24‏/08‏/2021

غراهام غرين وكراهية أمريكا

 

غراهام غرين وكراهية أمريكا

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

................

     وُلد الكاتب الإنجليزي غراهام غرين(1904_ 1991) في بلدة بركَمْستيد بالقرب من لندن. كان والده مديرًا لمدرسته التي حاولَ الهرب منها ، فأُرْسِل إلى لندن للعلاج لدى طبيب نفسي آواه في مَنْزله ، وعَدَّ تلك الفترة أسعد أيام حياته . درس لاحقًا في جامعة أكسفورد ، وبعد تخرُّجه تحوَّلَ عن الكنيسية الأنكليكانية نحو العقيدة الكاثوليكية ، ثُمَّ تزوَّج عام 1927 فتاةً من المحيط ذاته . عمل في أثناء الحرب العالمية الثانية في وزارة الخارجية البريطانية ، ومكَّنه ذلك من معرفة بلدان كثيرة ، صارت لاحقًا مسرحًا لأحداث رواياته . وقد عمل قبل ذلك مُحَرِّرًا في صحيفة التايمز ، إلا أنه تركها عام 1930 ليتفرَّغ للكتابة . تتَّصف غالبية مؤلفاته بصبغة الرواية البوليسية ، مِثل : " قطار إسطنبول"( 1932)، المعروفة بعنوانها الأكثر شُهرة " قطار الشرق السريع "، والتي ذاعت شُهرته بسببها ، ووصفها بأنها تسلية . ومعَ هذا ، فإن نزعة دينية بدأت بالظهور لدى طَرْقه موضوعات الإيمان والصراع بين الخير والشر، والخيارات المتاحة أمام الإنسان ، والمفارَقات التي يتَّصف بها هذا الوضع (الشرط) الإنساني فيما أسماه غرين " الغرابة المخيفة للعناية الإلهية " . وتظهر هذه النظرة القدرية واضحةً في روايات مِثْل: صخرة برايتون ( 1938)، و " العميل السِّري"  ( 1939) التي عالَجَ فيها موضوع اليأس في ظروف الحرب الأهلية الإسبانية، و"وزارة الخوف "  ( 1943)،و" الرَّجل الثالث " ( 1950) ، التي كتبها للسينما أصلاً ، وصارت مسلسلاً تلفزيونيًّا، حول الحب والجاسوسية في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية ، وأيضًا في " عميلنا في هافانا " ( 1958) في كوبا ما قبل الثورة. كتب أولى رواياته المهمة " السُّلطة والمجد" ( 1940)، وحكى فيها قصة القِس المكسيكي السِّكير ، الملتزم والخائن في آن معًا ، والتحولات التي تطرأ على حياته ، والصراع الذي يُعانيه ، والضغوط المادية والروحية التي يتعرَّض لها ، والخيارات التي يُواجهها ، مِمَّا أثار حفيظة الكنيسة الكاثوليكية فأدانتها .

     وبالنهج ذاته كتب " صُلب المسألة " ( 1948 ) حول رئيس الشرطة في مدينة أفريقية ، وملابسات حياته ومواقفه من الحياة والحب ، وأخيرًا الموت ( الانتحار ) . وأيضًا " نهاية العلاقة " ( 1951)، حيث لا يمكن للإيمان أن يصير مخرجًا، أو مهربًا للشخصيات، بل هو " صُلب المسألة" تمامًا كما هو الحب . وتكمن في أحد تقارير غرين الصحفية حول فيتنام نواة روايته " الأمريكي الهادئ " ( 1955). ففي أثناء طيرانه مع طيار فرنسي فوق دلتا نهر هناك ، يقوم الطيار بقصف قارب ينساب بسلام فوق سطح النهر ، وقتل رُكَّابه ، للتخلص من شعوره بالرتابة والملَل . وفي ذلك المثال الأوضح لعبثية الوجود والفعل المجاني . وتُعتبَر رواية " القنصل الفخري " ( 1973) مِن أفضل روايات غرين ، وتستحضر عصر الفوضى والاختطافات السياسية في أمريكا اللاتينية في سبعينيات القرن العشرين .

     كان غرين شغوفًا بالترحال والمخاطر والمغامرة ، حتى طغى ذلك على حياته وكتاباته ، التي شملت الأنواع الأدبية كافة. والمحيط المثالي في أغلب رواياته هو المناطق ( الساخنة ) مَجارًا وحقيقةً. والعالَم هو مسرحه ، مِن كوبا إلى المكسيك، مرورًا بالأرجنتين ، ومِن أوروبا إلى آسيا ، مُرورًا بأفريقيا ، وهو محيط البلاد الاستوائية ، حيث الحر والحرب والفقر والفساد والصراع من أجل البقاء،والحفاظ على الإيمان، ومواجهة الجنون،حيث تظهر الأحاسيس الإنسانية الدفينة إلى السطح. وصف غرين نفسه في مرحلة متأخرة من حياته بأنه " ملحد كاثوليكي "، و " كاثوليكي يكتب وليس كاتبًا كاثوليكيًّا " ، كذلك رفض تسميته بالكاتب الوجودي ، بالرغم من كثير مِمَّا يربطه بالوجودية : (( أنا أشعر بالضيق ، إذن أنا موجود )) .

     تميَّز غرين بشخصية متفردة في حياته الخاصة وفي أدبه ، الذي أضفى عليه عناصر التشويق والإثارة ، إضافة إلى الحبكة المحكَمة والبناء الروائي المتقَن ، وتمتَّعَ بالرغم من واقعيته ببعد رمزي وميتافيزيقي . وقد عبَّر عن أسلوب عمله وطريقة تكوينه لشخصياته في يوميات كتبها في أثناء رحلة في أفريقيا بعنوان " بحثًا عن شخصية " ( 1961) ، وهو بحث مستمر عن الأفضل ، ومن أجل اكتشاف الذات .

     كانت لغرين سياسة خارجية مستقلة عن الخط الرسمي لبلاده ، فقد صعق حكومته حين ظَهَر إلى جانب الرئيس الكوبي فيدل كاسترو . وعُرِف بعدائه المعلَن للولايات المتحدة الأمريكية وما تُمثِّله ، وباحتقاره لرؤسائها الذين رأى فيهم تجسيدًا للشر في العالَم . وكانت له نظرية خاصة في الولاء والخيانة ، إذ تعاطف مع بعض الجواسيس الذين تجسَّسوا لصالح الاتحاد السوفييتي ( سابقًا )، ورفع في أدبه من أهمية الجاسوس ، إذ يعزو الخيانة إلى المحيط والضغوط الخارجية، وهو تقليد أخذه عنه آخرون كتبوا في النوع الأدبي ذاته ، ويزعم بعض دارسيه أن ذلك كله لَم يكن سوى غطاء لعمله في الاستخبارات البريطانية .

     يُعتبَر غرين أحد أهم الكُتَّاب الإنجليز المحدَثين ، وأغزرهم إنتاجًا ، وأكثرهم انتشارًا . وعبَّر في رواياته عن موقفه من السُّلطة والهيمنة والدِّين والسياسة .