24‏/10‏/2019

نساء في الجِنازة العسكرية / قصيدة

نساء في الجِنازة العسكرية / قصيدة

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد

..............

     سَيِّدَتي / لا تَنتظِرِيني في أُغْنِيَاتِ النَّصْرِ / أنا مَهزومٌ كالشَّايِ الأخضرِ في بَنْكِرْيَاسِ الثلجِ / والأمواجُ تُعَبِّئُ رَمَادَ الْجُثَثِ في قَارورةِ الحِبْرِ الأخيرةِ/ لَسْتُ فَارِسَ أحْلامِكِ/ أنا جُثةٌ مَنْسِيَّةٌ عَلى رَصيفِ المِيناءِ / لَكِنَّهَا مُتَحَرِّرَةٌ مِنْ جَاذبيةِ الْحُزْنِ في عَيْنَيْكِ / فَلا تَثِقِي بالسَّرابِ القتيلِ / ولا تَثِقِي بالقَتيلِ الجميلِ / لا تَنتظِرِيني في حَديقةِ الشِّتاءِ / سَتَنْقُلُ القِطَاراتُ الكَهْرَبائِيَّةُ نُعُوشَنا الْمُزَرْكَشَةَ / وتَنْقُلُ البَنادقُ الآلِيَّةُ بَرِيدَنا الإلكترونِيَّ /
     يَحْمِلُ الليلُ جُثمانَ أُمِّهِ عَلى ظَهْرِهِ / وَأَحْمِلُ جُثمانَ أبي عَلى ظَهْري / كُلُّنَا قَتْلَى في الأمطارِ الأُرْجُوَانِيَّةِ / وقُلوبُ النِّساءِ المكسورةُ تُولَدُ في الثأرِ / وَالقَبَائِلُ تُقَاتِلُ أعمدةَ الكَهْرباءِ وطَواحينَ الهواءِ / أَمُوتُ في رُموشِ العاصفةِ / وأَظَلُّ حَيَّاً في قَلْبِ المساءِ / سَأظلُّ حَيَّاً في قَلْبِ امرأةٍ مَا/ وَذَلِكَ قَلْبي أرشيفٌ لِضَحِكَاتِ الموتى في الْمَمَرِّ البَاردِ / وَحِينَ يَرْحَلُ الشِّتاءُ الشَّمْعِيُّ / يَرْحَلُ القَتْلَى إِلى خُيوطِ ثِيَابي / يَا جَسَدَ الأحزانِ الْمَزْرُوعَ بِكَامِيرَاتِ الْمُرَاقَبَةِ / لا يَزَالُ الوَشْمُ القَديمُ عَلى ذِرَاعِ المطَرِ / تَعَالَ أيُّها الطوفانُ / أنا أَحْتَرِقُ وَحيداً في المساءِ المكسورِ / أيُّها الليلُ الطويلُ / اكْرَهْنِي لِتَعْشَقَ الْحُبُوبَ الْمُنَوِّمَةَ / نَمْ في سَريري / وَاحْرُسْ أحلامَ الطفولةِ الضَّائعةَ / وامْلأْ فَرَاغِي العَاطِفِيَّ بِدُسْتُورِ العِشْقِ الذي كَتَبَهُ البَدْوُ الرُّحَّلُ / آثارُ الرَّصَاصِ عَلى حِيطَانِ غُرفةِ النَّوْمِ / لَكِنَّ الأرَقَ هُوَ الرَّصاصةُ الأخيرةُ في جَسَدِ البُحَيرةِ / سَآكُلُ جُثمانَ الزَّوبعةِ / وَأَحْرُسُ مُدُنَ الكُوليرا / أرْكُضُ في شَوارعِ الطاعونِ كالذبابةِ المذعورةِ / وأخافُ أن أَعُودَ إلى بَيْتي / فَأَرَى ضَريحي مَصْلُوباً عَلى سَاعةِ الحائطِ / أَزُورُ حُطَامَ قَلْبي في نِهَايةِ الصَّيفِ / وأَزُورُ حُطَامَ السُّفُنِ في نِهَايةِ الشِّتاءِ / أنا التَّوَازُنُ بَيْنَ النِّهاياتِ / أنا مُعَادَلَةُ الرِّياضياتِ الضَّائعةُ بَيْنَ الذِّكرياتِ والأمطارِ / وأنا الْحَدُّ الفاصلُ بَيْنَ الرُّومانسِيَّةِ والكِفَاحِ الْمُسَلَّحِ /
     أيَّتُها البُحَيرةُ التي تُمْسِكُ كَأْسَ السُّمِّ بِيَدٍ لا تَرتعِشُ / يَكْتَشِفُ الموْتُ حَيَاتي في أضواءَ السَّياراتِ / فَلا تَحْزَنْ عَلَيَّ أيُّها البَحْرُ الأعرجُ / سَأَكُونُ مُوَاطِنَاً صَالِحَاً عِندَما يُصْبِحُ مِكْيَاجُ الأميراتِ السَّبايا أقلَّ خُشونةً مِن حَبْلِ مِشْنَقتي / سَأَتَحَرَّرُ مِن عُقَدي عِندَما تُصْبِحُ خارطةُ الزَّوجاتِ الخائناتِ أقلَّ تَعقيداً مِن مُعَادَلاتِ الرِّياضياتِ / أيَّتُها السَّنابلُ التي تَلْمَعُ في ضَوْءِ القَمَرِ / فُكِّي قُيودي لأُمَجِّدَ الموْتَ قَبْلَ الموْتِ / أركضُ في جَبينِ الليلِ كَي أَهْرُبَ مِن وَجْهي في الخريفِ الدَّامي/ والذبابةُ العَمْيَاءُ تَتَوَكَّأُ عَلى بُنْدُقِيَّتي /
     البُيُوتُ مَهْجُورةٌ/ والقُلوبُ مَهجورةٌ/ وَالجماجمُ في صُحُونِ المطْبَخِ/ والتَّوابيتُ عَلى الرَّصيفِ مُرَتَّبَةٌ كَصَناديقِ الْخُضَارِ / والبَاعَةُ الْمُتَجَوِّلُونَ يَبيعُونَ الأكفانَ عَلى إشاراتِ الْمُرُورِ / لا تَقْلَقْ أيُّها البَحَّارُ الغريقُ/ تَصِيرُ أكوامُ الْجُثَثِ مَنَارَةً للسُّفُنِ الْمُحَطَّمَةِ / تَصيرُ أعلامُ القَراصنةِ دُستوراً للوَحْدةِ الوَطنيةِ / يُرْشِدُ النَّوارسَ إلى بُكَاءِ أُمِّكَ في مَأْتَمِ الأقمارِ / يُصْبِحُ صَنَوْبَرُ الْمَدَافِنِ بُوصَلَةً تَحْرُسُكَ مِن دُوَارِ البَحْرِ / سَتَكْسِرُ الدَّلافِينُ قَلْبَكَ كَقَارُورةِ الحِبْرِ / فَاحْرِقْ ظِلالَكَ بأحلامِ الطفولةِ / لِتُطَهِّرَ جَسَدَكَ مِنَ الثلجِ الفُسْفُورِيِّ / كُنْ أنيقاً أيُّها المذبوحُ العاطفِيُّ / وَاخْتَرْ لَوْنَ رَبطةِ عُنُقِكَ حَسَبَ لَوْنِ ضَريحِكَ / سَقَطَ مِكْيَاجُ النِّساءِ في أنابيبِ الصَّرْفِ الصِّحِّيِّ / وأكَلَ الدُّودُ أجْسَادَهُنَّ النَّاعِمَةَ /
     أخافُ أن أنامَ/ كُلَّمَا نِمْتُ رَأَيْتُكِ مَقتولةً في الْمَنَامِ/ تَمُوتُ العَناصرُ حَوْلَ أشلائي / وَلَم أجِدْ يَمَامَةً أبكي عَلى صَدْرِهَا / السَّبايا في العَرَبَاتِ الخشَبِيَّةِ / التي تَجُرُّهَا السَّنَاجِبُ النَّحيلةُ / أحلامي قُصُورٌ رَمْلِيَّةٌ / يَغْتَصِبُهَا الموْجُ الغريبُ / وَيَسْتَمْتِعُ بِها الأغرابُ / وَيَقْتُلُونَ اللمَعَانَ في رِمَالِ قَلْبي / كُلُّ دَمْعَةٍ شَاطِئٌ / وَكُلُّ غُرْبَةٍ وَصِيَّةٌ للغريقِ / الطيورُ تَحُومُ حَوْلَ جُثتي / وأنا المسافِرُ بَيْنَ عِظَامِ الغَرْقَى وحُطَامِ السُّفُنِ / أنا غُرْبَةُ السَّنابلِ بَيْنَ الْمُسَدَّسَاتِ والأُغْنِيَاتِ الوَطنيةِ / طُفُولَتِي بَرِيئَةٌ كالبَنادقِ الآلِيَّةِ / والرَّاهبةُ العَمْياءُ تَعيشُ بَيْنَ قَلْبِهَا المهجورِ والدَّيْرِ المهجورِ /
     دُمُوعُ أُمِّي تَمْنَعُنِي مِن اقتحامِ جَسَدِ البَحْرِ / وَدَمْعُ الرِّياحِ عَلى قَميصي/ وَقَمِيصي لَيْسَ قَمِيصَ عُثْمَان / رَأَيْتُكِ يَا زَنابِقَ الضَّحِكِ في أغاني القَتْلَى / رَأَيْتُ نُبَاحَ الدِّمَاءِ اللزِجَةِ في هِجْرَةِ الفُقَرَاءِ / مِن ذَاكرةِ القَمْحِ إلى قَانونِ الطوارئِ / أَخْرُجُ مِنْ لَحْمِي / وَأَدْخُلُ في لَحْمِ الأنهارِ/ سُعَالي غَابةٌ مِنَ الليْمُونِ الْمُعَدَّلِ وِرَاثِيَّاً/ وَكَانَ مِيلادُ الرِّيَاحِ سِفْرَ الْخُرُوجِ مِن أظافري/ رُفاتي مَنثورٌ عَلى الحواجزِ العَسكرِيَّةِ / وَأُمِّي تَنتظِرُ استلامَ جُثماني / خَرَجَت البَدَوِيَّاتُ وَالغَجَرِيَّاتُ مِن شَوَارِعِ قُرْطُبَة / وَدَخَلْنَ في مِلْحِ دُمُوعي النُّحَاسِيَّةِ / وَكَانَ الشِّتَاءُ سَحَابَةَ صَيْفٍ / لَكِنَّ المطَرَ لَم يَأْتِ /
     في دَمِي تَصُبُّ أنابيبُ الصَّرْفِ الصِّحِّيِّ / تَرْقُصُ الجواري في دِمَاءِ الحيْضِ / كالرِّماحِ المكسورةِ تَحْتَ رَاياتِ القَبائلِ اللقِيطَةِ / والوَطَنُ ضَائعٌ بَيْنَ أشجارِ الْحُزْنِ وصَفَّاراتِ الإِنذارِ / أصواتُ الرَّصاصِ سَكَنَتْ في الْمَزْهَرِيَّاتِ / وَدُمُوعُ الرَّاهباتِ في قَاعِ الذِّكرياتِ تُفَجِّرُ جَسَدَ الأمواجِ / وَكُلُّ امرأةٍ يَغْتَصِبُهَا زَوْجُهَا / سَيُصْبِحُ صُرَاخُهَا غَابَةً مَعْدَنِيَّةً في أرشيفِ السَّنابلِ الْمُضِيئةِ / كُنَّا في العِشْقِ كالبَدْوِ الرُّحَّلِ / لا رَاياتُ القَبائلِ أمَامَنَا في طَريقِ البَحْرِ / ولا دُستورُ الأغنامِ وَرَاءَنا في حُطَامِ السُّفُنِ .