15‏/08‏/2021

صمويل جونسون وتاريخ النقد الأدبي

 

صمويل جونسون وتاريخ النقد الأدبي

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.....................

     وُلِد الأديب الإنجليزي صمويل جونسون (1709_ 1784) في بلدة ليتشفيلد ، شمال لندن . التحقَ بعد إنهاء دراسته الثانوية بجامعة أكسفورد، وقضى فيها سنة واحدة ، اضْطُر بعدها إلى تركها لفقره . وبالإضافة إلى الفقر المدقع ، عانى جونسون في صِغره مرضًا في الدم ، سبَّب له مشكلات نفسية أدَّت إلى سَوداوية مُفرِطة ، مِمَّا انعكسَ في مُجمَل مؤلفاته .

     له إسهامات هامة في الأدب الإنجليزي . ويُعتبَر من أشهر رجالات الأدب في إنجلترا ، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. كتب في كل الأجناس الأدبية ، وكان له مِن السُّلطة والنفوذ والمكانة ، ما جَعل تلك المرحلة في تاريخ الأدب الإنجليزي تُدعَى " عصر جونسون " نِسبةً إليه .

     تزوَّجَ إليزابيث هنري بورتر ، وهي أرملة تكبره بعشرين سنة، وأنشأ بمساعدتها مدرسة صغيرة قُرب ليتشفيلد ، لكنه فشل في اجتذاب عدد كافٍ من الطلاب، كما فشل في التعليم والقضاء ، فاحترفَ الكتابة ، كَوْنها الشيء الوحيد الذي يُتقِنه . كتب جونسون كَمًّا هائلاً من الترجمات ، وعُرِف بمراجعات بعض الكتب . كان أول كُتبه " رحلة إلى الحبشة " ( 1735) ، وهو ترجمة عن اللاتينية لقصص الرحلات التي قام بها أحد الآباء اليسوعيين البرتغاليين إلى إثيوبيا. وكتب أيضًا مجموعة مقالات لمجلة " الجنتلمان "، أهمها " حوارات مجلس ليليبوت الأعلى " ، سخر فيها من عبثية الحياة السياسية والبرلمانية في إنجلترا . وكتب بعض المداخلات السياسية، مِنها " ضرائب لا استبداد" ( 1775) ، التي اتُّهِم بأنه كتبها لِمُمالأة السُّلطة الحاكمة، خصوصًا بعد قبوله راتبًا تقاعديًّا من الملِك جورج الثالث، مُتناسيًا قَوله المأثور" إن الراتب أجر تدفعه الدولة لمستخدميها لقاء خيانتهم للوطن " ، ومُتجاهلاً هجومه العنيف على سياسة تَبَنِّي الأغنياء للكُتَّاب الشباب ، الذين يُصبح هَمُّهم الأول إرضاء أولياء نِعمتهم . وهذه الكتابات لا تَخرج عن الخط السياسي والفكري ، الذي التزمه جونسون طوال حياته .

     جَسَّدَ جونسون فلسفته بمختلف الأشكال الأدبية، شِعْرًا، كما في أشهر قصائده" حماقة الأماني الإنسانية " ( 1749) . حيث ينتقد فيها قدرة البشر اللامحدودة على خداع الذات والهروب من مواجهة الواقع المؤلم . ونثرًا ، كما في رواية " قصة راسيلاس ، أمير الحبشة " ( 1759) . حيث يكتشف الأمير الإثيوبي إخفاق كل الأنظمة الفكرية والسياسية والاجتماعية ، وعجزها عن تحقيق السعادة الإنسانية ، فيقتنع أن جوهر الحياة الإنسانية واحد ، لا يَتغيَّر باختلاف الزمان والمكان . وجسَّدها أيضًا في مجموعة المقالات النقدية التي نشرها في مجلة "رامبلر" ( 1750_ 1752) ومجلة " آيدلر " ( 1758_ 1760) ، التي يُجمِع النُّقاد على أنها أفضل كتابات جونسون ، مِن حيث مُلاءمة الشكل الفني لأسلوبه الفخم والرصين ، ومِن حيث نجاحه في سَبْر أغوار النفس البشرية ، وتعرية الألم والشك الكامنَيْن في جوهر الوجود .

     تنبع أهمية جونسون في تاريخ الأدب الإنجليزي من أعماله النقدية ، التي طوَّر بها المقالة الأدبية القصيرة،ومِن نشره " مسرحيات وليم شكسبير"(1765) معَ تحقيق مُعظم الشروحات والقراءات النقدية المتوفرة آنذاك لأعمال شكسبير المسرحية ، وكتابة " المقدمة " الشهيرة التي تُعتبَر فتحًا في تاريخ النقد الأدبي في إنجلترا . ويُعتبَر كتابه " حياة الشعراء الإنجليز " ( 1779_ 1781) آخر وأهم أعمال جونسون النقدية، ويتناول فيه إبداعات وسِيَر كبار الشعراء، ويقع في عشرة مجلدات. ويُشكِّل الكتابُ تاريخًا أدبيًّا لتلك الفترة ، ولا تزال آراؤه مثار جدل في إنجلترا حتى يَومنا الحالي. ويرى كثيرون في جونسون رائدًا للنقد الأدبي الحديث.

     يؤكد جونسون في مقدمته لمسرحيات شكسبير أن " مَن يُفكِّر بطريقة عقلانية ، لا بُدَّ أن يُفكِّر بطريقة أخلاقية أيضًا " ، الأمر الذي دفعه إلى إطراء " واقعية " شكسبير ، من حيث الحوار والشخصيات،وقُدرته على مُحاكاة الطبيعة البشرية بدقة وأمانة ، واكتشاف جوهر الحياة الإنسانية ، وتجسيده فَنِّيًّا بأسلوب لا يُضَاهَى . ولكنه _ من جهة أخرى _ هاجمَ شكسبير لغياب  " البُعد الأخلاقي " في مُجمَل أعماله ، إذْ غالبًا " ما يُكَافَأ المذنِب ، ويُعَاقَب البريء ، ويُضحَّى بالفضيلة على مذبح التسلية والإمتاع " . وبهذا كان آخر مَن تجرَّأ على نقد شكسبير .

    ومِن الأعمال التي صنعت مكانة جونسون الأدبية:"معجم اللغة الإنجليزية"(1746_ 1755) الذي يُعَدُّ أول محاولة لشرح معاني المفردات ، وتبيان استخداماتها المختلفة عن طريق الاستشهاد بمقولات كِبار الكُتَّاب والأدباء الإنجليز . وجاء هذا المعجم لِيُحدِّد المعايير اللغوية والثقافية التي تضمن للإنجليزية بقاءها وتطورها وحمايتها من هيمنة اللغة الفرنسية .

     تمتاز كتابات جونسون النقدية بمسحة شخصية آسرة ، وقوة ملاحظة هائلة ، ودقة تعبير ، وتدفق للمشاعر والأحاسيس. وهذه العوامل أكسبتها قيمة فنية خالدة ، بغض النظر عن المعيار النقدي الذاتي ، والجائر أحيانًا.

     وبعد مُعاناة طويلة من مرض الاستسقاء(تجمُّع السوائل في التجويف البطني الذي يكون مفصولاً عن الصدر والحجاب الحاجز) ، تُوُفِّيَ جُونسون ، ودُفِن في كنيسة وستمنستر في لندن.