23‏/04‏/2019

قانون الذاكرة وذاكرة القانون

قانون الذاكرة وذاكرة القانون

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

صحيفة قاب قوسين الإلكترونية 23/4/2019

..........................


1
     عندما يجد الإنسانُ الأبعادَ الرمزية لهويته اللغوية ، سيرى الأشياء بعيون جديدة ، ويُعيد ابتكار المعاني المُدهِشة، لأن الاعتيادية قاتلة ، وتُؤدِّي إلى موت الذكريات ، وتَبَلُّد الأحاسيس ، وانتحار الشَّغف ، وفُقدان الدهشة . والتَّعَوُّد على رؤية الأشياء يمنع الإنسانَ مِن الوصول إلى حقيقتها ، لأن حقيقة الأشياء تُرى بالقلب ( البصيرة )، أمَّا ظاهر الأشياء فيُرى بالعَين ( البصر ) . والتَّعَوُّد حاجز بين قُوَّة البصيرة وجوهر الأشياء .
2
     الحزن اختبارُ الذكريات البعيدة ، وامتحان الحاضر القاسي ، وفحص المستقبل المجهول . وعندما يَحزن الإنسانُ ، فإنه يُعيد اختراع جغرافيا حياته السِّرية ، ويبتكر زمنًا جديدًا لأحلامه السحيقة ، ويُكوِّن طُقوسًا خاصة لآماله المحصورة بين أبجدية الألم وقَسوة الذاكرة . ولن تتحرَّر المنظومةُ الفلسفية المحيطة بالحُزن مِن ضغط الزمان وسَطوة المكان ، إلا بانقلاب الذاكرة على الذكريات ، وتحرُّر الذكريات مِن عناصر الاستبداد الزَّمكاني ( الزماني _ المكاني ) . وانقلابُ الذاكرة وتحرُّر الذكريات وَجهان لعملة واحدة اسمها البصيرة .
3
     ثروةُ الإنسان الحقيقية تتجلى في قُدرته على التَّخلي ، وليس الامتلاك . وثَورةُ الإنسان الحقيقية تتجلى في قُدرته على التنظيم ، وليس الفوضى . والثَّروةُ والثَّورةُ فكرتان مركزيتان ، تَعْقِدان مصالحةً بين الإنسان وإنسانيته ، وتُعيدان السلامَ الداخلي للكيان الإنساني القائم على العناصر الروحية والمادية . والإنسانُ كيان واحد ، له جوانب مُتعدِّدة ، تمامًا كالمِرْآة الواحدة التي تعكس أطيافًا كثيرةً وظِلالًا مُتعدِّدة . وكُل نهر مهما تعدَّدت روافده له منبع واحد ، وكُل شجرة مهما تعدَّدت أغصانها لها جَذر واحد. والإنسانُ يملك شرايين دموية كثيرة ، لكن الأصل واحد ، وهو القلب الذي يضخُّ الدم في الجسم . والمنظومةُ المعرفية التي تتكوَّن مِن واحدية المصدر وتعدُّد الفروع ، تجعل الفصل بين المظهر والجوهر مُستحيلًا ، فلكل جوهر مظهرٌ يدل عليه . وكُل مضمون له شكل يُشير إليه .
4
     سوفَ تُولَد لغةٌ معرفية جديدة، وتنبعث أبجديةٌ فكرية وهَّاجة ، عندما نكتشف العلاقة الرمزية بين الرسالة وطابع البريد . وهذا التلازم بين الشكل والمضمون قائم على عنصر المفاجأة ، وجاذبية الغموض ، وحُب الفضول. وطابع البريد يظل مُلتصقًا بالرسالة حتى وصولها إلى غايتها ، ولا يتخلى عنها في منتصف الطريق، ولا يتركها تحت أيَّة ظرف . وهذا الالتصاق الاضطراري يدل على أهمية المسار للوصول إلى الهدف ، وأهمية الطريق للوصول إلى الغاية . وكل بداية لا تقوم على أساس سليم ، لن تُوصل إلى نهاية سعيدة .
5
     القانون في المجتمعات الوهمية هو لُعبة الأقوياء ، يُفصِّلونه على مقاسهم ، ويَضعونه للسيطرة على الضعفاء وابتزازهم واستغلالهم . وشيئًا فشيئًا ، يُصبح القانون أغنيةً وطنيةً لتخدير الناس ، وشعارًا برَّاقًا يدل على الديمقراطية ودولة القانون وحقوق الإنسان واحترام المواطن . وهذه المعاني مُجرَّد حِبر على ورق ، ومواد قانونية في دُستور مهجور لا أحد يقرؤه ، لأن الشعب يلهث وراء رغيف الخبز ، ومُتطلبات الحياة اليومية الضاغطة . لذلك ، يقوم المواطن العادي بتسليم عقله ومصيره للسياسيين كي يرتاح من عِبء التفكير وثِقل السياسة ، ويتفرَّغ لتحصيل قُوت يَومه.