26‏/01‏/2018

الطغاة وبلادنا الضائعة

الطغاة وبلادنا الضائعة 

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..................

[1] الحضاراتُ القائمةُ على قَتْلِ البَشَرِ ، تَظهر فَلْسَفَتُها الْمُتَغَطْرِسَةُ في الآثارِ العُمرانيةِ .
     الغرورُ قَبْرُ الإنسانِ وضَريحُ الحضارةِ . يَهدمونَ الإنسانَ ، ثُمَّ يَبْنُونَ المقابرَ بكل أناقةٍ، وَفْقَ أحدثِ نَظرياتِ الهندسةِ المعماريةِ . كانَ الطغاةُ حَريصينَ على تشييد قُبورهم . قَضَوا حياتَهم في التفكيرِ بِمَوْتِهم . وكانت حياتُهم هي فلسفة الموتِ . وُلِدُوا في الموتِ ، وعاشوا في الموتِ ، وماتوا في الموتِ . فَهَل شَعَروا بالحياةِ ؟ .
[2] عِندَما تُحْشَرُ الحضارةُ في الزَّاويةِ تَبدأُ بِأَكْلِ نَفْسِها .
     لا تَحْشُروا القِطَّ في الزاوية . تَنكمشُ الحضارةُ في الزَّاويةِ الضَّيقةِ ، وتبدأ بالاضمحلالِ التدريجيِّ . وحِينَ تَغيبُ الرَّوافدُ ، فإنَّ البُحَيرةَ سَتَجِفُّ . الانفتاحُ هُوَ القُوَّة . سينفتحُ النَّهرُ على البحر ، ويَنفتِحُ البحرُ على البُحَيرة . قد يُوجَد في النهرِ ما لا يُوجَد في البَحْرِ . وقَد يَتفوَّقُ التلميذُ على أُستاذه . إنَّ الحركةَ المستمرةَ هي التي تَمنعُ الدَّراجةَ مِنَ السُّقوطِ .
[3] بِلادُنا كالطاحونةِ . إِنْ أردتَ ألا تُطْحَنَ ، عَلَيْكَ أن تَكونَ أكبرَ مِنَ الطاحونة .
     لا تَلْعَبْ دَوْرَ الضَّحيةِ . لَم يَخْلُقْكَ اللهُ لِتَكونَ ضَحِيَّةً . لا تَخترِعْ مَظلوميةً وتَغرق فيها . كُن نِدًّا ، ولا تَمُتْ إلا وأنتَ نِدٌّ . اصنعْ مَجْدَك بِيَدَيْكَ . لا فائدة من البكاء على الأطلالِ . الدموعُ لَن تُعيد الموتى ، ولن تُرجِع الأشياءَ التي ماتت. وظيفةُ الصيادِ أن يصطاد السمكةَ ، لا أن يُفكِّر في مشاعر السمكة لحظة اصطيادها . وظيفةُ السمكة أن تَسْبح وتَهْرب من الصياد ، لا أن تفكر في أبناء الصيادِ الجِياع .
[4] إِنَّ الذينَ يَهْتَزُّونَ أمامَ شهواتهم لن يُحرِّروا أوطانهم .
     الانكسارُ أمامَ الغَريزةِ هُوَ انكسارٌ شاملٌ . والانهيارُ يَنسحِبُ على كُلِّ العناصر . المجدُ وَحْدةٌ واحدة ، لا يتشظَّى ولا يَتجزَّأ . والشخصُ الذي يَخافُ من النظر إلى وجهه في المرآة ، سيخافُ من كل شيء . وإذا خسر الإنسانُ نَفْسَه ، فسيظل خاسرًا حتَّى لَوْ رَبِحَ العالَمَ . والقائدُ المهزومُ سيظل غارقًا في الخزي والعارِ، حتى لو وضع على صدره كُلَّ الأوسمةِ العسكرية .
[5] اسْتَعِدَّ للحَرْبِ وَاحْفِر الخنادقَ ، ثُمَّ اجْلِسْ عَلى طَاولةِ المفاوَضات .
     العالَمُ لا يَعترِفُ إلا بالأقوياء حتى لَوْ أشفقَ على الضُّعَفاء . كلمةُ القويِّ مَسموعةٌ في هَذا العالَم الظالم ، وكلمةُ الضعيف تَذهب أدراجَ الرياح . لا تُوجد حرب من أجل الحرب . إنَّ الحربَ من أجل الحصول على شروط أفضل في اتِّفاقية السلام . والضعيفُ هو الطرف الخاسر الذي يُوقِّع على معاهدة الاستسلام ، ولا يَستطيع أن يُوقِّع على معاهدة السلام . السلام للأقوياء والأنداد ، والاستسلام للضعفاء والمهزومين . اسْعَ مِن أجلِ تَحقيق أعلى رِبْح ، وادْرُس احتمالَ الخسارة ، لِكَيْلا تُصْدَمَ إذا حَدَثَتْ . لا تَتْرُكْ شَيئًا للصُّدفة أو الاحتماليةِ القاتلة .
[6] المجرمون عِندَما يَتقاعدون مِن مَناصِبِهم ، يُصبحون مُدافعين عن حُقوقِ الإنسان .
     عِندَما يُشاركُ الوزيرُ في الحكومةِ ، يُصبحُ مُحامِيًا للشَّيطان . يُدافِعُ عن أخطاءِ الحكومةِ وخَطَاياها، لأنها هِيَ التي تَدفع رَاتبَه الشَّهريَّ . وحِينَ يَخرج من الحكومة ، يُصبِح مُعارِضًا سياسيًّا، ويبني مشروعه السياسي على فضح ألاعيب الحكومة والدفاع عن حقوق المواطنين . تمامًا كالقِطِّ الذي يَلتهِم الفِئران أثناء قُوَّته ، وحِينَ يُصبح عَجوزًا يائسًا ، يُدافِع عن حقوق الفئران في الحياة الكريمة . وفي كل الأحوال ، ستظلُّ الشعوب هي فئران التجاربِ .
[7] التَّصوراتُ المسبقةُ عَن الشَّيء قَد تُضَيِّعُ حَقيقتَه .
     دراسةُ التاريخِ تعني أن نَدْرُسَ ما حَدَثَ على أرض الواقع ، ولا نَدْرُس الأحداثَ التي تَدُورُ في خَيَالِنا ، ونتمنَّى لَوْ كانت واقعًا . التاريخُ هو كشف الحقيقة لا كشف الخيال الذي نَتَمَنَّى لَوْ كان حقيقةً. والتصوراتُ المحيطةُ بالشَّيء قد تَنسف ماهيةَ الشَّيء ، وتُحيله إلى هُوِيَّة مُخادِعة . فالشَّيْءُ هو الجوهر ، أمَّا تَصَوُّراتُنا المغلوطة عنه ، فهي أعراضٌ وهمية قاتلة للجوهر . هُناكَ فَرْقٌ بين الهديةِ والورق الذي تُلَفُّ بِه الهدية . ولا يمكن المقارنة بين اللؤلؤ والصَّدف ، أو القلب والقفص الصدريِّ، أو البيت والسُّور ، أو الصورة والبرواز . والشخصُ الغنيُّ يَحْمِلُ المالَ الكثيرَ في كيس تافهٍ لا يُساوي شيئًا . الجسدُ للترابِ والدُّودِ، لأن الجسد هو الحامل . والعِبرةُ بالمحمولِ . وسَوْفَ تظلُّ رُوحُ الإنسانِ هي الحقيقةَ السَّامِيَة التي لا يَصِلُ إلَيها الترابُ ولا الدُّود .
[8] في كُلِّ مَحكمةٍ ظالمة ضَابِطُ مُخَابَرَاتٍ خَلْفَ السِّتارةِ يُمْلِي الأحكامَ عَلى القُضاةِ .
     ماتت الدَّولةُ . فلا معنى لمحكمة أمنِ الدَّولة . أنتَ محكومٌ بالإعدامِ مُنذُ مِيلادِك ، سَواءٌ صَدَرَ الْحُكْمُ أَم لَم يَصْدُرْ . وفي الدُّوَل الفاشلة ، لا يُوجَد قضاء مُستقل ونَزيه ، لأنَّ الفسادَ هُوَ النشيدُ الوطنيُّ . والأُمَم العائشةُ في التَّنظيرِ والشِّعاراتِ ، هِيَ أُمَمٌ مَيْتَةٌ . والميْتُ لا يَعرف ماهيةَ الحياةِ . ماتَ الحاكمُ والمحكومُ ، وصَدَرَ حُكْمُ الإعدام بلا مَحكمة . انتهت المحاكَمةُ قبل أن تَبدأ . ذَهَبَ الرجالُ إلى الموتِ ، وذهبت النساءُ إلى الموتِ . كُلُّ شيء مات ، ولم يَعُدْ لَدَينا شَيء لِنَخْسَرَهُ .
[9] التَّطرفُ لَيْسَ فِعْلاً وإِنَّما رَدَّةُ فِعْلٍ . وَرَدَّةُ الفِعْلِ تُنْتِجُ وَهْمًا لا فِعْلاً .
     نَضْرِبُ على السَّطحِ ، ولا نَغوص في العُمْقِ . نَبحثُ رُدودَ الأفعال ، ونَخافُ مِن دِراسة الأفعال . نَدُورُ حَوْلَ الماءِ، ونخافُ أن نُلْقِيَ حَجَرًا في الماءِ الرَّاكد. وهكذا، مِنَ الطبيعيِّ أن تزدادَ مُشكلاتُنا ، وتتكاثرَ أزماتُنا ، لأنَّنا نُخفي النارَ تحت الرماد ولا نُحاول إخمادَها . كما أنَّنا نُرَحِّلُ الكوارثَ للأجيالِ القادمةِ ، ولا نُحاولُ إيجاد حُلولٍ لها . بِلادُنا هِيَ النَّعَامَةُ التي تُخفي رَأسَها في التراب هَرَبًا مِنَ الواقع المؤلِم .
[10] الأنظمةُ العربيةُ بِدائيةٌ وجاهلةٌ لأنَّها تَظُنُّ أنَّها تستخدمُ أمريكا .
     لا أحَدَ يَضحك على أمريكا . السياسةُ هِيَ فَنُّ الْمُمْكِن ، ولُعبةُ الأغنياء ، ودُبلوماسِيَّةُ الكلامِ المعسولِ ، ومتاهةُ الأكاذيبِ والشِّعاراتِ . ولا حَقَّ لَكَ في الكلامِ إلا إذا امتلكتَ رغيفَ الخبزِ . وما دُمْتَ خاضعًا للرَّاتبِ الشَّهريِّ ، وخاضعًا لِرَغيفِ الخبز ، ستظلُّ عَبْدًا يَتلاعبُ بِكَ أسيادُك ، ويتَّخذون القراراتِ بِاسْمِكَ ، ويُقرِّرون مَصيرَكَ دُون الرُّجوع إلَيك . والعبيدُ لا يَمْلِكُونَ الْجُرْأةَ على النَّظَرِ في عُيون أسيادهم .
[11] لا يَنهارُ الشَّيْءُ إلا إذا انهارَ مِنَ الدَّاخلِ .
     إذا اقتحمَ اللصُّ بَيْتَك ، فلا تُضَيِّعْ وَقتك في لَوْمِ اللص . إِنَّكَ تتحمَّلُ المسؤوليةَ لأنَّكَ لَم تُحَصِّنْ بَيْتَك . ما أساءَ إِلَيَّ أحدٌ وَلُمْتُهُ ، وإنما أَلُوم نفْسي لأني مَنَحْتُهُ هذه الفُرصة . هُناكَ دُوَلٌ لَدَيها القابلية للاستعمار ، وهناك نساءٌ لَدَيهنَّ القابلية للتَّحرش الجنسيِّ ، وتَتَمَنَّعُ الواحدةُ مِنْهُنَّ وَهِيَ راغبة . إذا كانت الجبهةُ الدَّاخليةُ مُحَصَّنةً فلا يُمكِن اختراقُها من الخارج. أمَّا إذا انهارَ التماسكُ الداخليُّ، سيصبحُ الفردُ والجماعةُ رِيشةً في مَهَبِّ الريح . وجِسْمُ الإنسانِ يظلُّ متماسكًا ما دَامَ يَمْلِكُ جهازَ المناعة الدَّاخليَّ . وسُقوطُ جهاز المناعة هُوَ نهايةُ الإنسانِ الحتمية .
[12] في الدُّوَلِ الفاشلةِ يَكون الحاكمُ مُجْرِمًا ولِصًّا حَتَّى يَفْرِضَ احترامَه على الآخرين .

     يَربطُ العَبيدُ بَيْنَ قَسوةِ الحاكمِ والاستقرارِ السياسيِّ . وهذا أمرٌ مُتَوَقَّعٌ ، لأنَّ العَبدَ يُقْرَع بالعصا ، والْحُرُّ تَكفيه الإشارة . وهؤلاء العبيدُ يَعتقدون أنَّ الحاكمَ يجب أن يكون طاغيةً كَي يُسيطر على مقاليد الْحُكْم ، ولا بُدَّ مِنَ القَبضة الحديدية حتى يَتحقَّق الأمن والأمان والاستقرار . وهذا وَهْمٌ ، لأنَّ حُبَّ الشعب للحاكم هو الضمانة الأكيدة للدفاع عن الحاكم ، وهذا لا يَتَأتَّى إلا بمنح الشعب كامل حقوقه ، ورعاية مصالحه . أمَّا سَحْقُ الشعب وحُكْمُه بالحديد والنار ، فَيُحَقِّقان استقرارًا نِسبيًّا ومُؤقَّتًا . وسَوْفَ يبقى الشعبُ في حالة تَرَبُّص وانتظار من أجل لحظة الانقضاض . ستظلُّ النارُ تحت الرماد، وقد يَثُورُ البُركان في أيَّة لحظة . وكَثرةُ الضَّغط تُولِّد الانفجار . والأنظمةُ القمعيةُ لا تُؤْمِنُ بالتَّداوُل السِّلْمِيِّ للسُّلطة ، لأنَّ سِياسةَ القَمْعِ خاضعةٌ للمنظومةِ القَبَلِيَّةِ ، حَيْث شَيخ القَبيلة هُوَ الحاكم الْمُطْلَق، وعلى الجميعِ طاعتُه. وكُلُّ رَأْيٍ مُخَالِفٍ هُوَ خِيانةٌ ، وكُلُّ مُعَارِضٍ لِسِيَاسةِ الفَسادِ هُوَ عَميلٌ وخائنٌ ومُنْدَس . هذا هُوَ قانونُ القبيلةِ العسكريُّ الذي يُسيطِر على مَفاصل الدَّولة ، ويَتحكَّم بالهرَمِ السياسيِّ مِنَ الرَّأس حتى القاعدة . لقد ماتت الدَّولةُ ، وحَلَّت القَبيلةُ مكانَ الدَّولة. وكُلُّ تَغيير سَيُقَابَلُ بِمُعَارَضَة شديدة مِن قِبَل الْمُرْتَزِقَةِ ( حُرَّاس الوهم ) الذين يهدفون إلى الحفاظ على النظام القمعيِّ ، لأنَّ مصالحهم المادية مُرتبطة بِه ، وإذا زالَ خَسِروا كُلَّ مُكتسباتهم . سَوْفَ يَتمسَّكون بالنظام القمعيِّ بأسنانهم وأظافرهم ، ولا بُدَّ مِن اسْتِنْزاف الشعب حتى الرَّمَق الأخير .