24‏/08‏/2019

علاقة الزمن الفلسفي باللغة

علاقة الزمن الفلسفي باللغة

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

صحيفة المثقف ، سيدني_ أستراليا ، 24/8/2019

............

     كُل فلسفة لا تتكرَّس في قلب اللغة رُوحًا ومادةً ، ستقع في الفراغ ، وتُؤسِّس للعدم . ولا يُمكن للأنساق الفلسفية أن تعيش وتنمو وتتكاثر ، إلا إذا ارتمت في أحضان اللغة بشكل إرادي لا قَسْري . واللغةُ الحاملةُ للفلسفة هي وسيلةٌ للتخاطب ، ونظامٌ للرموز ، وعَالَمٌ مِن الإشارات ، ومكانٌ لتوليد الأحلام ، وزمانٌ تَوحيدي للمراحل ، أي إن اللغة تُوحِّد الماضي والحاضر والمستقبل في زمن فلسفي واحد ، يمتد في أعماق الإنسان وتفاصيل المجتمع وجزيئات الأحلام .
2
     لا مكان في الزمن الفلسفي لعملية حَرق المراحل ، لأن المراحل وُجِدَت لتبقى علاماتٍ في الطريق ، ومعالم في مسيرة الإنسان . وما يحدُث هو ظُهور قفزات ذهنية عابرة للمراحل ، وهذه القفزات الذهنية تكون على شكل طفرات اجتماعية ( تغييرات في تسلسل أنماط الوجود الاجتماعي ، تُؤدِّي إلى تكوين أنماط جديدة تمتاز بالقُدرة على بعث الدهشة والانبهار ) . وهذه التغييرات مُفاجئة وصادمة وغير مُتوقعة ، لأنها تقوم على الإبداع وصناعة الفِعل، وليس الاتِّباع وانتظار رَد الفِعل . والمراحلُ لا تُعيق انطلاقَ الفكر ، وإنما تُنظِّم حركته ، وتضبط تحرُّكاته، تمامًا كإشارات المرور التي تُنظِّم حركة السيارات، وتمنع تصادمها. والسياراتُ تتحرَّك وتمضي إلى وُجهتها ، في حين أن إشارات المرور تظل ثابتة في مكانها . ومَن يُطالب بحرق المراحل لضمان تدفُّق الأفكار وانطلاقها نحو المستقبل ، كَمَن يُطالب بحرق إشارات المرور للسماح بانطلاق السيارات إلى هدفها .
3
     الواقعُ انعكاس لمحتويات الذهن . والتغييرُ الاجتماعي على الأرض إنما يبدأ بفكرة ذهنية . والسفينةُ تُصنَع على اليابسة، ثُمَّ يتم إنزالها إلى البحر . وهذا يدل على الارتباط الوثيق بين فلسفة التغيير الواقعية ولغة الذهن المُجرَّدة . وإذا استطاعت الفلسفةُ أن تندمج في اللغة ، وتُحوِّلها إلى بَوتقة لصهر الأحلام الإنسانية ، وتحويل الأفكار المُجرَّدة إلى واقع محسوس ، ستصبح _ أي الفلسفة _ هي التعبير الدقيق عن فاعلية الفرد ( قُدرته على إحداث تأثير إيجابي ) ودَافعيةِ المعنى الاجتماعي ( حالة المجتمع التي تُسهِّل استجابته للتأثير الإيجابي وُصولًا إلى التَّوازن بين الفكر والغريزة ) .
4
     إن بناء الزمن الفلسفي على لغة الذهن ، يستلزم التفريق بين البُنية القَصْدِيَّة في الفلسفة ( قَصْدِيَّة الفلسفة ) والبُنيةِ الحَدْسِيَّة في اللغة ( حَدْسِيَّة اللغة ) . وهذا التفريقُ ضروري لتحديد أسبقية العوامل الفكرية ، وترتيبها بشكل منطقي وفعَّال ، وتعيين الفِعل ورَد الفِعل دُون الخلط بينهما . وقصديةُ الفلسفة هي التَّوَجُّه المركزي في أنساق الشعور الفكري نَحْو معرفة خصائص الأشياء، وطبيعة العناصر ، وظواهر المجتمع ، وتحليل جُزيئاتها بشكل منطقي مُتسلسل ، للوصول إلى نقاط القوة ونقاط الضعف ، والربط بين العِلَّة ( السبب ) والمَعلول ( النتيجة ) . أمَّا حَدْسِيَّةُ اللغة فهي انبعاث الشُّعور في الداخل الإنساني دُون القُدرة على تفسيره . وهذا الانبعاثُ يكون مُفاجئًا ، لأنه يَظهر دُون ترتيب مُسبق ، ولا تخطيط منطقي . ورغم هذا ، فإن الشعور الإنساني غير المُفسَّر هو نوع المعرفة ، وله منطق خاص به . ووظيفةُ الفلسفة أن تكشف عن هذا المنطق الخاص .
5
     الإنسانُ يَستمتع بزقزقة العصافير ، ويَشعر بها ، وتُسيطر على حواسِّه وأحاسيسه ، ومع هذا فهو عاجز عن تفسير هذه الزقزقة ، ولا يَعرِف معناها . ويَطرَب لصوت المطر أو هدير أمواج البحر ، ويتفاعل مع تفاصيل الصَّوت بكل مشاعره . ورغم هذا ، لا يَقْدِر أن يُفسِّره ويَفهمه . ورُبَّما يبكي الإنسانُ من الفرح ، أو يَضحك مِن الألم ( شَر البَلِيَّة ما يُضحِك ) . وهذا الأمرُ له منطق خاص في حالات مُحدَّدة ، ولا يُمكن تعميمه ، ولا أخذه على إطلاقه . وقانونُ المنطق العام يَرفض العلاقةَ بين البكاء والفرح ، أو الضحك والألم . وفي العقل الجمعي ، يرتبط البكاءُ بالألم ، والضحك بالفرح . وهذا يُثبِت أن للمنطق مَفْهُومَيْن: خاص ( نِسبي ) وعام     ( مُطْلَق ) . وإذا استطاعت الفلسفةُ دراسةَ الأشكال الاجتماعية المُنبثقة عن هذين المَفْهُومَيْن ، سيتجذَّر المعنى الفلسفي في المجتمع كلُغة رمزية قائمة بذاتها ، وقادرة على كشف الأنساق الفكرية المُستترة في مشاعر الفرد ، وأحاسيس الجماعة ، وعواطف المجتمع . وعندئذ ، تُصبح فلسفةُ اللغة الكاشفة للأنساق الاجتماعية ، هي لغة الفلسفة التي تُعيد تعريفَ الفردِ والجماعةِ والمجتمعِ ، اعتمادًا على الجوهر لا الشكل .