13‏/02‏/2020

رواية جبل النظيف / الفصل الثاني عشر

رواية جبل النظيف / الفصل الثاني عشر

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

............

    الزِّينةُ منتشرة في كل مكان . والأضواءُ تُحيل جبلَ النظيف إلى سيرك كبير . يودُّ هذا الليلُ لو يَقفز من السفينة قبل غرقها . تصبح الضحكاتُ تاريخاً لقتل الضحكات . بَشَرٌ يُولَدون من ضفائر النساء المقموعات جنسياً . وأغنياتُ الصدى جرذان تكاد تموت جوعاً . يمشي الإنسانُ وأشلاؤه على خَطَّيْن متوازيَيْن . وفي الرياضيات لا فرصة لالتقاء الخطين المتوازيين . أمَّا في الواقع فسوف يَصْطدمان .
     تتوزع الطيورُ الذبيحة بين تراب المقبرة وحديدِ السجون .. السجون التي يُشيِّدها الناسُ في عِظامهم ضاحكين . إنهم يغنُّون .. يفتحون جراحَهم للفرح الذي يَغْسل أغصانَ خدودهم . هكذا تصبح الأعراسُ تاريخَ مَن لا تاريخ له ، وانتصارَ المهزومين الوحيد .
     تمشي القططُ المتعَبة على أسلاك الكهرباء . إنه الضياع الجنوني على نصالٍ تنفيكَ، تنفي عناصرَ جسدكَ المثقوب. وكلُّ ضائع يخترع جنونه ويمضي إلى حتفه الأكيد . مَن أنا ؟ ومَن أنتَ ؟، نحن العابرَيْن في الأزقة التي تَصْلبنا لأننا نحبها حتى البكاء. ولكنْ مَن سَيَبْكي علينا حين تنسانا صفحاتُ الوَفيات في الجرائد ؟ .
     سوف يمضي العشاقُ غير عابئين بدمنا المفروش على أعمدة الكهرباء . ويَبْحثُ الفقراءُ عن أسنانهم الصفراء في أكياسِ القُمامة .
     كلُّ هذه الهواجس المرَّة كانت تلتهب في صدر بسام الجالس في إحدى زوايا المقبرة . لقد هربَ من عُرس أُخته إلى عُرسه الخاص ، حيث يُقيم احتفالَه الخاص بالموتى. هربَ من عُرس الأحياء إلى عُرس الأموات. وحياتُه تنزلق شيئاً فشيئاً نحو الهاوية السحيقة . تقدَّم من أحد الحيطان، وأخرجَ أحدَ الأقلام الملوَّنة التي يَسْتعملها في حصة الرَّسم في المدرسة ، وكتبَ على الحائط المتداعي : (( إن ليلة الدخلة بالنسبة للرجال حين يَدْخلون على نسائهم لرؤية وجوه العرائس ، أمَّا بالنسبة إِلَيَّ فحين أُدخَل في مَوْتي لأرى وجهَ مَلَكِ الموت )) . ثم غرقَ في نوبة بكاء شرسة .
     استمر العُرسُ كالطوفان الماحي ، لا يعبأ كمشاعر الآخرين . فالنهرُ يَحفر مجراه بنفْسه ، ويَعْرف طريقَه بنفْسه ، ولا يهتم بأي شيء آخر. والناسُ يريدون أية فرصة للفرح ، حتى لو كان خادعاً كالسراب ، أو مؤقَّتاً كالنوم اللذيذ . إنهم يَقتنصون الورودَ من قلوب الأضرحة .
     امتلأت شوارعُ جبل النظيف بالناس . والمحال التجارية مفتوحة على مدار أربع وعشرين ساعة . وصوتُ الرصاص يملأ الأرجاءَ . فالكثيرون يَعتقدون أن إطلاق الرصاص في الأعراس جزءٌ أساسي من الاحتفال. وإذا ازداد إطلاقُ النار فهذا دليل على مكانة العائلة ، وأهمية العُرس .
     وعائلةُ المخلوسي لها وزنٌ كبير في جبل النظيف ، ولها اسمٌ لامع في المناطق المحيطة . وهي تَحْرص على صناعة هالة إعلامية لها بين باقي العائلات لتظل مرهوبة الجانب . والعائلاتُ الأخرى تَعْرف مكانة " آل المخلوسي "، وهذا يَجعلها حريصةً على مشاركتهم الأفراح والأحزان . فالكل يَبحث عن مصلحته . ومثل هذه المناسبات تكون وسيلة لعقد الصفقات ، وتقوية الروابط الاجتماعية، وبناء تحالفات عائلية لتوسيع مناطق السيطرة ، وتقاسمِ النفوذ .
     هكذا تصبح الحياةُ صفقةً كبيرة ، ومباراة خشنة فيها لاعبون أساسيون ولاعبو احتياط . والجميعُ يَطمح إلى تسجيل الأهداف ، وفرض كلمته على الخصم . وفي غالب الأحيان تكون الضحكاتُ ممارسةً روتينية، تتجلى على الشفاه ، ولا تصل إلى القلوب . هذا هو قانون اللعبة المتعارف عليه بين الناس ، ولا أحد يفكِّر في تغييره . فالناسُ أَسْرى ذواتهم ، ومشاعرهم ستظل سجينةً في حساباتهم .
     كلُّ تفاصيلِ العُرس سارت كما خُطِّط لها. ولكنْ حدثَ ما لم يكن بالحسبان . تقدَّم بسام بخطى مثقلة نحو أبيه المشغول باستقبال الضيوف . وظهرت على وجه الطفلُ علاماتُ الإرهاق الشديد ، وقال بصوت ذابل :
     _ لقد أُصبتُ برصاصة يا أبي .
     رَدَّ والدُه بكل برودة أعصاب :
     _ لا وقتَ للمزاح يا بسام .. اذهب والعب مع الأولاد .
     وارتمى الطفلُ على أقدام والده . لاحظَ الوالدُ آثارَ دماء على ملابس ابنه ، وركض إليه الناسُ الذين كانوا مشغولين بمتابعة الأعيرة النارية التي تَعْلو وتَهْبط . والحمدُ لله كان الجرحُ بسيطاً .. مجرد خدش طفيف ، ولا أثر لوجود رصاصة في الجسم .
     نادى أبو بسام على فايز ، وطلب منه أن يعتنيَ بابن عمِّه ، ويعالج جُرْحَه . وفايز لديه خبرة واسعة في معالجة الجروح ، فقد اشترك في مشاجراتٍ لا حصر لها . كما لديه خبرة واسعة في الأسلحة النارية والأسلحة البيضاء . (( فالولدُ شقي منذ طفولته . وعُمر الشقي بقي )) . هذا هو الشعارُ الذي ترفعه أمُّه منذ مدة طويلة .
     مزَّق فايز قميصَه ، وأخذ قطعةً منه ، ولفَّ بها جُرحَ بسام . حَمَله على يديه ، وسار به في ممالك اللهيب. وما زالت أصواتُ الرصاص تمزِّق رئةَ الصدى ، وتَحْرق الصوتَ . ولم يكن جرحُ بسام مبرِّراً كافياً لتوقف إطلاق الرصاص . فالأمورُ سائرة  كأن شيئاً لم يكن. فهذه المعركة مستمرة مهما كانت الخسائر ، والضحايا لا يمكنهم إيقاف الحروب .
     لكل بداية نهاية . كانت أُم بسام توصِي ابنتها هند بضرورة طاعة زوجها ، والحفاظ على بيتها الجديد. وفي زحمة الأفكار والوصايا ، أَخرجت أمُّ بسام من فتحة صدرها تلك الخلطة العجيبة التي أَحْضَرَتْها من عند العطار ، وقالت :
     _ اسمعي يا هند ، هذه الليلة ليلة العُمر ، كلُّ عمرك يتوقف عليها .. ليلةُ الدُّخلة أهم امتحان في العالَم .. أهم من التوجيهي والجامعة . وهذه الخلطة ضَعي منها لزوجك في طعام العَشاء لزيادة طاقته الجنسية .
     احمرَّت خدودُ هند ، واحتل قسماتِ وجهها الاضطراب ، وتسلل الارتباك إلى جوارحها ، فقالت أمُّها :
     _ أنتِ لم تَعُودِي صغيرة يا هند .. ومنذ اليوم لا مكان للخجل .
     أحسَّت هند أنها مُقْدِمة على معركة حامية الوطيس. كان الخوفُ يزرع التشنج في عروقها، وازداد جسمُها تعرُّقاً. شَعرت أنها وحيدة في غابة مجهولة مليئة بالمخاطر. الناسُ يتزوجون ببساطة ، ويُنجِبون بسهولة ، وتستمر الحياة بشكل روتيني عادي. أرحامٌ تَدْفع، وأرضٌ تَبْلع . فلماذا كل هذه الخلطات والأسرار والتعليمات العسكرية ؟! . هذه الأفكار كانت تحترق في قلبها ، والدخانُ يتجمع في شرايينها .
     تجمَّع الزَّوْجان قيس وهند في ذاكرة الأحلام . أحضرت أمُّ قيس العَشاء لابنها وزوجته ، وأُغلق عليهما باب الليل . وخرجت الأمُّ وهي تبكي بصوت خافت . في جبهتها ذبولُ الأزهار . وفي يديها تتساقط أوراق السنوات . أحسَّت أن ابنها الذي كان مُلْكاً لها تم اختطافه بكل سهولة ودون طلب فِدْية . مَن سَيتذكر تعبَها طيلة هذا العُمر الراكض في مدارات الدهشة والغربة والمعاناة ؟. كانت تجرُّ دموعَها وراءه كحصان مرهَق يجرُّ عربةَ الآلام .
     رآها زهدي فأشفق عليها ، وقال محاولاً التخفيف عنها :
     _ لا داعي للدموع يا أم قيس .. الله يعطيكِ العافية، رَبَّيْتِ الولدَ أحسن تربية، والآن هو عريس له أُسرة جديدة .. هذه سُنَّة الحياة. تعالي إلى النوم يا ابنة الحلال ، واتركيه لزوجته ، والصباح رَبَاح .
     ردَّت أم قيس وهي تحارِب شهيقَها وزفيرَها :
     _ نربِّي الأولاد صغاراً ، ونعتني بهم كِباراً ، ثم يُصبحون براويز على الحيطان .
     ودخلت مع زوجها إلى أجفان الظلام . ونام القمرُ في أسرار زيتونِ المجرات .
     أمَّا قيس وهند فكانا يتناغيان كعصفورين داخل القفص. أمسكَ يدَها المرتعشة، وعاهدها بأن يظل وفياً لها إلى الأبد . كان متأثراً بالأفلام الرومانسية التي شاهدها في أمريكا . كلامُهما سيناريو متكرر محفوظ مسبقاً . ومشاعرُهما تقاتِل الصدى لكي تَخْرج من دائرة الروتين. إنهما عاجزان عن الإبداع .. هكذا يصيرُ التقليدُ دستوراً للعشق ، والوجهان رجعَ صدى لتاريخ يُولَد من دموع الليل .
     وَضعت هند كميةً كبيرة من الخلطة في الطعام . وكان هذا اجتهاداً شخصياً منها ، فوالدتها لم توضِّح لها المقدارَ الصحيح . واعتقدت هند أن زيادة الكمية تعني زيادة طاقة زوجها . وبدأ الكابوسُ عندما تناول قيس العَشاءَ ، فأخذ يَشكو من آلامٍ شديدة في بطنه ومنطقةِ الحوْضِ. أمعاؤه تكاد تتمزق . عيناه خرجتا عن السِّكة مثل قطارَيْن ذاهبَيْن نحو الاصطدام الحتمي . وصارت ليلةُ الدُّخلة سِفْرَ الخروج الخاص به . وتمنى في قرارة نفْسه لو تنتهي هذه الليلة المرعبة بسرعة لكي يرتاح . ارتمى على السرير ، وأخذ يلتفُّ على نفْسه مثل الأفعى التي تلتف حول فريستها . ساد الرعبُ في تفاصيل هذا المشهد المخيف .
     أدركت هند أن كارثةً حقيقية حلَّت بزوجها ، وأنها السبب . لم تَعرف ماذا تفعل في تلك الساعة الرهيبة . تخلَّصت من الخلطة اللعينة التي هي سبب الشقاء . أَحضرت كوبَ ماء لزوجها الداخل في طقوس الاحتضار أو شِبه الاحتضار. لم يَقْدر على تناول الماء. قفز بحركة لاإرادية من السرير كالجن ، وذهبَ إلى المرحاض . تمنى عندئذ لو بقي في أمريكا ولم يجيء إلى هذا المكان. حاصرته الأفكارُ الفوضوية من كل الجهات . أراد أن يناديَ على أُمِّه في هذا الليل الجارح .. أن يهرب إلى حضنها كالطفل العاجز . أُصيب بإسهالٍ شديد . معدته بركان ينفث الحممَ الحارقة بلا هوادة. ولأول مرة في حياته يَشعر أن الموتَ قريب منه . إنه يعيش مع الموت في سجنٍ واحد .
     أمَّا هند فراحت تَندب حظَّها العاثرَ ، وتَلْطم خدودَها بصورة هستيرية مقزِّزة . اختلطت عروقُ كفِّها بالمكياج المتساقط كأوراق الخريف . وها هو ربيعُها يصير خريفاً ، والحلمُ أضحى رماداً في موقدة التاريخ الصاعق . وراحت تقول بنبرة كسيرة :
     _ يا فضيحتك يا هند .. يا فرحة ما تَمَّت .
     وصارت هذه الكلماتُ هي الشِّعار الرسمي لِلَيْلة الدُّخلة .
     قضى قيس ليلته الكابوسية ذاهباً إلى المرحاض عائداً منه . وزوجته تجلس على طرف السرير تضع يدها على خدِّها بعد أن تعبت من لطم خدودها . عمَّ الأرقُ في كهرمان الذاكرة المغشوش . تبخرت الأحلامُ الوردية ، ونثرت الرياحُ رمادَ القلوب في شهيق الحيطان . إنها أطول ليلة في حياتهما .. ليلة للنسيان مثل مباراة رياضية انتهت قبل البداية . نسي الحَكمُ صَفارته عند مرايا أكفانه ، واعتزل اللاعبون ، وغطَّت الثلوجُ الساخنة أرضَ الملعب، وتفرق الجمهورُ في الدروب الحزينة . ذَهبوا ولم يَعودوا .
     لم يَقدر الزوجان على النوم إلا بعد طلوع الفجر. رَمَيا تاريخهما في بئر الرعشة، واستسلما أمام أنياب الرياح التي كانت تصفع الأبوابَ ، وتَخْلع شبابيكَ العُمر . وساد الهدوءُ الصاعق بعد انتهاء حربهما مع عقارب الساعة . هدأت الأعاصيرُ ، والفيضانُ يُحصي عددَ الجثث ، والراياتُ البيضاء ترفرف على الأكتاف المثْقلة بوخز السنوات ، وصَفاراتُ الإنذار استقرت في القلوب المثقوبة .
     استيقظ زهدي وزوجته قبل الظُّهر . لقد سَهِرا حتى ساعة متأخرة من الليل . نفضا التعبَ عنهما. والحمدُ لله أن سار العُرس على ما يرام ، ولم تحصل مشكلات . فالأعراسُ في هذه البُقعة غالباً ما تعج بالصدامات بين السُّكارى والزعران، وتكسير الكراسي والطاولات . أمَّا هذا العُرس فهو يَحمل اسم " آل المخلوسي " ذات النفوذ والسطوة ، وهذا جعله متمتعاً بالحصانة والحماية . وكلُّ واحد يفكر ألف مرة قبل أن يرتكب حماقةً ما خوفاً من أن يدفع الثمنَ غالياً . ففي هذا المكان يَسود قانونُ الغاب رغم عمليات الترميم والتجميل .
     حاولت أمُّ قيس إيقاظ ابنها وزوجته لتناول طعام الإفطار ، لكن زهدي طلب منها أن تتركهما ، وقال مبتسماً :
     _ لا بد أنها ليلة طويلة .. قيس رَجل من ظَهْر رَجل ، لا يُخاف عليه . أكيد بَيَّضَ وجهَه أمام زوجته .. في هذه الليلة على الرَّجل أن يُشبِع زوجته ، وإلا فلن تَشْبع أبداً .. اتركيه نائماً لكي يرتاح .
     تغيَّر وجهُ زوجته ، وقالت بتأفف :
     _ أنتم الرجال تنظرون إلى النسوان كالنعاج .. الواحدُ منكم يَحتقر زوجته طيلة النهار ، ويَعتبرها خادمة ، ثم ينام معها في الليل مثل كيس الطحين . يَضحك عليها بكلمتَيْن ليأخذ حاجتَه ، ثم يرميها في المطبخ .
     ولَمَّا سمع زهدي هذا الكلام ضحك بملء فيه ، وقال وهو يغالب ضحكاتِه :
     _ هذه هي الحياة يا أم قيس .. الديك ديك ، والدجاجة دجاجة . وكلُّ إنسان يؤدي دورَه في الحياة ثم يَرحل .. سنواتٌ تمضي ، والذي يَذهب لا يَرجع .
     كان زهدي يُلقي الكلامَ ثم يفكِّر فيه . وفي أحيان كثيرة لا يفكر فيه أصلاً . والأشياءُ التي في قلبه تظهر على لسانه مباشرة بلا لف ولا دوران . وهو يَعرف أن كلامه قد يَجرح مشاعرَ البعض ، ويسبِّب لهم ضيقاً . لكن اللامبالاة صارت إحدى شعاراته . ليس لأنه وغد أو إنسان سيِّئ . بل لأنه مصاب بالملل من أحداث حياته . فما بَقِيَ في عُمره أقل مما مضى . ورغمَ هذا تراه في بعض الأحيان يتصرف بلباقة ، وتكون كلماته موزونة ، ويتكلم بالحِكم والمواعظ التي تُصلِح بين الناس . وبشكل عام فإن حالته المزاجية هي التي تحدِّد طبيعةَ كلامه .
     اجتمع أهلُ الدار على طعام الغَداء ، وقبل أن يأكل قيس عاجله والده بسؤال مثل الطعنة :
     _ قمحة أم شعيرة ؟ .. أُريد رؤيةَ زهدي الثاني قبل أن أموت .
     ارتبك قيس ، وبلع ريقَه ، ثم استجمع قواه مثل التلميذ الصغير الواقف أمام مدير المدرسة ، وقال بصوت مهزوز :
     _ اللهُ يُطيل عُمرَك ، وترى أحفادك يلعبون حَوْلك .
     أَظهرت هند قَدْراً من اللامبالاة ، وراحت تأكل كأنها لم تَسْمع شيئاً . تعمَّدت أن تَظهر في تلك اللحظة كالبلهاء المنقطعة عن العالَم الخارجي ، والمركِّزة في تناول الطعام . أرادت دفنَ نفْسها في الصحون كالنعامة . 
     لاحظ زهدي أن شيئاً غريباً يَحْدث ، فأعاد السؤال بلهجة صارمة :
     _ قمحة أم شعيرة ؟ .
     وبقي منتظراً الجواب كالصنم . عيناه تبرقان كالخناجر الجاهزة ، وجبهته يَقْطر منها أعوادُ الثقاب اللاهثة في أفلاك النهاية القاصمة .
     نظر قيس إلى الأرض كالقائد المهزوم المستسلم الذي رأى جيشَه يرفع الرايةَ البيضاء بكل خزي وعار ، وقال بكل انكسار :
     _ شعيرة ! .
     هَبَّ زهدي كالرمح الأعمى . حدَّق في وجه ابنه كأنه يريد أن يفترس ملامحَه حجراً حجراً . وبصورة غير متوقَّعة بصق على ابنه ، ثم ترك الجميعَ في حالة ذهول وصدمة . رَكضت خَلْفه زوجته ، وخطواتها تحترق وتَحرق الأرضَ .
     مَسحت زوجته البصاقَ بطرف كُمِّها ، وقالت :
     _ ستظل سَيد الرجال في نظري .. أنتَ تاج على رأسي .   
     وضع رأسَه على صدر زوجته ، واستسلم لأمواج الدموع التي لا نهاية لها .
     هبط الظلامُ سريعاً . سراديبُ ترتمي أمامه متاهةً . طريقٌ في نهايته ضوء خافت ، أو ضوء خافت في نهايته طريق . تصبح تعاليمُ الذباب جزءاً من صُداع الياسمين . كانت ظلالُ قيس تَسخر منه ، تَسخر من زوجته . دخلا في وهجِ البكاء . هُوَ السجين والسجن والسجان . سَتَذُوب الثلوجُ التي تَحجب عَرَقَ الشُّهب . الأرضُ سوف تموت ، وستذهب الشمسُ إلى قبرها . كلُّ الحيطان صارت في عينيه سيوفاً خشبية تمزِّق أوصالَه .
     شَعر أنه في سجنٍ : خليطٌ من الروائح الألوان . أشياء تبحث عنه في أماكن الحصار . تتجمعُ الدموعُ في مقلاةِ تاريخ الهزائم . الآنَ ، تنكمش أضلاعُه في غرفة معتمة . بينَه وبين أحلامه آلافُ الوديان ، وعواءُ الذئاب اليقظة . أجالَ بصرَه في المحيط فلم يجد غير نفْسه رغم وجود زوجته . صار كشخصٍ مصاب بالحمى تَلعب الخفافيشُ برائحة عَرَقه .
     مضى إلى غرفته وحيداً كما جاء إلى هذه الحياة وحيداً . استلقى على السرير لأن التعب هَدَمه . أحسَّ أن الزوايا تخاطبه ، وأن الوسادة الملوَّنة تبتلعه . تصمت الألوانُ تارةً ، وتَهيج تارةً أخرى . هذا عالَمه الجديد ، سجونٌ تتجمع لِتُشِعَّ سِجْناً واحداً ، وسجنٌ واحدٌ يتَّحد ليقتل كُلَّ وردةٍ تعشقُ الحقول . كأن نهراً يَحشره في بئر عميقةٍ ، ويرصده ليغتاله بعيداً عن أعين الفراشات . والليالي تَفتحُ في بُكاءِ البراري منجمَ فحمٍ . صلَّى للهِ ، وانطلقت دموعُه مع الدعاء الصاعد من أعماق قلبه ، وسَجدت أوصالُه في أرضه النازفة ، وانطلق إلى صباحات المطر الخارج من رُوحِه ، والذي يُطهِّر جوارحَه بشكلٍ صاعق .