28‏/01‏/2018

في مديح الموت

في مديح الموت

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..............

[1] الموتُ يَجعل المكانَ والزمانَ شَيئًا واحدًا .
     الموتُ يُذيب كُلَّ العناصر في بَوتقةٍ واحدةٍ . الموتُ يُوَحِّدُ الأضدادَ في سَبيكةٍ واحدةٍ ، بحيث يَختفي الزمانُ والمكانُ. إنَّ جاذبيةَ الموتِ أقوى مِن جاذبية الثقوب السَّوداء ، لأنَّ الثقوبَ السَّوداء تَبتلع الضَّوءَ ، أمَّا الموتُ فَيَبتلع الحياةَ بأكملها . لا شَيء يَنتصر على الموتِ . وعلى الإنسانِ أن يَجعل مَوْتَهُ حياةً جديدةً لَهُ . الأحمقُ يَعتبر الموتَ نُقطةَ النِّهايةِ ، أمَّا العاقلُ فَيَعْتَبِرُهُ نُقطةَ البداية .
[2] التَّواضعُ هُوَ أن يَكونَ الْمُصَلِّي وَسَجَّادةُ الصَّلاةِ شَيئًا واحدًا .
     لماذا يَتكبَّرُ الإنسانُ ؟ . يَمشي على الترابِ بكل غُرورٍ . وفي نِهاية الْمَطَاف ، سَوْفَ يَستقِرُّ جُثةً هامدةً تَحْتَ التُّرابِ . خسر الإنسانُ معركته مع التراب ، والمهزومُ لا يَمْلِكُ الوقتَ لِيَرفعَ الرايةَ البَيضاءَ . على الإنسانِ أن يَتَّحِدَ بعناصر الطبيعة . يَتَّحِد مَعَ الأشجارِ لِيُصبح قَلْبُه أخضرَ . يَتَّحِد مَعَ الترابِ لِيُصبحَ جَسَدُه سُنبلةً . يَتَّحِد مَعَ المطرِ لِتُصبحَ رُوحُه نَقِيَّةً . يَتَّحِد مَعَ سَجَّادة الصلاةِ لِتُصبح حياتُه أجمل . وعَلَيْهِ أن يَتَّحِدَ مَعَ الموْتِ الحاكم على عناصر الطبيعة ، وحِينَ يَموتُ سَيَتَحَرَّرُ مِنَ الموتِ ، لأنَّ البابَ المفتوحَ لا يُمْكِنُ فَتْحُه .     
[3] الوَحْدةُ فُرصةٌ لاقتحامِ الجوانبِ غَيْرِ الْمُكْتَشَفَةِ في ذَاتِكَ .
     على الإنسانِ أن يَصنع أسطورته بِيَدَيْهِ ، كَي يَتَّصِلَ بِنَفْسِهِ بَعيدًا عَن ضجيجِ الحياةِ وصَخَبِ العلاقاتِ الاجتماعيةِ. سِجْنُ الإنسانِ في دَاخِلِهِ، فلا يَنبغي أن يُفتِّش عنه في الخارج . وهذا السِّجْنُ فُرصةٌ حقيقيةٌ لاكتشافِ العناصرِ المختبئةِ في قلب الإنسانِ وزَوايا جسده. والعاقلُ هُوَ عَامِلٌ لا يَكُفُّ عن التَّنقيب في مَنْجَمِ جِسْمِه ، من أجلِ استخراجِ الجواهرِ والكُنوزِ . وحتَّى لَوْ كانَ الإنسانُ فَقيرًا وضَعيفًا ، فَسَوْفَ يَعْثُرُ على كنوز ثمينة في جِسْمِه . فالذهبُ مُختبِئٌ في التُّرابِ . والسِّجْنُ مَرحلةٌ مُؤقَّتةٌ لا بُدَّ مِنها لمعرفةِ قِيمة الحرية ، والانطلاقِ إلى وَهجِ التَّحرر وضَوءِ الانبعاث. 

[4] وَدِدْتُ لَوْ أَجْمَعُ أعمارًا كثيرةً وأُضِيفُها إلى عُمُري كَي أُحَقِّقَ أحلامي .
     الإنسانُ مَحصورٌ في الزمانِ والمكانِ. يَتحرَّكُ ضِمْنَ حَيِّز ضَيِّق . عَقْلُه مَحدودٌ ، وخَيَالُه واسعٌ. أحلامُه لا تَنتهي إلا بِمَوْتِه ، وقَد يَأتي آخرونَ بَعْدَ مَوْتِه ، ويُكْمِلُون أحلامَه . وكُلُّ إنسان سَيَموت، وتَموتُ مَعَهُ أحلامٌ كثيرةٌ ، ومشاريع هائلة ، وأفكار خلاقة . والعُمرُ لا يَكفي كَي يَقول الإنسانُ كَلِمَتَهُ كاملةً . العُمُرُ قصيرٌ ، فلا بُدَّ مِن تقديم الأَهَمِّ على الْمُهِمِّ . وينبغي على العاقلِ أن يَعْرِفَ الفَرْقَ بَيْنَ دَرَجاتِ اللونِ الأبيضِ ، والتمييز بين الأَسْوَد والأَسْوَد. وعَلَيْهِ أن يَرتكب أخفَّ الضَّرَرَيْن، ويَعْرِف فِقْهَ الأولويات. الحياةُ زائلة، والموتُ هُوَ الحقيقةُ . وكُلُّ كَاتبٍ يَكتبُ بالحِبْرِ والدَّمِ مَعًا . والكلامُ شَجرةٌ لا تَنْمُو إلا إذا سَقَاها الكاتبُ بِدَمِه . فالدَّمُ هُوَ الذي يَمنح قَارورةَ الحِبْرِ شَرْعِيَّتَها . يَذهبُ جَسَدُ الكاتبِ إلى التُّرابِ، وتظلُّ كلماتُه في فَضاءِ الأرواح والقُلوبِ. الرَّصاصةُ تَقتلُ الجسدَ ، لَكِنَّها لا تَقتلُ الكلمةَ . والكلمةُ لا تُوَاجَهُ إلا بالكلمةِ .
[5] لا تُضَيِّعْ وَقْتَكَ في إِصلاحِ الأغصانِ . اذْهَبْ إلى الْجَذْرِ وأَصْلِحْهُ .

     الْمَنْبَعُ لا الْمَصَبُّ. القلبُ لا الأظافرُ. الرَّأس لا الأطراف . حَدِّدْ رَأْسَ كُلِّ أمرٍ ، ورَكِّزْ عَلَيهِ . اعْرِف الطريقَ الرئيسِيَّ ، ودَعْكَ مِنَ الطرقات الجانبية . لا تُضَيِّعْ وَقْتَكَ في إصلاحِ الأعراضِ . أَصْلِح الجوهرَ . اعْرِف العقلَ المفكِّرَ في كُلِّ قضيةٍ، ودَعْكَ مِنَ الأدوات .