجِد لتشكيل حالة من التوازن بين الناحيتين المعنوية والمادية . فالمجتمع الذي يُنجب فلاسفة بارزين وأدباء مُتمكِّنين وعلماء أفذاذاً ، لا بُدَّ أن يَشحذ هِمَّته من أجل صناعة السيارة والطائرة ، وغير ذلك من الصناعات المادية .
     إِن القصيدةَ هي اختصارٌ مُكثَّف لحالة إنسانية جمعية مُحلِّقة في فضاءات أكثر رَحابةً وتسامحاً وعُنفواناً . والقصيدة أساسٌ روحي للنهضة والاندفاع ، ومشروعٌ تاريخي كَوْني حاسم، رغم أنها لا تُعنَى بالوقائع الاجتماعية من حيث تأريخها . وهذا الأمرُ ليس من وظيفة النَّص الشِّعري الساعي بكل ما أُوتِيَ من مهارة وثقافة إلى إعادة تشكيل الواقع ، وفق  منظور حالم  قائم  بالأساس  على استنباط العناصر الثورية ذات الجَمال الفاقع المتشظي إلى تقاطعات حياتية مفصلية ، ومحاور إنسانية تتقاطع مع المنتَج الشِّعري ، الذي يتم اعتباره وجهة واضحة تحدِّد اتجاهَ سَير المجتمع ككُتلة جمعية مُوحَّدة ومُوحِّدة للعناصر المبعثَرة في النصوص الطبيعية الجمالية .

     والقصيدة هي ظاهرة شمولية ، تعتمد على صياغة الأبعاد المعرفية في قوالب كاسرة للقَوْلبة والتقليدية . وينبغي وضع النَّص الشِّعري في أقصى مداه ، من أجل الحصول على علاقات متكافئة مُتمرِّدة على الفوضى داخل الكيان الإنساني والكيانِ المجتمعي . وهذا يدفعنا إلى التفتيش في قلب النَّص عن قدرات فاعلة ، تمتلك المؤهلاتِ لرسم حياة متكاملة في المجتمع الجزئي ( الفرد ) والمجتمعِ الكُلِّي ( الجماعة ) . وإذا أصَّلْنا التزاماً حقيقياً بالمعايير الفنية ، فَسَوْف نحصل على نقاش هادف يُعيد تشكيلَ العلاقات الاجتماعية في النَّص المزروع في نزعة الأنسنة، بشكل يصعب معه المساس بالجذور الراسخة للقصيدة.