05‏/02‏/2024

أغنية من زمن الرصاص

 

أغنية من زمن الرصاص

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد

...........................

     بَنَى السَّرابُ عَرْشًا مِن زُجاجِ القِطَارَاتِ / وأنا المَلِكُ المَخلوعُ / أجْلِسُ عَلى مَقْعَدٍ خَشَبِيٍّ في مَحطةِ القِطَارَاتِ الجليديةِ / لا أنتظرُ أحَدًا / ولا أحَدٌ يَنْتَظِرُني /

     أنا الجُنديُّ المَجهولُ بِلا أوسمةٍ ولا مُعْجَبَاتٍ / أنا الجُنديُّ المقتولُ بِلا أضرحةٍ ولا ذِكرياتٍ / جُثَثُ الأُمَّهَاتِ في ثَلاجةِ المَطْبَخِ / وَدَمُ الحَيْضِ السَّاخِنُ على البَلاطِ البَارِدِ / وأشلاءُ الأطفالِ في صُحُونِ المَطْبَخِ / قَصَفَت الطائراتُ زُجَاجَ النَّوافِذِ / وعُمَّالُ الإنقاذِ يَبْحَثُونَ عَن الضَّحايا تَحْتَ أنقاضِ حَنْجَرَتي / أَحْمِلُ أوتادَ خَيْمَتي/ وأرْحَلُ مِن شَظَايا رِئتي إلى خُدُودِ المَوْجِ المكسورةِ / آثارُ خُطُوَاتِ النَّوارِسِ على ثَلْجِ الدِّمَاءِ المُخْمَلِيَّةِ / والزَّوابعُ تَبني مُسْتَقْبَلَهَا في أعشابِ المَدَافِنِ / وقُطَّاعُ الطُّرُقِ سَرَقُوا أسنانَ النِّسَاءِ المُغتَصَبَاتِ/وأنا الغريبُ/مُتُّ قَبْلَ مِيلادي / وُلِدْتُ بَعْدَ مَوْتي /

     صَوْتُ المطرِ يَتَدَاخَلُ مَعَ صَوْتِ الكَمَانِ في المساءِ الحزينِ/ وَصَوْتُ الرَّصاصِ يُمَزِّقُ قَلْبَ الليلِ/ لا أبناءَ لي أُوَرِّثُهُم فَيْرُوسَ الحضارةِ القاتلَ/ لا أبناءَ لي أُوَرِّثُهُم جُرْثُومةَ الوَطَنِ القاتلةَ / فَكُنْ رُومَانسِيًّا يا حَارِسَ المَقبرةِ / حِينَ يَتَزَوَّجُ الخريفُ أشجارَ المقبرةِ / كُنْ عَاطِفِيًّا يا حَفَّارَ القُبورِ / حِينَ يَغتَصِبُ الصَّدَأُ بَوَّابَةَ المقبرةِ / البَحْرُ سَجَّاني وشَقِيقُ حُزني في المساءِ الغريقِ / وأنا أَسْبَحُ في دِمَائي بِلا طَوْقِ نَجَاةٍ/وأركضُ في الليلِ تَحْتَ الأمطارِ الأخيرةِ كَي أُؤرِّخَ للمَوْتِ/انكَسَرَتْ عُرُوشُ السَّرابِ/ والحَمَامُ الزَّاجِلُ يُفَتِّشُ عَن الرَّسائلِ الغَرَامِيَّةِ / التي كَتَبَهَا الخُلَفَاءُ المَهْزُومُونَ للجَوَاري تَحْتَ ضَوْءِ القَمَرِ / وَفَوْقَ خَشَبَةِ الإعدامِ /

     ضَاعَ وَطَني في مَرْفَأ جَثامينِ البَحَّارةِ / فصارتْ لُغَةُ العصافيرِ وَطَني / انكَسَرَ قَلْبي بَيْنَ فِئرانِ السَّفينةِ وشُيوخِ القبائلِ/ فصارتْ أبجديةُ الرَّحيلِ قَلبي/ضَاعَتْ بلادي/واقْتَلَعَت الرِّياحُ أوتادَ خَيْمتي/ فَصَارَت القصيدةُ بِلادي / التي أعيشُ فِيها / وأمُوتُ فِيها / عِشْ في لُغَتِكَ أيُّها الذِّئبُ المَنْفِيُّ / لَن تَأتِيَ لَيْلَى/ والزَّوابعُ نَكَّسَتْ أعلامَ القبائلِ/ فَلْتَكُنْ أشلاؤُكَ أثاثًا لأحلامِ الطُّفولةِ في قَاعِ المُسْتَنْقَعِ/ الذي تَحْرُثُهُ أشِعَّةُ القَمَرِ / أنا حارسُ المقبرةِ / أدْهَنُ بَوَّابَةَ المقبرةِ بِدَمِي الطازَجِ / كَي أحْمِيَهَا مِنَ الصَّدَأ / سَنَظَلُّ رُومانسِيِّين / ونُوَاصِلُ استخراجَ الجُثَثِ مِن تَحْتِ أنقاضِ قُلُوبِنا / سَنَظَلُّ صادقين / ونَكْذِبُ عَلى حَفَّارِي قُبورِنا / نُعُوشُنا مُزَرْكَشَةٌ / وشَوَاهِدُ قُبُورِنا مُزَخْرَفَةٌ / وجَدائلُ أُمَّهاتِنا تَحْتَ أنقاضِ بُيُوتِنا / أنامُ على سَطْحِ بَيْتي في نَزِيفِ الطُّفولةِ البَعيدِ/ تَحْتَ أشِعَّةِ القَمَرِ الأخيرةِ / وأزرعُ أظافري في جِلْدِ الذِّكرياتِ/ وأُمِّي نَسِيَتْ حَبْلَ الغسيلِ بَيْنَ قَلْبي وقَبْري / وذَهَبَتْ إلى المَوْتِ .