23‏/10‏/2019

الحتمية الاجتماعية والاحتمالية الثقافية

الحتمية الاجتماعية والاحتمالية الثقافية

صحيفة المثقف ، سيدني ، أستراليا ، 23/10/2019

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

..............

     إن بُنية الذات الإنسانية لا يمكن أن تتحدَّد معالمها إلا مِن خلال منظومة اجتماعية حيوية وفعَّالة، لأن الإنسانَ جُزءٌ مِن الكُل الاجتماعي ، وانعكاسٌ عن مِرآة العقل الجمعي . والغُصن لا يَقْدِر على إنكار الشجرة التي جاء منها ، مهما كان صَلبًا وقاسيًا ، والسمكةُ لا تستطيع العَيش خارج الماء ، مهما كانت قوية ومتمردة . وهذا يعني أن أهمية الجُزء مُستمدة مِن قيمة الكُل . وكُل السلوكيات الاجتماعية الفردية نابعة مِن إفرازات المنهج الاجتماعي العام ، الذي يقوم على تكريس النماذج التقليدية كمُسلَّمات ونظريات ثابتة . والمسؤوليةُ المعرفية للفرد تُحتِّم عليه أن يَطرح الأسئلةَ على الأنساق الاجتماعية ، ويبحث عن إجابات شافية نابعة من قوة المنطق ، وغَير مَفروضة بقُوَّة الأمر الواقع. وكثيرٌ مِن الأفكار الاجتماعية تكرَّست بفِعل التراكمات الزمنية ( القوة الخارجية المفروضة بحُكم العادات والتقاليد ) ، وليس بفِعل القوة الذاتية والتماسك الداخلي . وهذا الأمرُ يَجعل الفردَ مُجرَّد رَد فِعل، يتلقَّى الأوامرَ ، ويستقبل التعليمات ، ويُشاهد الأحداث ، دُون أي دور في صناعتها وتوجيهها . وهذه الإشكاليةُ الكُبرى تُهدِّد ماهيةَ الفرد كقيمة معرفية وكيان فكري وبُنية ثقافية ومنظومة شُعورية ، وتُحاصر هويةَ الفرد ضمن إطار من العُزلة الخانقة ، التي تتماهى مع الاضمحلال التدريجي . وإذا أرادَ الفردُ كَسْرَ الحصار المفروض عليه ، فلا بُد أن يَجعل سُلوكَه الاجتماعي رمزًا للانفتاح على المعنى الإنساني الراقي ، ويُحوِّل القيمَ الذهنية التجريدية إلى مُعطيات واقعية ، تُعيد إنتاجَ الواقع ، وصناعته من جديد ، بشكل يتوافق مع الحُلم الإنساني في الحرية والتحرر بعيدًا عن العبث والفوضى .

2

     لا يُمكن للفرد أن يشعر بجدوى الحياة ، إلا إذا نجح في تحويل الحُلم الإنساني إلى ظاهرة اجتماعية . وبعبارة أخرى ، تحويل القيم الذهنية الهُلامية إلى منظومة اجتماعية ثقافية . ولا بُد في هذا السياق من ربط الحتمية الاجتماعية بالاحتمالية الثقافية ، والتفريق بينهما في الخصائص والماهيات والتطبيقات . إذ إن القيم الاجتماعية ذات طبيعة إنسانية ، والإنسان هو الإنسان في أي مكان في العالَم ، مهما كان دِينه أو جِنسه أو عِرقه أو لَونه ، وهذا يَجعل الحالةَ الاجتماعية ذات صِفة حتمية ، وتتمتَّع بمسار أُحادي ، في حِين أن القيم الثقافية مُتنوعة ومُختلفة تَبَعًا لاختلاف الزمان والمكان وطبيعة الأمم والشعوب، وهذا يَجعل الحالةَ الثقافية ذات مَنحى احتمالي مُتشعِّب ومُتعدِّد المسارات . وهذا الفرقُ الجوهري يُحدِّد طبيعةَ المساراتِ الإنسانية التي يسير فيها الفِكرُ. وإذا عُرِفَت قيمةُ العُنصر الاجتماعي ، عُرِفَ مَوقعه ودَوره في المنظومة الثقافية . ولا شَك أن القطعة إذا عُرِفَت قيمتها ، عُرِفَ موقعها ودَورها في الآلة .

3

     كُل عُنصر في البُنية الاجتماعية الثقافية له وظيفة حياتية ودَور وجودي . وثنائيةُ ( الوظيفة / الدَّور ) تختلف باختلاف المكان ، والمكانُ هو الذي يُحدِّد المكانةَ . والشَّيء نفْسه قد تنتقل وظيفته من النقيض إلى النقيض ، تَبَعًا للموقع الذي يُوجد فيه . فمثلًا ، إن وظيفة المِسمار في خشب السفينة ، تختلف عن وظيفة المِسمار في خشب النَّعْش . إن ماهية المِسمار لم تتغيَّر ، لكن مَكانه تغيَّر. ووَفْق طبيعة المكان ، يتم تحديد طبيعة الوظيفةِ والدَّورِ والمكانةِ . وهذا المثال الذي يبدو بسيطًا ، يدل على أهمية المنظومة الكُلِّية الجامعة ، وسَطوتها على العناصر ، ويُشير إلى سيطرة الكُل على الجُزء. والوسيلةُ الوحيدة لمنع التعارض بين الكُل والجُزء ، هي تحديد مسارات التوازي والتقاطع في عَالَم الأفكار وتطبيقاتها ، لأن الأفكار صانعة الواقع . ومهما كانت الأفكار مُتحرِّرة ومُنطلقة ، فلا بُد أن تُصَبَّ في قوالب واقعية محدودة ، لأن الواقع نابع من بيئة الحياة الملموسة ، لذلك يتَّصف بأنه محدود ومحصور ، أمَّا الأفكار فنابعة من بيئة الخيال غير الملموسة ، لذلك تتَّصف بالتحرُّر والانطلاق . وكما أن السيطرة على سِكك الحديد ، تَمنع تصادم القطارات ، فكذلك السيطرة على مسارات المجتمع ، تَمنع تصادم الأفكار .