20‏/01‏/2020

رواية جبل النظيف / الفصل الثالث

رواية جبل النظيف / الفصل الثالث

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............

     في الصباح ، بدت الأشياء غريبةً . كُسر الروتين الحياتي . انتهى الملل . مذاقُ الضوضاء جديد هذه المرة . ما الذي حصل ؟. باعةُ الخضار في ساحة المسجد تركوا صناديق الخِيار والبندورة مصفوفةً كالتوابيت . والناسُ يتجمهرون كأنهم في عُرس أو في خيمة سيرك .
     كان هناك سيارة مرسيدس تشقُّ أجفانَ الأكسجين . تجمَّع الناسُ حولها كالجوعى الذي اكتشفوا كِسرةَ خبز . وراح الأطفالُ يهتفون ويُصفِّقون كأنهم في عُرس . وفي الواقع إن مرور سيارة مرسيدس في هذا المكان يُعتبر عُرساً يصعب تكراره .
     وَجد قَيْس زهدي صعوبةً بالغة في النزول من السيارة . ولولا مساعدة الناس لبقيَ سجيناً في سيارته الفارهة . أخذ الناسُ يُسلِّمون عليه ويُقبِّلونه بعنف . وهو يحاول جاهداً أن يمسح عن خدوده آثارَ القُبلات الممتلئة برائحة بقايا الطعام والتبغ الرخيص . وبدأ الأطفال يتسلقون إطاراتِ السيارة التي كانت في عيونهم لعبةٌ كبيرة بحاجة إلى تفكيك . وقد تسابق الحضور إلى حمل حقائبه إلى بيت والده الحاج زهدي المخلوسي .
     وقف محمود بائع الخضار على الرصيف مراقِباً هذا المشهد، ومبتسماً بسخرية ، وقال لأحد الواقفين بجانبه :
     _ سُبحان مُغيِّر الأحوال. هذا الأزعر قَيس قضى حياته مثل الكلب المسعور في شوارع جبل النظيف. صَدِّقْني لم يكن يملك مالاً لِيَحْلِق. والآن صار فوق الريح مثل أولاد الوزراء .
     _ يا محمود ، الدنيا حظوظ ، وكل شيء نصيب . أنا أعرف قيس منذ كان ولداً على أبواب مدارس البنات ، ويتعاطى حبوب هلوسة. لكنْ كل شيء تغيَّر بعد ذهابه إلى أمريكا . أكيد أخذ الجَملَ بما حَمَل .
     _ هذا الولدُ حظه يفلق الصخرَ. وسأقطع يَدِي إن لم يكن لصاً سَرَق الأمريكان وجاء يُمثِّل دورَ الشريف . الذي ما له حظ لا يتعب ولا يشقى . 
     وصل قيس إلى البيت . قرع الجرسَ بعنفٍ يدل على شدة حماسه ، وشوقه إلى لقاء أهله . ذهبت أُمُّه لكي تفتح البابَ منزعجةً من صوت الجرس . وكانت تصرخ في طريقها إلى الباب :
     _ يَخرب بيتك .. خَرَّبْتَ الجرسَ .. انتظر قليلاً .. لن تطير الدنيا ! .
     وعندما فَتحت البابَ ، ورأت ابنها الذي كان مسافراً وراء البِحار ، ذاب غضبُها في بحر المفاجأة ، ووقفت مكانها كالصنم لا تَعرف ماذا تفعل . وواصلت التحديقَ في عيون ابنها . وفي تلك اللحظة الخاطفة تحوَّلت حياتها إلى شريط سينمائي يتحرَّك في ذهنها المشوَّش الغارق في الصدمة. ارتمى ابنها في أحضانها ، وأخذ الاثنان يبكيان بحرقة كأنهما يستعيدان تاريخهما المشترك . وتجمَّع أهلُ الدار كالمجانين الذين أُفرج عنهم . وقد أفسد اللقاءَ طلبُ حاملي الحقائب للأجرة . وبعد أن أخذوها صاروا يَدْعون له بالتوفيق والرزق الواسع. ومضوا يتحسسون أموالهم ، وفي عيونهم يختلط الفرح بالألم .
     وفي المساء تجمَّعت العائلةُ على العَشاء . تكاثرت الصحونُ على المائدة ، وعَلَت أصواتُ الملاعق ، وارتفعت الضحكاتُ في الهواء . انطلقت الضحكاتُ من قيعان قلوبهم ، كأنهم لم يَضحكوا منذ قرون .
     قال الحاج زهدي :
     _ اسمعْ يا قيس. يكفينا غُربة. من الآن فصاعداً أريدك أن تنسى أمريكا. سوف
تجلس في بلدك مع أهلك، ونجد لك ابنة حلال تتزوَّجها، وترتاح من السَّفر ، وتفتح مشروعاً على قَدْر فُلوسك . وكان اللهُ بالسر عليماً .
     هزَّت والدته رأسَها مؤيِّدة لكلام زوجها على غير عادتها ، وقالت :
     _ كلام أبيك صحيح يا قيس . الذين في مثل عمرك صار لديهم أولاد وبنات. ما فائدة المال إذا عمرك راح بدون زوجة وذرية ؟! .
     قال قيس ساخراً :
     _ صحيحٌ أنا قيس ، ولكنْ يا حسرة ، لا توجد ليلى ! .
     قالت أمُّه وقد سيطرت عليها الحماسة :
     _ فَشرت عين ليلى . اتركْ ليلى .. ابنة عمِّك هند مَلِكة جَمال ، ومؤدبة ، والقط يأكل عشاءها . والبنتُ منَّا وفِينا ، نَعرف أصلَها وفصلَها . وابنُ العَم يُنزل ابنةَ عمِّه عن ظَهر الفَرس .
     _ هند ؟! . هذه طفلة تلعب في الشَّارع . ولا أريد أن أُنزل أحداً عن ظَهر الفَرس ولا ظَهر الجَمل .
     _ هند التي لا تعجبك صارت أطول منك ! . كانت طفلة أيام زمان ، والآن امرأة كاملة ، الله يَحرسها . واشكر ربَّكَ إذا وافقتْ عليك . معذور يا مسكين ، ضائع في بلاد الغُربة ولا تدري عن العالَم .
     وأردفت قائلةً :
     _ اسمعْ يا وَلد ، إيَّاك أن تكون قد وَضعتَ عَينك على امرأة أمريكية ، وضَحكت عليك صاحبات الشَّعر الأشقر والعيون الزرقاء.صَدِّقْني لولا وفاة جَدَّتك سارة لزوَّجناك الآن .
     نظر قيس حَوْله كالمصروع ، وقال بأعلى صوته :
     _ جَدَّتي سارة ماتت ؟! .
     نظر أبوه إلى أُمِّه مندهشاً ، ثم حدَّق في وجه ابنه قائلاً :
     _ ألا تعرف أنها ماتت ؟! .
     _ لم يخبرني أحد .
     _ ظننَّا أنك جئتَ من أمريكا بسبب وفاتها .
     وساد صمتٌ رهيب في أرجاء المكان  .  لم  يعودوا  يَعرفون  وجوهَهم . هذه الأجسادُ التي تحملهم الآن ، هي ذاتها التي وُلدوا بها أم أنها معدَّلة وراثياً لتصبح ظلالاً للذعر . ارتبكتْ أجفانهم . شَعروا أن أحزانَهم الدفينة لن ترحمهم . رَكبوا في أدغال الدهشة . لقاءٌ هو أم فِراقٌ ؟. فقدوا القدرةَ على الكلامِ. تمكَّن الصَّمتُ منهم . أنهارٌ مُهاجِرة سَكنت في غُربة اليمامِ المقتول. دقائق مَرَّت أم قرونٌ من الحرقة واللهيب؟. لم تدمع عيونهم عندئذٍ. سافرت الدموعُ . خشبُ الأثاتِ ألغى ألوانَهم .
     صار الحلمُ بجعةً ذبيحة بين أعضائها آلاف السدود . شعرَ قيس أن جمجمته ستقع على الأرض ، فوضع يديه الاثنتين عليها . أراد تثبيتها أو الإمساك بها قبل الوقوع . تصاعدت الأوهامُ من كل مكان . كان يرى أخْيلةً تُحيطُ به ، أخيلة مسمومة تنهشه من كل جانب ، شعر بأسهم منطلقة نحوه تسعى إلى اصطياده، وهو يغرقُ ويغرقُ . الصراخ يعلو في ذهنه، والوساوس تخبطه وتحاصره ، وكلما حاول الخلاص منها تشبَّثت به أكثر وأكثر . صار يفكر هل عيناه تدوران كالرحى في المدارات المسدودة مع عقارب الساعة أو ضدها . صار مقتنعاً أكثر من أي وقتٍ سابقٍ أنه راكضٌ في الدمار الخالصِ ، وأن الدمار تَوَّجه مَلِكاً على الركام .
     أحزانه حقول زرنيخ عابسة تَقْطر دُخاناً مجنوناً . عضلاتُ وجهه انفتاح فَكَّي كمَّاشة صدئة لا تغتسل إلا في مستنقع الدمع . مشاعره استسلامُ أغصان أمام الإعصار النحاسي . اغرورقت عيناه بالدمع المالح . وفي تلك اللحظات الغريبة صار كالطفل المذعور. جِلْدُه براري متعفِّنة ينبعث الدودُ من زواياها ، ونكهةُ الماضي في شَعره المتجعِّد حكايةٌ انتهت قبل أن تبدأ . أراه يصطبغ بعقارب ساعة تحيط بمعصم فراشةٍ مقطوع جرَّاء زلزال قديم مَرَّ مِن هنا ، أي من هناك . هكذا تَفْقد الجهاتُ معناها ، وتصبح إبرةُ بوصلةِ الذكرياتِ تفاحةً مأكولة .