21‏/05‏/2021

جون لوك وروح التسامح

 

جون لوك وروح التسامح

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..................

     وُلد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك ( 1632_ 1704 ) في رينغتون في إقليم سومرست، وتعلَّم في مدرسة وستمنستر ، ثم في كلية كنيسة المسيح في جامعة أكسفورد ، حيث انْتُخِب طالبًا مدى الحياة ، لكن هذا اللقب سُحِب منه في عام 1684 بأمر من الملِك . وبسبب كراهيته لعدم التسامح عند اللاهوتيين في هذه الكلية ، لَم ينخرط في سِلك رجال الدين . وبدلاً مِن ذلك، أخذ في دراسة الطب ، ومارس التجريب العلمي ، حتى عرف باسم " دكتور لوك " .

     كان والده مُحاميًا ، ناصرَ مع شيء من التضحية قضية البرلمان، وشرح لابنه نظريتَي سيادة الشعب والحكومة النيابية ، وبقي لوك مخلصًا لهذه الدروس مؤمنًا بها ، ومُعترفًا بفضل والده عليه.

     في عام 1667 ، أصبح طبيبًا خاصًّا لأسرة أنتوني آشلي كوبر الذي صار فيما بعد الإيرل الأول لشافتسبري ، ووزيرًا للعدل ، ولعب دورًا خطيرًا في الأحداث السياسية العظيمة التي وقعت في إنجلترا ( 1660_ 1680 ) . وقد لعبت علاقة لوك باللورد آشلي دورًا كبيرًا في نظرياته السياسية الليبرالية.وكان اللورد آشلي يتمتع بنفوذ كبير في إنجلترا، إذ كان يُمثِّل المصالح السياسية لرؤوس الأموال التجارية في لندن ، وتحت تأثير اللورد آشلي ، كتب لوك في عام 1667 مقالاً خاصًّا بالتسامح ، راجعَ فيه أفكاره القديمة الخاصة بإمكانية تنظيم الدولة لكل شؤون الكنيسة .

     اعتقد الكثيرون لمدة طويلة أن لوك كتب أشهر مقالتين سياسيتين نُشرتا في عام 1690 ، بعنوان " مقالتان عن الحكومة " تأييدًا لثورة 1688 الكبرى . وهناك وجهة نظر تقول إن المقالتين مُوجَّهتان ضد فيلمر ( المنظِّر السياسي الإنجليزي الذي دافع عن الحق الإلهيِّ للملوك ) ، وليس ضد " هوبز " ، كما كان يُفكِّر البعض .

     هاجر لوك إلى هولندا عام 1683 ، بسبب ملاحقة البوليس له ، وذلك لاتصالاته الوثيقة باللورد آشلي ، الذي كان مُعَارِضًا للقصر ، وبقي هناك حتى عام 1689 . وفي هولندا ، كتب لوك عِدَّة مقالات منها : مقال خاص بالفهم البشري ، وبعض الأفكار عن التربية ، وأخرى عن التسامح. وعندما جاءت الثورة الكبرى، استطاع لوك العودة إلى إنجلترا. وقد رفضت الجامعات القديمة فلسفته الحِسِّية وآراءَه الليبرالية. ومع ذلك فقد انتشرت شُهرته في أنحاء العالَم .

     لَم يتزوج لوك قَط ، مِثل كُل فلاسفة عصره تقريبًا ، ونصحوه بالالتحاق بإحدى وظائف الكنيسة، ولكنه رفض الفكرة .

     في عام 1687 ، اشتركَ لوك في مؤامرة لإحلال وليم الثالث محل جيمس الثاني على عرش إنجلترا . فلمَّا نجحت هذه المؤامرة ، أبحرَ لوك إلى إنجلترا (1689) على نفس السفينة التي أقَلَّت الملكة المقبِلة ماري . وفي إنجلترا التي تَوَلَّى فيها أصدقاء لوك مقاليد الحكم ، تقلَّد الفيلسوف عِدَّة مناصب رسمية . ففي عام 1690 كان مُفوَّض الاستئناف ، وفي الفترة ( 1696_ 1700) ، كان مُفوَّض التجارة والزراعة .

     كان لوك قد بلغ السابعة والخمسين مِن العُمر حين عاد مِن منفاه . ولَم يكن قد نشر سوى بعض مقالات قليلة الشأن ، ولَم يكن يَعْرف عن اشتغاله بالفلسفة إلا نفر قليل من أصدقائه . وما هي إلا سنة واحدة ، هي "سنة العجائب" حتى دفع إلى المطبعة ثلاثة كتب سَمَت به إلى مصاف الشخصيات البارزة الكبرى في عالَم الفكر في أوروبا .

     ظهرت " رسالة عن التسامح " في مارس 1689، في هولندا، ثم تُرْجِمت إلى الإنجليزية في الخريف. وأعقبتها في 1690 " رسالة ثانية عن التسامح ". وفي فبراير 1690 أصدر مَقَالَيْه عن "الحكم المدني"، وهُما حجر الزاوية في النظرية الحديثة للديمقراطية في إنجلترا وأمريكا، وبعد شهر واحد أخرج كتابه " بحث في العقل الإنساني " ، وهو أعظم المؤلفات أثرًا في علم النفس الحديث . كان تأثير لوك شاملاً وعميقًا في علم النفس قَدْر تأثيره في نظرية الحكم المدني . وَظَلَّ يكتب رسالته عن العقل الإنساني منذ عام 1670 ، ويتميَّز هذا البحث بأنه دفع به إلى المطبعة بعد عشرين عامًا قضاها في مراجعته وتنقيحه .

     عرَّف لوك " العقل " بأنه " قوة الإدراك الحِسِّي " ، ولكنه يستخدم الإدراك الحسي ليشمل: 1_ إدراك الأفكار في عقولنا . 2_ إدراك معاني الألفاظ . 3 _ إدراك التوافق أو التنافر بين الأفكار . ولكن ما هي الفكرة ؟. إن لوك يستخدم هذا الاصطلاح ليعني : 1_ تأثير الأشياء الخارجية على حواسنا ( الإحساس ) أو : 2_ الوعي الداخلي بهذا التأثير ( الإدراك الحسي)، أو: 3 _ صورة الفكرة أو الذكرى المتصلة بها ( الفكرة )، أو: 4_ الحركة التي تجمع صورًا منفردة كثيرة ، لِتُكوِّن مفهومًا عامًّا أو مُجَرَّدًا أو شاملاً لمجموعة من الأشياء المتشابهة .

     واصلَ لوك حملته من أجل التسامح حتى غابت شمس حياته . وقبل مَوته كان قد وصل في مجال الفلسفة إلى مكانة لَم يصل إليها نيوتُن في مجال العلوم .

     وقد انتشرت كُتبه ، وانتقلت عن طريق الطبعات والترجمات العديدة إلى فكر أوروبا المتعلِّمة المثقفة .