21‏/11‏/2021

مارتن هايدغر ومأزق الوجود

 

مارتن هايدغر ومأزق الوجود

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.........................

     وُلد الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر(1889_1976) في ماسكيرش، بادن، في جنوب ألمانيا. درس في جامعة فرايبورغ، حيث تتلمذ على يد هوسِّرل، ثم صارَ أستاذًا فيها عام 1928 .

     لا يوجد فيلسوف أوروبي في القرن العشرين أفلتَ من تأثير هايدغر . وهذا يشير بوضوح إلى مكانة هذا الفيلسوف في النسق الفلسفي الغربي . فما الذي جعله يتبوَّأ هذه المكانة رغم كثرة القامات الفلسفية في أوروبا عبر تاريخها الطويل ؟. إن النقطة الجوهرية في فكر هايدغر ، هي عدم تقليده للآخرين . لقد كانَ نفْسَه ولا شيء آخر، ولَم يَعبأ بالنقد والاتهامات . فقد آمنَ بأفكاره الشخصية وفلسفته الخاصة ، ومضى في طريقه وحيدًا نحو الهدف الذي رسمه بنفْسه، ووصل إلى أبعد نقطة ممكنة ، لأنه كان يعرف مسارَه وهدفَه ، ولو كان مُتَرَدِّدًا لِمَا حقَّق أيَّ إنجاز. وكما قِيل: لا يذهب بعيدًا مَن لا يَعرف إلى أين هو ذاهب . وهذا الأمر يُحسَب له بغض النظر عن طبيعة أفكاره . وفلسفة هايدغر شديدة التعقيد والتَّشعب، وهي قائمة على ثلاثة أركان : القلق ، الاغتراب ، الموت. ويمكن تبسيطها على النَّحو التالي : إنها فلسفة تقوم على فكرتين مركزيتين : الوجود ( حياة الإنسان ) والعدم  ( الموت ) . وضمن هذه الثنائية ، على الإنسان أن يشعر بالقلق تجاه مصيره ، لأن نهايته الحتمية هي الموت. وهذا يعني أن القلق الوجودي المسيطر على الإنسان هو الذي كشف معنى العدم ( الموت ) . وفي ظل هذه المعطيات ، يبدأ الإنسانُ رحلةَ البحث عن وجوده وجدوى استمراره في الحياة . والقلق في هذا السياق ليس شعورًا ، وإِنما قيمة فلسفية . إذ إِن سبب القلق هو الخوف على الوجود من العدم . وبعبارة أخرى، الخوف على الحياة من الموت . وهكذا يتكرس القلقُ الوجودي كجرس إنذار ، وأداة كاشفة لماهية العدم والفناء ، ومبدأ لإزالة القناع عن وجه الإنسان ، وتعريته ، وتأكيد ذاته .

     إن القلق الوجودي في فلسفة هايدغر ، مؤشر واضح على أن الحياة لا معنى لها ، ولكن الإنسان صاحب الحضور المركزي في هذا العالَم ، هو الذي يُعطي الحياةَ معناها ، ويَمنح الشرعية والمعقولية للوجود . وبالتالي ، فالإنسان يصنع نفْسه بنفْسه ، ويصنع عالَمه المحيط به ، ولا يمكن للإنسان أن يجد نفْسَه إلا إذا كان حُرًّا . وهكذا تتجذر الحرية كمبدأ أساسي من مبادئ الفلسفة الوجودية. وعلى الجهة المقابلة ، يبرز مفهوم الوجود الوهمي، حيث يعاني الإنسان من الاغتراب ، فيتقمص الآخرين ، ولا يجد نفْسَه ، وهذه المرحلة تُمثِّل نوعًا من عدم الوجود .

     والفلسفةُ الوجودية تُشدِّد على أهمية القلق لخلاص الإنسان، وتخليصه من أزماته . لذلك فهي تقف ضد الأشخاص الذين يرفضون تحمل مسؤولية القلق الوجودي ، ولا يريدون تأكيد ذواتهم ، ولا يَطمحون إلى اكتشاف مواهبهم ، ولا يَتركون بصمة في حياتهم . وهؤلاء _ وَفْق المنظور الوجودي _ يَغرقون في نظام استهلاكي روتيني مغلق ، ويَبحثون عن الراحة والرفاهية بعيدًا عن الأسئلة الوجودية والقضايا المصيرية . لذلك، فإن الفلسفة الوجودية تعتبر الهروب من مسؤولية القلق هو نهاية الإنسان . وبما أن الإنسان محكوم _ منذ ولادته _ بالموت ، فعليه أن يكتشف تفاصيل حياته بنفْسه، ويستغل كل لحظة زمنية ، ولا يُضيِّع وقته في الأمور غير المفيدة . وهذا لا يتحقق إلا بالبحث عن معنى الوجود والماهية الحقيقية للأشياء ، والتفتيش عن الوجوه لا الأقنعة .

     وقد أصابَ التعقيدُ والتناقضُ فلسفةَ هايدغر وحياته الشخصية على حَد سواء . وهذا الأمر اتَّضح بشكل مُبكِّر . إِذ إِن هايدغر بدأ حياته بدراسة علم اللاهوت ليصير كاهنًا ، ثم ابتعد عن هذا المجال ، ودرس العلوم الطبيعية ، وأخيرًا انتهى إلى الفلسفة. والغريب في الأمر أن أهم إنجازات هايدغر يتجلى في إِبعاد الفلسفة الغربية عن الأسئلة اللاهوتية والغَيبية ( الميتافيزيقية ) ، والتركيز على الأسئلة الوجودية ومعنى الكَينونة ، وهو الذي بدأ حياته بدراسة علم اللاهوت القائم _ أساسًا _ على المفاهيم الغَيبية .

     ومن الأمور الغريبة أيضًا ، انتماء هايدغر إلى الحزب النازي الألماني ، ورئاسة الجامعة في العهد النازي. مِمَّا جعل كثيرًا من الباحثين يتهمونه بمعاداة السامية . وتزداد الغرابة إذا عَلمنا أنَّ علاقة عاطفية كانت تجمع هايدغر " النازي " مع تلميذته المفكِّرة حَنَّة أرِندِت " اليهودية " التي طاردتها النازية، فهربت إلى فرنسا . وبين الأستاذ وتلميذته رسائل غرامية متبادلة ، وقد جُمعت في كتاب صدر بالألمانية ، وتُرجِم إلى العربية . إنه العشق القاسي بين " المعلِّم النازي " و" التلميذة اليهودية " في زمن صعود النازية .

     تركَ هايدغر أعمالاً فكرية كثيرة ، وتميَّز بتأثيره الهائل على المدارس الفلسفية في القرن العشرين ، كالوجودية ، والتفكيكية ، وما بعد الحداثة . ورغم كل الانتقادات التي وُجِّهت لهذا الفيلسوف ، إلا أنه بقي في قلب المشهد الفلسفي العالمي ، ولَم يَقدر أحد على تحييده أو إقصائه .

     مِن أبرز أعماله : الوجود والزمان ( 1927) . دروب مُوصَدة ( 1950) . ما الذي يُسمَّى فكرًا ( 1954) . ما هي الفلسفة ؟ ( 1956) . المفاهيم الأساسية في الميتافيزيقا ( 1961) .