23‏/01‏/2020

رواية جبل النظيف / الفصل الرابع

رواية جبل النظيف / الفصل الرابع

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............

     كان فايز عمران ( خمراوي ) جالساً أمام قبر جَدَّته، يحدِّق في أبعاد شاهد القبر، يقيس زواياه بالفراشاتِ الذبيحة . صارت هذه البُقعة هي تاريخه الشخصي . ومنذ وفاة جَدَّته لم يشرب أية قطرة من الخمر. لقد عَيَّن نَفْسَه حارساً لقبرها. وقد صارت لديه عادات غريبة . فمثلاً عندما يأتي إلى المقبرة يدق على سورها المتهالك كأنه يستأذن قبل الدخول. وإذا جاء صباحاً فإنه يقف على السُّور ، ويؤدي التحيةَ العسكرية للشمس ، وإذا جاء مساءً يؤدِّيها للقمر. وعندما يدخل في عوالم المقبرة يبكي عند الأعشاب الطالعة بين القبور .
     ولم تكن حياةُ فايز في المقبرة وعاداته الغريبة تجذب انتباه الناس لأنهم تعوَّدوا على غرابة أطواره ، فلم تعد غريبة بالنسبة إليهم . وهم _ أصلاً _ يَعتبرون " فايز" خارجاً على كل القوانين . لذلك أسقطوه من حساباتهم ، حتى عائلته التي حاولت إصلاحه بكل الطرق قد غَسلت يدها منها ، لأنها قَرفت من تصرفاته . وبسبب ذلك تُرك هائماً على وجهه يَفعل ما يَريد ، وصار متمتعاً بحُكم ذاتي . فالناسُ ملُّوا منه ، وتعبوا من حكاياته التي لا تنتهي .
     لكنَّ شخصاً واحداً كان مهتماً بفايز . إنه حارس المقبرة . هذا العجوزُ الذي رماه أبناؤه في بيت المسنِّين ثم هرب منه . ومنذ ذلك الحين صارت المقبرةُ بيتَه الأول والأخير. إنه يعيش في إحدى زوايا المقبرة في غرفة متهالكة . ويعيش على الصدقاتِ من أهالي الجبل .
     وبصراحة ، لا يوجد شيء ليحرسه . فهذا الصمتُ الموحش الذي يفرض سُلطته على هواء المكان يَحرس الجميعَ . والموتى على وِفاق تام مع بعضهم لا مشكلات بينهم ! . ولا داعي لحراسةِ الأموات من الأموات ! .
     أحضر حارسُ المقبرة إبريقَ الشاي ، وتقدَّم بخطوات متعَبة كخطوات ديناصور ذاهب إلى الانقراض . لم ينتبه فايز إلى وقع الخطوات الهامس لأنه كان غارقاً في تأملاته ، ويُغطِّي وجهَه بيدَيْه كأنه يستعيد تاريخَ الحضارات الغابرة من الألف إلى الياء .
     اقترب منه حارسُ المقبرة ، وقال بصوت خافت :
     _ فايز ، استيقظ يا فايز .
     شعر فايز للوهلة الأولى أن الصوت قادم من باطن الأرض، من جثث الأموات. إنه صوت ذابل مزدحم بالحزن والانكسار . صوتٌ مِثْلُ حصانٍ هزيل يجرُّ عربةَ نقل المحكومين بالإعدام .
     أخرج فايز وجهَه من غبار الذاكرة ، ونظر حَوْله ، فإذا حارس المقبرة واقفاً كبقايا شجرة ضَرَبَتْها صاعقةٌ مفاجئة. بدا فايز في تلك اللحظة كشبحٍ لا تاريخ له . وجد صعوبةً في التحكم بأعصابه ، لكنه تمالك نَفْسَه وابتسم . كانت ابتسامته تلك تُشبه ابتسامةً وَدَاعيةً لرَجل يحتضر .
     قال حارسُ المقبرة وقد تهللت أساريره :
     _ تعال اشرب شاياً .. أفضل من الويسكي ! .
     هزَّ فايز رأسَه موافقاً على هذا الكلام ، وراح الاثنان يشربان الشاي ، وحَوْلهما طيور الاحتضار المهاجرة من الذاكرة إلى الألم . انتشر السكوتُ بينهما ، فلم يجدا حروفاً تحمل خواطرَهما ، لذا صارت عيونهما أبجديةً جديدة ، ووسيلة للتخاطب .
     وفي زحمة الصمتِ ، قال فايز بشكل مباغِت :
     _ قررتُ أن أُنشئ مشروعاً خاصاً بي .
     فوجئ الحارسُ من هذا الكلام ، وقال ضاحكاً :
     _ هذا الكلامُ كبير عليك . انتظر حتى تتخرج من الجامعة ، وبعد ذلك تُحقِّق أحلامك .
     نظر فايز باتجاه إحدى زوايا المقبرة ، وأشار إليها بالسَّبابة ، وقال بنبرةٍ حاملة للتحدي والإصرار :
     _ في تلك الزاوية سوف أُؤسِّس مملكتي الخاصة . سوفَ أُولَد من جديد ، سألدُ نَفْسي بنفْسي . أنا رئيسُ مجلس قيادة ثورة المقبرة . أنا رئيسُ مجلس إدارة المقبرة . سوف تثورُ القبور ، ويَخرج الأمواتُ .
     ارتبك الحارس ، وأُصيب بالدهشة رغم معرفته المسبقة بغرابة أطوار فايز ، وقال بصوتٍ حاد :
     _ هل رجعتَ إلى شرب الخمر يا فايز ؟! . أنتَ مستيقظ أم سكران ؟! .
     _ هذه أكثر لحظات حياتي يقظةً وتركيزاً . لقد عَيَّنْتُ نَفْسي قبراً جَوَّالاً بين القبور ، مثلما عَيَّنْتَ نَفْسك حارساً للمقبرة دون وثائق . المقبرةُ تتمتع بحُكم ذاتي ، وهي المكان الوحيد في العالَم الذي لا يوجد فيه بيروقراطية .
     ولمعت عينا فايز بصورة غريبة كأنه يرقب قدومَ شيءٍ ما مِن أسمنتِ الحلم ، أو يُلبِّي نداءً قديماً تفجَّر في داخله ، وتشظى على حشائش الانطفاء . وقال بحماسة شرسة :
     _ لن أشرب الخمرَ بعد اليوم . حياتي الجديدة تحتاج تركيزاً هائلاً . سوف أَجمعُ العناصرَ الخارجة على قانون القبيلة، وأَصنع حياةَ البشرية من قلب الموت . سأُدخل المنبوذين في تاريخ الحضارة ، وأُحوِّل الأسمنتَ المفكَّك إلى مشاعر لا تتفكك . سَيَفْتخر جبلُ النظيف بابنه القاتلِ المقتول .
     ارتجف الحارسُ . وتفشَّت في جسده زلازل تُحطِّم نَفْسَها . وفي تلك اللحظة الرهيبة شعر الحارسُ بخوفٍ متأجج . كان يظن أنه يَعرف فايز وعاداته الغريبة ، ولا مكان لعنصر المفاجأة ، لكنه فوجئ بالفعل ، وأحس أنه أمام وحش قاتل يستدرج ضحاياه إلى النهاية الحتمية . وما زاد خوفَه هو ذلك الإصرار العجيب الذي كان يلتهب في عيون فايز .