14‏/06‏/2021

دانتي والكوميديا الإلهية

 

دانتي والكوميديا الإلهية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............

وُلد الشاعر الإيطالي دانتي أليغييري ( 1265_ 1321) في مدينة فلورنسا لعائلة متوسطة الثراء من النبلاء والأشراف، وكان يُشير إلى ذلك في كتاباته بفخر . ولَم يُقدِّم تاريخ الأدب الإيطالي أيَّة تفاصيل حول طفولته ونشأته ، وبقيت المرحلة الأولى من حياته محاطة بالغموض . فَقَدَ والدته وهو في الثالثة عشرة،ووالده قبل بلوغه العشرين. وكان يحب الرسم والموسيقى، واختار الطب والفلسفة ، إلا أنه أولى اهتمامه للأدب والشعر ، وكانت صلاته وثيقة مع أدباء عصره. بدأ دانتي نشاطه عام 1300 وسط صراع سياسي واجتماعي بين البابوية والملكية . فقد تقاسمت مدينة فلورنسا شريحتان : شريحة البِيض ، وتضم الأرستقراطيين والبرجوازيين المؤيدين لحكومة ديمقراطية ، وشريحة السُّود ، وتضم أغلبية العائلات الكبرى والحزب المناهض للديمقراطية. تقرَّبَ دانتي من البِيض الذين رفضوا تدخُّل البابا بونيفاتشو الثامن في شؤون المدينة الداخلية. وذهب دانتي بمهمة رسمية إلى روما ، للتفاوض مع البابا ، مُدافعًا عن مصالح الملِك ، وساعيًا إلى الفصل بين السلطتين السياسية والدينية ، وعَلِمَ قُبَيل عودته ، وهو في العاصمة في كانون الثاني 1302 ، بإدانته وعزله من مهامه مدة عامين ، وَتَمَّ اتهامه بتحريض العدو السياسي ، وبقي مُلاحَقًا منفيًّا حتى وفاته . ورفض دانتي _ عندما سعى بعضُهم إلى التسوية _ تقديم أيَّة تنازلات ، فصدرت بحقه عقوبة الموت حرقًا مع أولاده الثلاثة .

اقترنَ اسم دانتي باسم قصيدته الشهيرة " الكوميديا الإلهية " ، وله مؤلفات أخرى لا ترقى إلى مستوى قصيدته هذه . أولها " حياة جديدة " ( 1292_ 1293) ، وهي مزيج من الشِّعر والنثر، في إطار رواية استوحاها من مؤلفات كُتبت باللغة اللاتينية في العصور الوسطى .

ونظم أيضًا مجموعة قصائد تحت عنوان " قوافي " . أمَّا مُؤلَّفه " المأدبة " ( 1303) ، فقد عكف فيه على دراسة الفلسفة والأدب القديم ، وأظهرَ تعطشًا للمعرفة لا حدود له .

أمَّا قصيدته الشهيرة التي تُوصَف بأنها رائعته " الكوميديا " ، التي أُضيفت إليها صفة " الإلهية" لاحقًا عام 1555، عند صدور طبعة البندقية ، فقد استغرق في نظمها ما يزيد على خمسة عشر عامًا ، وأنجزها قبل وفاته بمدة قصيرة . وهي قصيدة تضم مئة أنشودة مُكوَّنة من 14229 بيتًا ، في ثلاثة أجزاء تحمل عناوين " جهنم " ، " الْمَطْهَر " ، " الفِرْدَوْس " . وتُمثِّل الإدانة والجزاء والنعيم. ويتألف كل جزء من 33 قصيدة ، بعدد مُتساوٍ من الأبيات ، مُضيفًا أنشودة في المقدمة ، ليصل إلى المئة رمز الكمال . وبطلها هو دانتي نفسه التائه عند مُفترق الطرق وسط غابة مُظلمة تمتلئ بالذنوب. ويصف في هذه القصيدة عالَمًا أبدع في تَخَيُّلِه ، فيه مكان للخير ، وكذلك للشر، الذي يراه الشاعر نتيجة العجرفة المفرطة في سلوك أول ملاك تمرَّد على حكمة الرب . ويرى دانتي أن مصدر الشر هو الإنسان ذاته، إذ يقول في " المطهر " وفي القصيدة السادسة عشرة : (( إذا كان العالَم الحالي منحرفًا وضالاًّ ، فابحثوا عن السبب في أنفسكم )) ، لأن الإنسان يبحث دومًا عن مصدر الشر فيما حَوْله ، مُنَزِّهًا نفسه ، ومُلْقِيًا المسؤولية على السماء. وتكمن المأساة_ في رأي دانتي _ في العقول النائمة ، فالْمُدانون في "جهنم" هُم أولئك الذين فقدوا القدرة على التفكير والإدراك والفهم. وهو عندما ينظر إلى أعماق الإنسان يرى أن قلبه يأكله الحسد والبخل والطمع. ويَتصوَّر دانتي موقع " جهنم " بعيدًا عن الإله الذي يُشِعُّ نورًا، ويَتصوَّر " المطهر" جزيرة صغيرة وسطها غابة تنبض بالحياة ، وترمز إلى فِرْدَوْس الإيمان على الأرض ، وهو يصبو في قرارة نَفْسه إلى رحلة ارتقاء روحي نحو الكمال ، إلى العالَم الآخَر ، بهدف التقرب إلى الخير الأعلى والسكينة الدائمة. فالحقيقة الإلهية في نظر دانتي واحدة وإن اختلفت الديانات ، حقيقة أعلنها الأنبياء ، وأولهم موسى. وكان دانتي يؤمن بوجود إله واحد أبدي يُحَرِّك ولا يتحرك ، وبأن هذه الحقيقة موجودة في الكتب السماوية ، ويمكن لأي إنسان أن يكتشفها إن أعملَ عقله ، وكان في الوقت ذاته يدافع عن طبقة حاكمة نبيلة تصل إلى السُّلطة بالعِلم والفضيلة . ولا يزال دانتي يتمتع بشهرة عالمية ، وتعود أهمية " الكوميديا الإلهية " بعد ما يزيد عن ستة قرون إلى أنها أظهرت فكر أبناء فلورنسا ، أكثر المدن الإيطالية أهمية آنذاك ، وأكثرها نفوذًا على الصعيد الديني ، إضافة إلى أن نفحة أفلاطونية فاحت منها في القرن الرابع عشر، مِمَّا تجلى في قصائد دانتي خاصة. كما تميَّزت   " الكوميديا " بأسلوب سلس وبسيط أبرزَ قدرةَ الشاعر على بناء صرح أدبي من صروح العصور الوسطى، شبَّهه النقاد بكاتدرائية تحيطها رَهبة لا تزال تُقلِق الإنسان وتُذكِّره بنهايته .

والجديرُ بالذِّكر أن " الكوميديا " بقيت في طَي النسيان ما يزيد على ثلاثة قرون، ثم خرجت في القرن التاسع عشر لترى النور من جديد ، وسط مناخ أوروبي حُر ورومانسي . وقد أظهرَ المستشرق والباحث الإسباني القس بلاثيوس في رسالة الدكتوراة التي ناقشها تحت عنوان " عِلم الآخرة الإسلامي في الكوميديا الإلهية " عام 1919، أن رؤى جهنم والفِرْدَوْس في  " الكوميديا " مُقْتَبَسَة من الإسراء والمعراج . وأثارت هذه الرسالة تساؤلات حول مدى اطلاع دانتي على مؤلفات ابن عربي ، أو رؤية المعرِّي في " رسالة الغفران " .