سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] الديانات في القرآن الكريم [16] بحوث في الفكر الإسلامي [17] التناقض في التوراة والإنجيل [18] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [19] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [20] عقائد العرب في الجاهلية[21]فلسفة المعلقات العشر[22] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [23] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [24] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [25]مشكلات الحضارة الأمريكية [26]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[27] سيناميس (الساكنة في عيوني)[28] خواطر في زمن السراب [29] فلسفة المتنبي الشعرية [30] أشباح الميناء المهجور (رواية)[31]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

25‏/10‏/2025

ضياع الشباب بين طرفة بن العبد وجون كيتس

 

ضياع الشباب بين طرفة بن العبد وجون كيتس

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

........................


     يُعْتَبَرُ طَرَفَة بن العَبْد ( تقريبًا 543 م _ 569 م ) مِنْ أبرزِ شُعراءِ الجاهليَّة . عاشَ في بيئةٍ بَدَوِيَّةٍ صَحْراوية قاسية ، تَنْتشر فيها الصِّرَاعاتُ القَبَلِيَّة ، والمَوْتُ مَوجودٌ في كُلِّ لَحظة ، وَلَهُ حُضُورٌ دائم في الوَعْي الجَمْعِيِّ ، والحياة قصيرة ، فانعكسَ هَذا عَلى رُؤيته للحَياةِ والشَّبَابِ . وَهُوَ يَرى أنَّ الشَّباب مَرحلة عابرة لا تَسْتحق التَّقَشُّفَ أو الادِّخار ، وَيَدْعُو إلى استغلالِها في المُتعةِ واللذةِ قَبْلَ أنْ يُداهِم المَوْتُ الإنسانَ، وفي هَذا إشارةٌ إلى نِهايةِ الإنسانِ ، وحَتميةِ المَوْتِ، وضَياعِ الشَّبابِ . لذلك كانتْ نَزْعَتُهُ شَهْوَانِيَّةً لَذائذيَّة ، ورُؤيته العَامَّة عبثية وماديَّة ومُتمردة ، تَدْعُو إلى اغتنامِ المُتعةِ واللذة، لأنَّ الحياةَ قصيرة ، والشَّباب لا يَدُوم ، والمَوْت لا مَفَر مِنْه ، خاصَّةً في ظِلِّ شُعوره بِقِصَرِ عُمْرِه ، حَيْثُ قُتِلَ في رَيْعَانِ شبابه .

     نَظَرَ إلى الشَّبَابِ باعتباره مرحلةً قصيرة ، يَنْبغي أنْ تَقُومَ على الاستمتاعِ والتَّمَرُّد ، وَرَفْضِ الانصياعِ للمُجتمعِ أو القُيودِ الاجتماعية ، فَهِيَ فُرصة وحيدة لِتَذَوُّقِ اللذةِ قَبْلَ الفَنَاءِ السريع الذي يُمثِّله المَوْتُ . وَهُوَ يَرى أنَّ الشَّبابَ ضائعٌ بالضَّرُورة ، فلا جَدوى مِنَ الخَوْفِ ، ولا فائدة مِنَ القَلَقِ ، بَلْ يَجِبُ الانغماسُ في مَلَذَّاتِ الحياة ، وَهُوَ بذلك يُعبِّر عَنْ فَلسفةٍ حَياتية تَمِيلُ إلى العبثِ ، والاحتفالِ بالجسدِ، وتَعظيمِ الغرائز .

     عَبَّرَ عَنْ إحساسِه بالغُربةِ والضَّيَاعِ ، لَيْسَ فَقَط مِنْ خِلالِ تَمجيدِ الماضي وَبُعْدِه عَنْ مُتَنَاوَلِ اليَدِ ، بَلْ أيضًا مِنْ خِلالِ التَّفَكُّرِ في الفَوضى الاجتماعيةِ والسِّياسيةِ التي كانتْ تعيشُها قبيلته .

     عاشَ فَتْرَةَ شَبابِه مُتَأرْجِحًا بَيْنَ الحَياةِ والمَوْتِ ، مُوَاجِهًا مَصيرَ الفَناء ، وَهُوَ مَا يَعكِسه شِعْرُه الذي يَجْمَع بَيْنَ استذكارِ جَمالِ الشَّبابِ والتَّعبيرِ عَنْ فِقْدانِ الأملِ في المُستقبَل ، بسببِ تآكُلِ الأحلامِ وَتَبَدُّدِهَا . هَذا التَّأرْجُحُ بَيْنَ اليأسِ والمُقاوَمةِ يَدُلُّ عَلى فلسفةِ الشاعرِ الوُجودية ، ويُشير إلى صِراعٍ دائم بَيْنَ الرَّغبةِ في البَقَاءِ والتَّحَدِّي والمَصيرِ المَحتوم .

     دارَ الشاعرُ في فَلَكِ المَوْتِ، وَهَذا دَفَعَه إلى الشِّعْرِ في مُحاولةٍ للتَّعبيرِ عَنْ حَياته القصيرةِ المَليئةِ بالصِّراعِ والمُعَاناةِ والألَمِ . وكانَ يَرى أنَّ المَوْتَ لا يأتي إلا بعد أنْ يَصِلَ الإنسانُ إلى ذُرْوَةِ شبابِه وأحلامِه . وَقَدْ أظْهَرَ حَسْرَةً مَريرةً عَلى ضَياعِ الشَّبابِ ، وَعَدَمِ التَّمَتُّعِ بِه ، وكأنَّ العُمْرَ انتهى قَبْلَ أنْ تَبدأ الفُرَصُ الحقيقية . كَما أظْهَرَ حُزْنًا شديدًا على الزَّمانِ الذي مَضَى سريعًا دُون أنْ يَتْرُكَ لَهُ الفُرصةَ للاستفادةِ مِنْ طَاقته وحَيويته . بَلْ وَيَظْهَر في شِعْرِه استشرافُه للمَوْتِ المُبَكِّر ، وَهُوَ مَا يَتَمَاهَى مَعَ حَياته القصيرةِ التي انتهتْ بالقتلِ .

     وَيُعْتَبَرُ جون كيتس ( 1795 م _ 1821 م ) مِنْ أبرزِ شُعَراءِ الحركةِ الرومانتيكية الإنجليزية. كانَ مَهْوُوسًا بالجَمالِ والزَّمَنِ والفَنَاءِ، وَمَعروفًا بِحِدِّةِ تأمُّلِهِ في ضَياعِ الشَّبابِ والمَوْتِ المُبكِّر. وَقَدْ تُوُفِّيَ شابًّا بِمَرَضِ السُّلِّ ، وَلَمْ يَحْظَ في حَياته إلا بالتجاهلِ والاحتقارِ مِنْ قِبَلِ النُّقَّادِ والشُّعَراءِ ، وعاشَ مُعَذَّبًا بَيْنَ المَرَضِ والنَّقْدِ .

     كانَ يَرى أنَّ الشَّبابَ ضَحِيَّةُ الزَّمَن ، وأنَّ الجَمَالَ هَشٌّ وعَابِرٌ ، لكنَّه لا يَدعو إلى المُتعةِ الجسدية بِقَدْرِ مَا يَحْتفي بالجَمَالِ الفَنِّي الخالد . وَرُؤيته العَامَّة ذات طبيعة فلسفية ومِثالية ، تَعكِس حُزْنًا عميقًا ، وتأمُّلًا في مَعنى الحَياةِ ، لكنَّها تَسعى إلى الخُلودِ مِنْ خِلالِ الفَنِّ لا المُتعةِ .

     اعتمدَ أُسلوبًا رمزيًّا مُعَقَّدًا ، وَلُغَةً مُوسيقية رقيقة تَعِجُّ بالصُّوَرِ الفَنِّيةِ الرَّمزيةِ والمَجَازِ ، وغالبًا مَا يَسْتدعي عَناصر مِنَ الطبيعةِ والفَنِّ ، وَيَسْتَلْهِم مِنَ الأساطير ، وَيَجْعَل مِنَ الطائرِ أو المَزهريةِ أو الرَّبيع رُموزًا للشَّبابِ العابرِ ، أو الخُلودِ المَنشود . وَقَدْ عَبَّرَ في شِعْرِه عَنْ رَغْبته في الهُروبِ مِنَ الواقعِ عَبْرَ الجَمال ، لأنَّه يُدرِك أنَّ شبابَه وَصِحَّتَه في طَريقهما إلى الزَّوال .

     والشَّبَابُ عِندَه لَيْسَ وَقْتًا للمُتعةِ العابرة ، بَلْ لَحْظة سريعة مِنَ الجَمالِ الباهرِ، يَطْمَح إلى تَخليده عَبْرَ الشِّعْرِ ، لأنَّه يَعْلَم أنَّه لَنْ يَبقى طويلًا لِيَعيشَ هَذا الجَمَالَ بِنَفْسِه ، وَلَنْ يعيشَ طويلًا لِيَشْهَدَ تَحَوُّلاتِ الزَّمَن. لذلك كانَ يُركِّز على التأمُّلِ في الجَمَالِ والفَنَاءِ كَأمْرَيْن مُتَرَابِطَيْن ، فالشَّبابُ بالنِّسْبَةِ إلَيْه هَدِيَّةٌ مُؤقَّتة ، مِثْل لَحْظَةِ جَمَالٍ في لَوْحَةٍ فَنِّية .

     عَبَّرَ عَنْ رُؤيته للأشياءِ العظيمةِ التي تَحْدُث في الحَياة ، وأيْقَنَ أنَّ وَراءَ كُلِّ شَيْءٍ عظيمٍ هُناك الفَنَاء الذي يَنتظر الجميعَ . وَرَأى في مَوْتِ الشَّبابِ جُزْءًا مِنْ دَوْرَةِ الحَياة . وكانَ يَحْزَنُ على ضَياعِ الفُرَصِ ، وَعَلى فَترةِ الشَّبابِ التي غالبًا مَا تَمُرُّ سريعًا دُون أنْ يُحقِّق الإنسانُ كُلَّ مَا يَرْغُب بِه .

     وَمَفهومُ " ضَيَاع الشَّباب " يَظْهَر عادةً في سِياقِ الحُزْنِ عَلى مُرور وَقْتٍ لا يَعُود ، والتأمُّلِ في تِلْك الفَترةِ الذهبية التي تَتَّسِمُ بالحَيَويةِ والطُّموحِ ، ثُمَّ التلاشي السريع لِهَذه الفَترةِ بَعْدَ مُلاقاةِ الإنسانِ للصُّعوباتِ والمَآسِي. وهَذا المَفهومُ لا يَرتبط بِمُرورِ الزَّمنِ فَحَسْب، بَلْ أيضًا يَرتبط بِمَشاعرِ الخَيْبَةِ والنَّدَمِ بسببِ عَدَمِ القُدرةِ على الاستفادةِ الكاملةِ مِنْ هَذه المَرحلة .

     رَغْمَ التَّبَايُنِ الزَّمَنيِّ والثَّقَافيِّ بَيْنَ طَرَفَة بن العَبْد وجون كيتس ، فإنَّهما يَتشاركان الشُّعورَ العميقَ بِضَياعِ الشَّبابِ . كُلٌّ مِنْ زاويته . طَرَفَة يُواجهه باللذةِ ، والتَّمَرُّدِ ، والانغماسِ في المُتعةِ الجسدية ، بَيْنَما يَتأمَّله كيتس بالحُزْنِ ، والألَمِ ، والبحثِ عَن الخُلودِ الفَنِّي ، وتَخليدِ اللحظةِ الجَمَالِيَّة . وَمِنْ خِلالِ شِعْرِهما ، يَتَّضِح أنَّ الشُّعورَ بِضَياعِ الشَّبابِ وَفَنَائِهِ قَضِيَّةٌ إنسانيَّة تَتجاوز الزَّمَانَ والمكان . والجَديرُ بالذِّكْرِ أنَّ الشَّاعِرَيْن تُوُفِّيَا وَلَمْ يَبْلُغَا سِنَّ السادسةِ والعِشرين مِنَ العُمْر .

18‏/10‏/2025

فلسفة الحرب بين المتنبي وهوميروس

 

فلسفة الحرب بين المتنبي وهوميروس

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.......................

     يُعْتَبَرُ المُتَنَبِّي ( 303 ه _ 354 ه / 915 م _ 965 م ) أعظمَ شُعَراءِ اللغةِ العربيةِ على الإطلاق . تَدُورُ مُعْظَمُ قَصائدِه حَوْلَ نَفْسِه ومَدْحِ المُلوكِ،وأفضلُ شِعْرِه في الحِكمةِ وَفَلسفةِ الحَياةِ وَوَصْفِ المَعاركِ والحُروبِ . لَمْ يَصِف الحَرْبَ كَحَدَثٍ دَمَوِيٍّ فَحَسْب ، بَلْ جَعَلَها مِرْآةً للمَجدِ والبُطولةِ والكَرامةِ ، وَصَوَّرَهَا بِعَيْنِ الفارسِ الذي يَرى في المَعركةِ مَيدانَ الاختبارِ والخُلودِ . وَرَغْمَ تَمجيدِه للحربِ ، لَمْ يَكُنْ غافلًا عَنْ قَسوتها ، فَهُوَ يُدْرِكُ آلامَها ، لكنَّه يَرى فِيها قَدَرًا لا مَفَرَّ مِنْهُ لِمَنْ طَلَبَ العُلا ، فالمَجدُ لا يُنالُ إلا بالتَّضحية ، ولا يُصَانُ إلا بالقُوَّةِ .

     والحَرْبُ في شِعْرِهِ لَيْسَتْ صِرَاعًا بَيْنَ الجُيوشِ فَحَسْب ، بَلْ هِيَ أيضًا رَمْزٌ للحَياةِ التي لا تَسْتَحِقُّ أنْ تُعاش مِنْ غَيْرِ مَجْدٍ أوْ شجاعة، وَهِيَ التي تَكْشِفُ حَقيقةَ الرِّجالِ، وَتُظْهِرُ طَبيعةَ البَشَرِ، وتُميِّز الأبطالَ مِنَ الجُبَناءِ ، فالشَّريفُ يَزداد شَرَفًا ، والوَضِيعُ يَظْهَرُ جُبْنُه وخِيانته ، وَهِيَ الطريقُ إلى المَجْدِ الذي لا يُنال بالرَّاحةِ أو التَمَنِّي ، وَهِيَ امتحانُ الإرادةِ الإنسانيَّة . لذلك كانت الحربُ في نَظَرِه مِيزانًا أخلاقيًّا يَكْشِفُ مَعَادِنَ الناسِ .

     حَوَّلَ ساحةَ المَعركةِ إلى لَوْحَةٍ حَيَّة ، تَضِجُّ بالحركةِ والأصواتِ والألوانِ ، فالسُّيوفُ عِندَه تَلْمَعُ كالبُروقِ، والخُيولُ تُزَمْجِرُ كالعواصفِ ، والدِّماءُ تُزْهِرُ كالوَرْدِ في الرِّمالِ ، والغُبارُ يَلُفُّ الأُفُقَ كالغَيْمِ المُشتعِل. إنَّه يَصِفُ المَشْهَدَ وَيُجسِّده ، حَتَّى يَسْمَعَ القارئُ صَوْتَ الحَديدِ ، وَيَرى لَمَعَانَ الدُّرُوع .

     والبَطَلُ في شِعْرِهِ هُوَ مَزِيجٌ مِنَ الإنسانِ والأُسطورةِ ، وَهُوَ يُقَاتِلُ لِيَنْتصر ، وَيُقيم عَدْلًا ، وَيَصْنع اسْمًا ، وَيَتَحَدَّى الظُّروفَ . والبُطولةُ الحقيقيةُ هِيَ مُواجهةُ المَوْتِ بابتسامةِ الكِبْرياءِ ، لذلكَ كثيرًا مَا يَرْبِطُ بَيْنَ الشَّجاعةِ والعِزَّةِ والعَقْلِ والدَّهَاء .

     وَخَلْفَ أوصافِ الدِّمَاءِ والسُّيوفِ ، تَكْمُنُ رُؤية فلسفية عميقة ، فالحَرْبُ لَيْسَتْ عَبَثًا ، بَلْ وسيلة لإثباتِ الذات ، والنَّصْرُ الحقيقيُّ هُوَ نَصْرُ الرُّوحِ والإرادةِ ، وَمَنْ لَمْ يُغَامِرْ ، ماتَ صغيرًا ، حتى لَوْ عاشَ طويلًا . وَهُوَ يَرى أنَّ المَجْدَ الحقيقيَّ لا يُنال إلا عَبْر الخطرِ والمُغامرةِ ، خُصوصًا في مَيادينِ القِتالِ ، فَمَنْ يَطْلُب السَّلامةَ يعيشُ بِلا أثَرٍ ، أمَّا مَنْ يَخُوض الحربَ بِكَرامةٍ فَيُخَلَّد اسْمُهُ في التاريخ . والحربُ عِندَه وسيلة لتحقيقِ الخُلودِ الرَّمزيِّ ، لا مُجرَّد نَصْر مادي .

     نَظَرَ إلى الحَرْبِ عَلى أنَّها صُورة مُكثَّفة للصِّراعِ الدَّائمِ في الحَياةِ ، بَيْنَ القُوَّةِ والضَّعْفِ، الطُّمُوح واليأس ، المَجْد والدُّونِيَّة . وكُلُّ إنسان في فَلسفته مُحَارِبٌ ، سَوَاءٌ في سَاحةِ القِتال ، أوْ في مَعاركِ الحَياةِ اليَوْمِيَّة .

     وَيُعْتَبَرُ هوميروس ( القرن التاسع قبل المِيلاد ) أعظمَ شاعر في الأدب اليونانيِّ القديم ، وَهُوَ الشاعر المَنسوب إلَيْه تأليف مَلْحَمَتَي الإلياذة والأُودِيسَّة ، اللَّتَيْن تُعْتَبَرَان مِنْ أهَمِّ الأعمالِ الأدبية في الحَضارةِ الغَربية. وعلى الرَّغْمِ مِنْ مَكانته الأدبية ، فإنَّ تفاصيلَ حَياته الحقيقية غامضة .

     قَدَّمَ وَصْفًا واقعيًّا وشاملًا للحربِ، بما في ذلك تفاصيل المَعاركِ والأسلحةِ، وَصَوَّرَ الحَرْبَ بطريقةٍ مَلْحَمِيَّة، تَجْمَعُ بَيْنَ البُطولةِ والمَأساةِ ، مُركِّزًا على الأبطالِ وتَضحياتِهم ، فَهِيَ المَيْدَان الذي يُخْتَبَر فيه الشَّرَفُ والبُطولة ، وَهِيَ لَيْسَتْ صِراعًا دَمَوِيًّا فَحَسْب ، بَلْ هِيَ أيضًا مَسْرَحٌ يُظْهِرُ فيهِ الأبطالُ قِيَمًا مِثْل: الشَّجَاعة والإقدام ( كما في شخصية أَخِيل )، والوَلاء للوطنِ والرِّفَاقِ ( كما في هيكتور المُدافِع عَنْ طُروادة ) ، والسَّعْي نَحْو المجدِ الخالد الذي يَتجاوز المَوْتَ .

     وَرَغْمَ الطابَعِ البُطوليِّ ، يُظْهِرُ فَظاعةَ الحَرْبِ ، وَيَصِفُ الدِّمَاءَ والجِرَاحَ وَصَرَخَاتِ المَوْتِ بتفاصيل حَيَّة وَمُؤلِمة ، وَيُبيِّن حُزْنَ الأُمَّهَاتِ والزَّوجاتِ ، وَبُكَاءَ الأحِبَّةِ على القَتْلَى . فالحربُ تَجْلِبُ الدَّمَارَ للمُدُنِ والأُسَرِ ، وتَتْرُك خَلْفَها الألَمَ ، حَتَّى عِندَ المُنتصِرين . وهَكذا ، تَبدو الحربُ عِندَه ضَروريةً لكنَّها مأساويَّة ، فَهِيَ تُنْتِجُ البُطولةَ، لكنَّها أيضًا تَلْتهم الأبطالَ .

     والحربُ لَيْسَتْ فَقَط صِرَاعًا بشريًّا ، بَلْ أيضًا ساحة لِتَدَخُّلِ الآلهةِ والقَدَرِ ، فالآلهةُ تَتَدَخَّلُ لدعمِ هَذا الطرفِ أوْ ذلك ، مِمَّا يَجْعل مَصيرَ الحربِ قَدَرًا مَحتومًا أكثرَ مِنْهُ نَتيجة لاختياراتِ البشر . ومعَ ذلك ، يَبْقى لِكُلِّ بطلٍ حُرِّية التَّصَرُّفِ ضِمْنَ حُدودِ هَذا القَدَرِ ، مِمَّا يُضْفي بُعْدًا فلسفيًّا وَدِينيًّا وأُسطوريًّا على مَفهومِ الحربِ.

     وَهُوَ يَتَمَيَّزُ بأُسلوبٍ تَصويري رائع، حَيْثُ يَسْتخدم التَّشبيهاتِ المَلْحَمِيَّة ، فَيُشَبِّه المُقاتِلين بالعَواصفِ ، أو الحَيَوَاناتِ المُفترِسة، وَيُدْخِل إيقاعًا شِعريًّا يَجْعل المَعاركَ كأنَّهَا لَوْحَات مُتحركة مَليئة بالحركةِ والضَّوْءِ والصَّوْتِ، وَيُصوِّرها بشكلٍ دَقيق ومُفصَّل، بَدْءًا مِنْ تَجهيزِ الجُيوشِ ، والقِتالِ الفَرديِّ بَيْنَ الأبطالِ ، وحتى سُقوط القتلى وَجُثَثِهم ، والوصفُ يُعْطِي إحساسًا بالواقعيَّةِ والحُضُور .

     والحربُ عِندَه لَيْسَتْ شَرًّا مُطْلَقًا ولا مَجْدًا خَالِصًا ، بَلْ تَجْرِبَة إنسانيَّة كاملة تَجْمَع بَيْنَ العَظَمَةِ والرُّعْبِ، البُطولة والفَناء ، المَجْد والحُزْن . وَهِيَ تَعْبيرٌ عَن طبيعةِ الإنسانِ نَفْسِه: عظيم في شجاعته، وضعيف أمامَ قَدَرِه. وهُناك قواعد ضِمْن الحَرْبِ تَتَعَلَّقُ بِمُعاملةِ الأسرى وكَرامةِ الخَصْمِ، مِثْل احترامِ الجُثَثِ ، وَعَدَمِ السُّخرية مِنْها ، مِمَّا يُشير إلى مَفهومٍ بِدائي للعدالةِ والإنسانيَّةِ في أوقاتِ الصِّراعِ .

     وإذا كانَ المُتَنَبِّي يُركِّز عَلى الفردِ والبُطولةِ الشَّخصيةِ في الحربِ ، معَ استخدام لُغَةٍ شِعرية مُركَّزة وَشَفَّافة ، فإنَّ هوميروس يَضَعُ الحربَ في إطارِ سَرْدٍ مَلْحَمِيٍّ شاملٍ يَجْمَع بَيْنَ الأبطالِ ، والآلهةِ ، والمَآسِي الجَمَاعِيَّة .

11‏/10‏/2025

وصف الطبيعة بين أحمد شوقي وروبرت فروست

 

وصف الطبيعة بين أحمد شوقي وروبرت فروست

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

................

     يُعْتَبَرُ الشاعرُ المِصْري أحمد شوقي ( 1868 _ 1932 ) أشهرَ شُعراءِ اللغةِ العربية في العَصْرِ الحديثِ. لُقِّبَ بـِ أمير الشُّعراء .

     حَرَصَ على وَصْفِ الطبيعةِ في أشعارِه ، وإظهارِ الجَمَالِ الرُّوحِيِّ والإلهيِّ ، وَحَثَّ على التَّأمُّلِ في إبداعِ الخالقِ،وَضَرورةِ التَّفَكُّرِ في رَوائعِ الآياتِ والآثارِ في لَوْحَاتِ الوُجودِ الجميلةِ، والمناظرِ الخَلَّابة . وفي قَصَائِدِه، تَتَجَسَّدُ الطبيعةُ كَبَحْرٍ واسعٍ مِنَ الجَمَالِ والجَلالِ والكَمَالِ والبَهَاءِ .

     وقَدْ صَوَّرَ الطبيعةَ تَصويرًا فَنِّيًّا بديعًا بأُسلوبٍ حِسِّي ، يَدُلُّ عَلى الحَياةِ والحَيَوِيَّة ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ وَصْفُهُ للطبيعةِ عَلى المَشَاهِدِ الكُبرى ، بَلْ تَطَرَّقَ إلى التفاصيلِ الدَّقيقةِ ، والجَوانبِ العميقة ، وحاولَ اكتشافَ الرُّوحِ الإنسانيَّةِ في الطبيعةِ ، والتَّغَنِّي بِجَمَالِها ، وتَجَلِّيها كَفَنٍّ بَصَرِيٍّ ، كما أنَّه مَنَحَ الطبيعةَ نَفَسًا ، وَشَخَّصَهَا إنسانيًّا ولُغَوِيًّا ، وَجَعَلَ مِنْها مِرْآةً تَعْكِسُ الجَمَالَ والصَّفَاءَ والرَّمْزَ للحَيَاةِ والخُلودِ . أي إنَّهُ كانَ يَمِيلُ إلى تَجسيدِ الطبيعةِ وَتَشخيصِها ، فَيَجْعلها تَتَكَلَّمُ ، وَتُغنِّي ، وَتَحْزَن ، وَتَفْرَح ، وبذلك يَكُون قَدْ مَنَحَهَا رُوحًا إنسانيَّة .

     تَعَامَلَ معَ الطبيعةِ باعتبارِها لَوْحَةً فَنِّيةً نابضةً بالحَياة ، وَعَالَمًا مِنَ الجَمَالِ المُتَنَاسِقِ ، وَوَصَفَ الأزهارَ والأنهارَ والطُّيورَ والنُّجومَ بألفاظٍ مُوسيقية ، وألوانٍ زاهية ، تَجْعَل القارئَ كأنَّه يُشَاهِد المَشْهَدَ أمامَه . وَهَذا الوَصْفُ يَجْمَعُ بَيْنَ دِقَّةِ الرَّسَّامِ وَوِجْدَانِ الشاعرِ .

     والطبيعةُ مَصْدَرُ إلهامٍ وَحِكْمَةٍ ، تُعلِّم الإنسانَ ، وَتَبُثُّ فِيهِ دُروسَ الصَّبْرِ والتَّجَدُّدِ والنِّظَامِ ، ولا يَنْبغي الاكتفاء بِجَمالِ الطبيعةِ الخارجيِّ ، بَلْ يَجِبُ استخراجُ العِبَرِ مِنْهَا . فَنُضُوجُ الثِّمارِ تُعلِّم مَعْنى الصَّبْرِ ، وَدَوْرَةُ الحَياةِ تُعْطي دَرْسًا في الأملِ والخُلودِ ، وانتظامُ الفُصولِ يُوضِّح مَعْنى النِّظَامِ .

      كَمَا يُسْتَخْلَصُ مِنَ الطبيعةِ القِيَمُ الأخلاقيةُ والرُّوحية ، وَهِيَ مَلْجَأ رُوحيٌّ ، يَلْجَأ إلَيْهِ الإنسانُ لِيَسْتَمِدَّ مِنْه الطُّمَأنينة. والطبيعةُ رَمْزٌ للوطنِ والحَياةِ ، وكثيرًا مَا اسْتَخْدَمَ عَناصرَ الطبيعةِ رَمْزًا لِوَطَنِهِ مِصْر،أوْ للتَّعبيرِ عَنْ حَنينِه إلَيْهَا في مَنْفَاه بالأنْدَلُسِ، فالنِّيلُ عِنْدَه لَيْسَ مُجَرَّد نَهْر ، بَلْ رُوح الأُمَّة ، والشَّمْسُ رَمْزُ الأملِ والنَّهضةِ . وَتَفَتُّحُ الأزهارِ دَلالةٌ عَلى التَّجَدُّدِ ، وَتَغْرِيدُ الطُّيورِ مُوسيقى الفَرَحِ .

     وَوَصْفُهُ للطبيعةِ يَمْتاز بِعُذوبةِ الإيقاعِ وَغِنى الصُّوَرِ ، مِمَّا يَعْكِسُ تَأثُّرَه بالشِّعْرِ العربيِّ القديمِ معَ تَجْديدٍ في الأُسلوبِ والمَضمونِ. كما أنَّ وَصْفَه للطبيعةِ قائمٌ عَلى الشَّاعِرية الفَنِّية التي تَجْمَعُ بَيْنَ الخَيَالِ والمُوسيقى والعاطفةِ ، وهَكذا أصبحت الطبيعةُ كائنًا حَيًّا يُشَارِكُ الإنسانَ مَشاعرَه وأحلامَه .

     وَيُعْتَبَرُ الشاعرُ الأمريكيُّ روبرت فروست ( 1874 _ 1963 ) واحدًا مِنْ أهَمِّ شُعَراءِ اللغةِ الإنجليزية . اشْتُهِرَ بِتَصويرِه الواقعيِّ للحَياةِ الرِّيفية ، وَوَصْفِ مَناظرِ الطبيعةِ في الأماكنِ التي عاشَ فيها .

     وَصَفَ الطبيعةَ باعتبارِها انعكاسًا للحالةِ الإنسانيَّة ، وَلَيْسَتْ مُجرَّد خَلْفية جميلة ، واستخدمَ عَناصرَ الطبيعةِ مِثْلَ الثلجِ والأشجارِ والغاباتِ للتَّعبيرِ عَنْ مَوضوعاتِ تَتَعَلَّقُ بالعُزلةِ ، والحُزْنِ ، والتفاؤلِ، والتناقضاتِ في التَّجْرِبَةِ البشرية. وَرَبَطَ العَالَمَ الطبيعيَّ بالرُّوحِيَّةِ مِنْ خِلالِ الصُّوَرِ الرَّمزية .

     لَمْ يَرَ في الطبيعةِ مُجرَّد مَصْدَرٍ للجَمَالِ والسَّكِينةِ ، بَلْ جَعَلَهَا مِرْآةً تَعْكِسُ صِراعاتِ الإنسانِ الداخليَّة ، ومَعَاني الحَياةِ والمَوْتِ ، والعَلاقةَ بَيْنَ الإنسانِ والعَالَمِ . والطبيعةُ في شِعْرِهِ لَيْسَتْ هُروبًا مِنَ الواقعِ ، بَلْ وسيلة لِفَهْمِه .

     وَقَدْ تَمَيَّزَ عَن الشُّعَراءِ الرُّومانسيين بأنَّه لَمْ يَنْظُرْ إلى الطبيعةِ نَظْرَةً حالمةً أوْ مِثالية ، بَلْ كانَ يَرَاها جُزْءًا مِنَ الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ في الرِّيفِ الأمريكيِّ ، وَمِرْآةً للنَّفْسِ الإنسانية .

     وَتَتَغَيَّرُ صُورةُ الطبيعةِ في شِعْرِه بِحَسَبِ الحالةِ النَّفْسِيَّةِ للمُتَكَلِّمِ ، فإذا كانَ في صَفَاءٍ وطُمَأنينة ، بَدَت الطبيعةُ هادئةً مُضيئةً . وإذا شَعَرَ بالحَيْرَةِ أو الوَحْدةِ ، ظَهَرَت الطبيعةُ غامضةً أوْ قاسية ، وهَذا يَعْني أنَّ الطبيعة عِنده انعكاسٌ لحالةِ الإنسانِ النَّفْسِيَّة ، وَلَيْسَتْ مُجرَّد ديكور خارجي .

     والطبيعةُ رَمْزٌ للصِّراعِ والتَّحَدِّي ، وَهِيَ لَيْسَتْ دَوْمًا رحيمةً أوْ لطيفة ، فَهِيَ قَدْ تَكُون قاسيةً ، وجامدةً، وغَيْرَ مُكْتَرِثَةٍ بِمُعاناةِ الإنسانِ . فالثُّلوجُ تُغطِّي الأرضَ بِلا رحمة ، والغاباتُ يُمْكِنُ أنْ تُضِلَّ الإنسانَ عَنْ طريقه ، والليلُ في الرِّيفِ مُظْلِمٌ وَمُخِيف . وَمِنْ خِلال هذه الصُّوَرِ ، يُظْهِرُ صِراعَ الإنسانِ معَ قُوى الطبيعةِ والحياةِ ، في مُحاولة لفهمِ مَكَانِه في هَذا الكَوْنِ الواسع .

     وَيَظْهَرُ البُعْدُ الفلسفيُّ في وَصْفِ الطبيعةِ ، وَمِنْ خِلالِها تَتَّضِح قضايا إنسانيَّة كُبرى ، مِثْل : الحُرِّية والمسؤولية ، والاختيار والمصير ، والوَحْدة والمَوْت ، ومَعْنى الحياة .

     وَلُغَتُهُ في وَصْفِ الطبيعةِ بسيطةٌ ، وَسَلِسَة ، وقريبة مِنْ حَديثِ الناسِ في الرِّيفِ ، لكنَّها تُخْفي وَراءَها عُمْقًا فِكريًّا وإنسانيًّا كبيرًا . فَهُوَ يَجْمَعُ بَيْنَ الوُضوحِ في الصُّورةِ ، والغُموضِ في المَعْنى ، مِمَّا يَجْعَل قصائدَه تَبْدُو سَهلةً ظاهريًّا ، لكنَّها تَحْمِلُ أبعادًا رمزية وفلسفية عميقة .

إنَّ الطبيعة عَالَمٌ يَعْكِسُ عَلاقةَ الإنسانِ بالواقعِ والحَياةِ والمصير ، وَهِيَ مَزِيجٌ مِنَ الجَمَالِ والقَسْوَةِ ، والصَّفَاءِ والغُموضِ ، والسُّكونِ والحركة . وَمِنْ خِلالِ وَصْفِهِ للطبيعة ، استطاعَ أنْ يُصَوِّرَ الإنسانَ الحديث في بَحْثِهِ الدائم عَن المَعْنى واليقين في عَالَمٍ مُتغيِّر وغامض . وَقَدْ جَعَلَ مِنَ الطبيعةِ لُغَةً للفلسفةِ والإنسانيةِ مَعًا .

03‏/10‏/2025

إسهامات فلاسفة الغرب في علم المنطق

 

إسهامات فلاسفة الغرب في علم المنطق

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.....................


عِلْمُ المَنْطِقِ هُوَ عِلْمٌ يَبْحَثُ في القواعدِ والأُسُسِ التي تُنظِّم التفكيرَ الصحيح ، وتُميِّز بَيْنَ الاستدلالِ السليمِ والاستدلالِ الخاطئ . وَهَذا العِلْمُ آلةٌ قانونية تَحْمِي الذِّهْنَ مِنَ الخَطأ في الفِكْرِ .

يُعْتَبَرُ الفَيلسوفُ اليوناني أَرِسْطُو طاليس ( 384 ق. م _ 322 ق.م ) مُؤسِّسَ عِلْمِ المَنْطِقِ . وَهُوَ أوَّلُ فَيلسوف قامَ بتحليل العملية التي بِمُوجِبها يُمْكِن مَنطقيًّا استنتاج أنَّ أيَّة قضية مِنَ المُمْكِن أن تكون صحيحة استنادًا إلى صِحَّة قضايا أُخْرَى ، وقد كان اعتقادُه أنَّ عملية الاستدلال المَنطقي تَقُوم عَلى أساس شكل من أشكال البُرهان سَمَّاه القِياس . وفي حالة القِياس ، يُمْكِن البَرْهَنَة أو الاستدلال مَنطقيًّا على صِحَّةِ قضية مُعيَّنة ، إذا كانت هُناك قَضِيَّتَان أُخْرَيَان صحيحتان .

والفَيلسوفُ الإيطالي توما الأكويني ( 1225 _ 1274 ) تَمَسَّكَ بِمَنْطِقِ أَرِسْطُو ، واتَّخَذَ مِنَ المَنهجِ الأَرِسْطِيِّ أساسًا لأبحاثِه ، فَبَدَأ أوَّلًا بِتَحديدِ المُشكلة ، ثُمَّ حَصْر أوْجُهِ الخِلاف فِيها ، باستعراض شَتَّى المُشكلات والشُّكوك التي تُثَار حَوْلَها ، والعمل على الإجابة عنها بالأدلة المَنْطِقِيَّة المُقْنِعَة . وكانَ دَوْرُهُ مُهِمًّا مِنْ ناحيةِ الشَّرْحِ والدَّمْجِ بَيْنَ الفلسفةِ الأَرِسْطِيَّةِ والعَقيدةِ المَسِيحِيَّةِ .

والفَيلسوفُ الألماني جوتلوب فريجه ( 1848_ 1925 ) يُعَدُّ أشهرَ مَن اهْتَمَّ بالفلسفةِ التَّحليليةِ ، وَمَنْطِقِ الرِّياضياتِ الحديثة . وَهُوَ أحَدُ مُؤسِّسي المَنْطِقِ الحديث ، وأحد أكبر فلاسفة المَنْطِقِ بَعْدَ أَرِسْطُو . وقد ابتكرَ فريجه لُغةً اصطناعية بواسطة الرموز المَنْطِقِيَّة ، وساهمَ في تطوير جُزْء كبير من أبحاث المَنْطِقِ الرِّياضي ، وكانَ مِنْ دُعَاةِ مَا يُعْرَف بالمَذهَبِ المَنْطِقِيِّ ، وَهُوَ اتِّجاه يَدْعُو إلى رَدِّ التَّصَوُّراتِ الرِّياضيَّة الأساسيَّة إلى تَصَوُّرَاتٍ مَنْطِقِيَّة خالصة .

والفَيلسوفُ الألماني إدموند هُوسِّرل ( 1859_ 1938 ) طَوَّرَ عِلْمَ المَنْطِقِ ، وساهمَ في كَشْفِ الجَوانبِ المَعْرفيةِ والفَلسفيةِ للمَنْطِقِ . وَنَفَى أنْ تَكُون العَلاقاتُ المَنْطِقِيَّةُ خاضعةً للتأثيراتِ النَّفْسِيَّة ، واعتبرَ العَلاقاتِ المَنْطِقِيَّة تَنْتمي إلى عَالَمٍ خاص ( المَاهِيَّات ) المُستقلة عَن العَقْلِ البَشَرِيِّ . وهذه المَاهِيَّاتُ بِمَثابةِ حقائق ثابتة تَجْعَل الأفرادَ يَتَّفقون حَوْلَها ، فَيُصْدِرُون أحكامَهم وقَرَاراتهم .

والفَيلسوفُ الإنجليزي ألفريد نورث وايتهيد ( 1861_ 1947 ) ساعدَ في نقلِ المَنْطِقِ مِنْ كَوْنِهِ فَرْعًا فَلسفيًّا إلى عِلْمٍ دقيق قائم على الرُّموز والقواعد ، مِثْل عِلْم الجَبْر ، وَساهمَ في بِناءِ الرِّياضيات انطلاقًا مِنْ مَبادئ مَنْطِقِيَّة بَحْتَة ، وَتَوحيدِ المَنْطِقِ والرِّياضياتِ في نِظامٍ واحد قائم على الرُّموزِ والقواعدِ الدقيقة ، مِمَّا أدَّى إلى تأسيسِ المَنْطِقِ الرَّمزي .

والفَيلسوفُ الإنجليزي بِرتراند راسل ( 1872_ 1970 ) قَدَّمَ أعظمَ إسهاماته للفلسفة والرياضيات في مَطْلَعِ القَرْنِ العِشرين ، وأرادَ أنْ يَسْتمد جميعَ الرِّياضيات مِنَ المَنْطِق ، وبذلك أرساها على أساسٍ متين ، وسعى إلى إظهار أنَّ جميع الرياضيات البَحْتَة تَتَوَالَد مِنْ مُسلَّمات مَنطقية تمامًا ، وأنَّها لا تَسْتخدم سِوى المَفاهيم التي يُمْكِن تعريفها بِمُصطلحات مَنطقية بَحْتَة . وَرَغْمَ أنَّ أفكاره نُقِّحَتْ وطُوِّرَتْ على أيدي علماء الرياضيات مِنْ بَعْدِه ، إلا أنَّ أفكاره كانتْ المُنْطَلَقَ لكثير من الإنجازات الحديثة في عِلْمِ المَنْطِقِ وقَواعدِ الرِّياضيات .

والفَيلسوفُ الألماني موريس شليك ( 1882 _ 1936 ) هُوَ مُؤسِّس الوَضْعِيَّةِ المَنْطِقِيَّة ، وَتُعْرَف أيضًا بالتَّجْريبية الوَضْعانية أو الوَضْعانية الجديدة ، وهي حركة فلسفية ظهرتْ في النمسا وألمانيا في العَقْد الثاني مِنَ القرن العِشرين. وَتُعنَى هذه الحركة الفلسفية بالتحليل المنطقي للمعرفة العِلْمِيَّة ، حيث تُؤكِّد أن المقولات المِيتافيزيقيَّة، أو الدِّينيَّة، أو القِيَمِيَّة، فارغة من أي معنى إدراكي، بالتالي، لا تَعْدُو عن كَوْنها تعبيرًا عن مشاعر أوْ رَغَبَات . وَوَحْدَها المَقُولات الرِّياضية المنطقية والطبيعية هي ذات معنى مُحَدَّد. ومِنْ وِجْهَةِ نَظَرِ الوَضْعِيَّة المَنْطِقِيَّة ، فإنَّ كُلَّ المَقولات ذات المَعْنى يُمْكِن تقسيمُها إلى صِنْفَيْن: الأول _ يَتَضَمَّن مَقولات قد تكون صحيحة أو خاطئة اعتمادًا على أشكالها المَنْطقية أوْ مَعْناها ( تُسمَّى هذه المَقولات تَحْلِيلِيَّة قَبْلِيَّة )، والثاني _ يَتَضَمَّن مَقولات يُمْكِن التَّحَقُّق مِنْ صِحَّتها أوْ خَطَئِها فقط مِنْ خِلال التَّجْرِبَة ( تُسمَّى تَركيبية بَعْدِيَّة ) .

والفَيلسوفُ النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين ( 1889_ 1951 ) حَصَرَ وظيفةَ الفلسفة في تحليل اللغة فقط، ورأى أنَّ اللغة تَخْضَع لِجُملة مِن القواعد المنطقية ، وأنَّ اللغة إذا صِيغَتْ بنظام منطقي كامل، فَمِنَ المُمْكِنِ تَجَنُّبُ الوُقوعِ في غُموضِ التَّعبيرِ والخَلْطِ والإبهامِ ، وأنَّ مشكلة الفلسفة ناتجة عن سُوء فهم مَنْطِق اللغة . وَاعْتَبَرَ أنَّ المَنْطِقَ يُفْهَمُ باعتباره البُنْيَة المُشتركة بَيْنَ اللغةِ والعَالَمِ ، وأنَّ العَالَمَ يَتَكَوَّن مِنْ وقائع ، وَلَيْسَ أشياء، وهذه الوقائعُ يُمْكِن تحليلُها مَنْطِقِيًّا ، وبشكلٍ عام ، إنَّ تحليلَ اللغةِ والمَنْطِقِ يَتِمُّ مِنْ خِلال البُنْيَةِ المَنطقيةِ للعَالَمِ .

والفَيلسوفُ الألماني رودولف كارناب ( 1891_ 1970 ) يُعتبَر أحد أبرز زُعماء الفلسفة التجريبية المنطقية أو الوَضْعِيَّة المنطقية . وَيُمْكِن تَمْييز مَرْحَلَتَيْن أسَاسِيَّتَيْن في تَطُّورِ فِكْرِه في طبيعة المَنهج المَنطقي : الأُولَى _ هِيَ مَرحلة الاهتمام بالبِناء اللفظي ، حَيْثُ الاهتمام بالبناء اللفظي المَنطقي لِلُغَةِ العِلْمِ ، والثانية _ هِيَ مَرحلة الاهتمام بالمَدلول اللفظي ، حَيْثُ يَهْتَمُّ مَنْطِقُ لُغَةِ العِلْمِ بالمَعنى والمَدلول .

26‏/09‏/2025

طبيعة بناء المسرحيات بين إبسن وبريخت

 

طبيعة بناء المسرحيات بين إبسن وبريخت

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.....................

     يُعْتَبَرُ الكاتبُ النرويجي هنريك إبسن ( 1828 _ 1906 ) مِنْ أهَمِّ كُتَّابِ المَسْرَحِ عَلى مَرِّ التاريخ ، ويُعْرَف بـِ " أبو المَسْرَحِ الحديث " . تَمتازُ نَظَرْتُهُ إلى الحَياةِ بالعُمْقِ والشُّمُولِ ، وَيَمْتاز مَسْرَحُهُ بِدِقَّةِ المِعمارِ والاقتصادِ معَ تَعبيرٍ شاعريٍّ دقيق .

     وَصَفَ النُّقَّادُ كُلَّ مَسرحية مِنْ مَسرحيات إبسن بالقُنبلة المَوقوتة ، فَكُلٌّ مِنها تُفَجِّر قضيةً مَا ، وتُثير رُدودَ فِعْلٍ عنيفة ، فقد اختار إبسن تَمزيقَ الأقنعةِ كُلِّهَا ، وكَشْفَ الزَّيْفِ الاجتماعيِّ ، داعيًا إلى الاعتدالِ والوسطية بعيدًا عن التَّطَرُّف .

     انتهج إبسن المُنْعَطَفَ الواقعيَّ في أعماله ، فَقَدْ تَطَرَّقَ إلى قضايا واقعية وخطيرة يُعاني مِنها المُجتمع الأوروبي، كما تَنَاوَلَ قضايا إنسانيَّة خالدة تُشْغِلُ الإنسانَ عَبْرَ العُصور،مِثْل: قَضِيَّة مَاهِيَّة الحقيقة، والفارق بَين الحَقيقةِ والواقع ، أو الصِّرَاع بَين الواقعِ والمِثال، وقضية النِّفَاقِ الاجتماعيِّ، وغَيْرها مِن القضايا التي تُثيرها أعمال إبسن المَسرحية ، والتي لَيْسَ بالضَّرورة أن تَضَعَ لَهَا حُلُولًا .

     تَتَّسِمُ مَسْرَحِيَّاتُ إبسن بالواقعيَّةِ الدِّرَامِيَّة ، وَتَناولِ القضايا الاجتماعيةِ والأخلاقيةِ المَحْظورة ، مِثْل مَكَانَةِ المَرْأةِ ، والزَّواجِ ، والمُشكلاتِ النَّفْسِيَّة ، والفَسادِ السِّياسيِّ والاقتصاديِّ ، والنِّزاعِ بَيْنَ الفَرْدِ والمُجتمع . بالإضافة إلى الاهتمام العميق بالشخصيات وتطويرها النَّفْسِي والفِكْري .

     اتَّبَعَ إبسن في مَسْرَحِهِ أُسلوبًا دِراميًّا مُمَيَّزًا عُرِفَ بالمَنهجِ الانقلابيِّ ، بمعنى أن تبدأ المسرحية بموقف في الحاضر، ثُمَّ تتوالى أحداثٌ مِنَ الماضي في العَودةِ ، لِتَنْسِجَ النِّهايةَ المَأساويَّة لأبطال المسرحية . أي إنَّ الأحداثَ الماضية تَتَكَشَّفُ تدريجيًّا لبناءِ النِّهايةِ المأساويَّة والكارثية للشَّخْصِيَّات .

     تَمتاز مَسْرَحِيَّاتُ إبسن بِمُمَيِّزات واضحة ، هي :

     1_ المَسْرَحِيَّاتُ التاريخية مِنها تبدأ بدايةً عاصفة ، أمَّا المَسْرَحِيَّاتُ الاجتماعية فتبدأ هادئةً مُشَوِّقة مُعتمِدة على الحِوار الدقيق .

     2_ الالتزام بِوَحْدَةِ الزمان والمكان ، كما وضعها اليونانيون .

     3_ بِناؤُها المَسْرَحِيُّ مُحْكَمٌ إحكامًا دقيقًا لا يُجَاريه فيه مُؤلِّف آخَر .

     4_ الحَبْكَةُ فِيها تبدأ بالقُرب مِن نُقْطة الزمان ، مِمَّا يُساعد على إخضاع عناصر المسرحية الثلاثة : الزمان والمكان والكلام .

     5_ شخصياتها من النماذج الإنسانيَّة العالميَّة الطبيعيَّة .

     وَيُعْتَبَرُ الكاتبُ الألمانيُّ بِرتولت بريخت ( 1898 _ 1956 ) مِنْ أَهَمِّ كُتَّابِ المَسْرَحِ العالميِّ في القَرْنِ العِشرين . ويُعْرَف بـِ " مُؤسِّس المَسْرَحِ المَلْحَمِيِّ " ، وهَذا النَّوْعُ المَسرحيُّ الفريدُ يَهْدِفُ إلى دَفْعِ الجُمهورِ للتَّفكيرِ النَّقْدِيِّ في القَضَايا الاجتماعيةِ والسِّياسيةِ بَدَلًا مِنْ إثارةِ المَشَاعِرِ وَالانغماسِ العاطفيِّ في الأحداثِ .

     والمَسْرَحُ المَلْحَمِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَ نَوْعَيْن أدَبِيَّيْن هُما : الدِّراما والمَلْحَمَة ، أي إنَّه يَتَضَمَّنُ شَكْلَي الأدبِ المَسْرَحِيِّ والسَّرْدِيِّ . والهَدَفُ مِنْهُ هُوَ الابتعادُ عَن تَصويرِ المَصائرِ الفرديةِ المأساويةِ المَعهودةِ مِنْ مَرحلةِ الخَيَالِ الكلاسيكيِّ وواقعِها الظاهريِّ ، وتَصويرُ الصِّرَاعاتِ الاجتماعيةِ الكُبرى مِثْل الحربِ والثَّورةِ والاقتصادِ والظُّلْمِ الاجتماعيِّ ، وَتَحويلُ المَسْرَحِ إلى أداةٍ لجعلِ هَذه الصِّراعات شَفَّافَةً ، وَدَفْعُ الجُمهورِ لِتَغييرِ المُجتمعِ إلى الأفضلِ .

     يَقُوم مَذهَبُ بريخت في المَسْرَحِ عَلى فِكْرَة أنَّ المُشَاهِدَ هُوَ العُنْصُرُ الأهَمُّ في تَكوينِ العَمَلِ المَسرحيِّ ، فَمِنْ أجْلِه تُكْتَبُ المَسرحية حَتَّى تُثير لَدَيْه التَّأمُّلَ والتَّفكيرَ في الواقع، واتِّخاذ مَوْقِفٍ وَرَأيٍ مِن القَضِيَّة المُتناوَلة في العَمَلِ المَسْرَحِيِّ .

     مِنْ أهَمِّ أساليبِ بريخت في كتابة المسرحيات :

     1_ هدم الجِدار الرابع : يُقْصَد بِه جَعْل المُشَاهِد مُشَارِكًا في العَمَلِ المَسْرحي، واعتباره العُنْصُر الأهم في كتابة المسرحية . والجِدَارُ الرابع معناه أنَّ خَشَبَةَ المسرح التي يقف عليها المُمَثِّلُون ، ويقومون بأدوارهم ، تُشْبِه غُرفة مِن ثلاثة جُدران ، والجِدَارُ الرابع هو جِدَار وَهْمِي ، وهو الذي يُقَابِل الجُمهور .

     2 _ التَّغْريب : يُقْصَد به تغريب الأحداث اليومية العادية، أي جَعْلها غريبة ومُثيرة للدَّهْشَة ، وباعثة على التَّأمُّل والتَّفكير ، مِثْل استخدام أُغْنِيَات بَيْنَ المَشَاهِد ، وذلك كَنَوْعٍ مِنَ المَزْجِ بَين التَّحْريضِ والتَّسْلية ، أوْ خُروج المُمَثِّلِ عَنْ دَوْرِه ، لإبقاءِ الجُمهورِ في حالةٍ مِنَ الوَعْي بأنَّ مَا يُشاهده هُوَ عَرْض مَسْرحي ، وَلَيْسَ واقعًا مُبَاشِرًا ، مِمَّا يُشجِّع عَلى التَّحليلِ النَّقْدِيِّ .

     3_ المَزْج بَين الوَعْظِ والتَّسْلية ، أوْ بَين التَّحريض السِّياسي والسُّخْرية الكوميدية .

     4_ استخدام مَشَاهِد مُتَفَرِّقَة. بَعْضُ مَسرحياته تَتَكَوَّن مِنْ مَشَاهِد مُتَفَرِّقَة ، تَقَع أحداثُها في أزمنة مُختلفة ، ولا يَرْبط بَيْنَها غَيْرُ الخَيْطِ العام للمَسرحية .

     إنَّ إبسن وبريخت اثنان مِنْ أعْمِدَةِ المَسْرَحِ في الغرب ، اشْتُهِرَ كُلٌّ مِنهما بابتكاراتِه في المَسْرَحِ الواقعيِّ والمُلْتَزِم ، ويَربطهما في كثير مِنَ الأحيانِ الاهتمامُ بِمَآسِي الرَّأسماليَّةِ والظُّلْمِ الاجتماعيِّ ، خاصَّةً في أعمالِهما التي تُسلِّط الضَّوْءَ عَلى قَضَايا المَرْأةِ ، والظُّلْمِ المُمَارَسِ ضِدَّهَا .

     وَقَدْ أسهمَ إبسن وبريخت في تَطويرِ المَسْرَحِ، حَيْثُ قَدَّمَ الأوَّلُ الواقعيةَ التي كَشَفَت الحقائقَ الاجتماعية ، وَقَدَّمَ الثاني المَسْرَحَ المَلْحَمِيَّ الذي يَدْعُو إلى التَّغييرِ الاجتماعيِّ والفِكْرِيِّ .

20‏/09‏/2025

رمزية الحياة والموت في أدب أنطون تشيخوف

 

رمزية الحياة والموت في أدب أنطون تشيخوف

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

..................

     يُعْتَبَرُ الكاتبُ الرُّوسِيُّ أنطون تشيخوف ( 1860 _ 1904 ) أعظمَ كاتب قِصَّة قصيرة في التاريخ . كَتَبَ المِئات مِنَ القصص القصيرة التي اعْتُبِرَ الكثير منها إبداعات فَنِّية كلاسيكيَّة ،  كَمَا أنَّ مَسْرحياته كانَ لها تأثير عظيم على دراما القَرْنِ العِشرين ، وَتَعَلَّمَ مِنها الكثيرُ مِنْ كُتَّابِ المَسْرحيات المُعاصِرين .

     قامَ بابتكاراتٍ إبداعيَّة أثَّرَتْ بِدَوْرِها على تطوير القِصَّة القصيرة الحديثة ، وَتَتَمَثَّل أصالتُها بالاستخدامِ المُبَكِّرِ لِتِقنية تَيَّار الشُّعُورِ الإنسانيِّ الدَّاخِلِيِّ، وتَوظيفِ التفاصيلِ الدقيقة الظاهرة، وَتَجميدِ الأحداثِ الخارجيَّة في القِصَّة، لإبرازِ النَّفْسِيَّة الداخليَّة للشَّخْصِيَّات .

     تَتَجَلَّى الرَّمزيةُ في أدبِهِ وقِصَصِهِ مِنْ خِلالِ استخدام عناصر حِسِّية لتمثيلِ مفاهيم مُجَرَّدَة ، والتركيزِ عَلى تَعقيدِ الطبيعةِ البَشرية ، وتناقضاتِ المُجتمعِ الإنسانيِّ . وتشيخوف يَسْتخدم الرُّمُوزَ للتَّعبيرِ عَن الهَشَاشَةِ الوُجوديةِ ، والفَراغِ الداخليِّ للشَّخصيات في إطارٍ واقعي ، وإظهارِ جَوهرِ المَشاعرِ الإنسانيةِ والأفكارِ العَميقةِ ، واستكشافِ مَواضيع التَّغْيير والنِّضَالِ مِنْ أجْلِ التَّكَيُّفِ معَ المَشْهَدِ الاجتماعيِّ الجديد .

     حَوَّلَ تشيخوف صُوَرَ الطبيعةِ إلى رُمُوز تَعْكِسُ مَشاعرَ الشَّخصياتِ وتَجَارِبَها ، وَتَنْقُل حَالَتَهَا العاطفيَّة . وغالبًا مَا يُظْهِرُ التناقضَ بَيْنَ جَمالِ الطبيعةِ وَقَسْوَةِ المُجتمعِ الإنسانيِّ . كَمَا أنَّه حَوَّلَ السُّخريةَ إلى رَمزية أدبية لنقدِ الأعرافِ والتقاليدِ المُجتمعية .

     إنَّ أدبَ تشيخوف قائم عَلى فِكرةِ البَحْثِ عَنْ مَعْنى في عَالَمٍ قاسٍ وَخَشِنٍ وَغَيْرِ مُبَالٍ ، مِمَّا يَعْكِسُ ضَعْفَ الإنسانِ وَضَيَاعَه في مَتاهةِ الحَياة . واعتمدَ في أعمالِه عَلى صِدْقِ الوَصْفِ ، والإيجازِ،والمَوضوعيَّة، وَتَصويرِ الأشخاصِ والأشياء بِدِقَّةٍ، وَتَجَنُّبِ الأحكامِ المُباشِرةِ أو المُبَالَغَات، مَعَ قُدرة عَلى طَرْحِ أسئلةٍ فلسفية عميقة ، وَالمَزْجِ بَيْنَ الحِسِّ الكُوميديِّ والأحاسيسِ المُوجعة والساخرة ، خاصَّة في تناول الأحداثِ اليوميةِ والطَّبَقَاتِ الاجتماعية ، والحِرْصِ عَلى التَّأمُّلِ في المَصِيرِ البَشَرِيِّ ، حَيْثُ تَنَاوَلَ تَساؤلاتٍ حَوْلَ قَدَرِ الإنسانِ ، والعَدالةِ ، وَقِيمةِ العَمَلِ ، مِنْ خِلال قِصَص تُسَلِّط الضَّوْءَ عَلى تفاصيلِ الحَياةِ العاديَّة .

     تتناولُ أعمالُ تشيخوف مواضيع عالميَّة كالحُبِّ ، والمَوْتِ ، والبَحْثِ عَنْ جَدوى الحَياةِ وَحَقيقةِ الوُجودِ ، وَتُقَدِّمُ فهمًا عميقًا للحالةِ الإنسانيةِ، وتَعقيداتِ العلاقاتِ بَيْنَ الناسِ .

     وفي قِصَصِه القصيرةِ ، يَتَّخِذُ الحُبُّ أشكالًا مُتعددة ، فَيَظْهَر الحُبُّ العاطفيُّ الشَّهْوَانِيُّ الذي يَسْتحوذ عَلى كُلِّ شَيْء ، كَمَا يَظْهَر الحُبُّ بِمَعْناه العائليِّ الاجتماعيِّ . وَيُصَوِّرُ تشيخوف بشكلٍ مُتكرِّر التَّوَتُّرَاتِ وَالصِّرَاعَاتِ التي تَنْشَأ في العَلاقاتِ الرُّومانسيَّة ، مُشَدِّدًا في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ عَلى المَشاعرِ المُعقَّدة التي قَدْ تَنْشَأ عِندَما يَكُون الشَّخْصَان عَلى صِلَةٍ وثيقة .

     تَعَمَّقَ تشيخوف في مَواضيعِ الوُجودِ الإنسانيِّ ، والبَحْثِ عَنْ مَعْنى للحَيَاة . واستكشفَ _ مِنْ خِلالِ شَخصياتِ قِصَصِه _ تَعقيداتِ الحالةِ الإنسانية ، وَكِفَاحَ الإنسانِ لإيجاد مَكانِه في العَالَمِ ، وَشُعُورَه بالمَلَلِ والقَلَقِ أثناءَ البَحْثِ عَنْ مَعْنى أعمق في الحَياة ، والانشغالِ بالأسئلة الوُجودية عَن المَعْنى والغايةِ .

     وَيَتكرَّر مَوضوعُ المَوْتِ في قِصَصِه باعتبارِه مُحَفِّزًا لِصِرَاعِ الشَّخْصياتِ الوُجوديِّ . وَمِنْ خِلالِ المَوْتِ تَظْهَرُ هَشَاشَةُ الحَياةِ ، وَحتميةُ الفَنَاءِ . وَتَختلفُ نَظرةُ الشَّخصياتِ إلى المَوْتِ ، فالبعضُ يَعْتبره تَحَرُّرًا مِنَ مُعاناةِ الحَياةِ وَفَرَاغِها ، والبعضُ الآخَرُ يَعْتبره تَذكيرًا بِقِيمةِ الحَياةِ وَضَرورةِ عَيْشِها .

     تَتَجَلَّى فلسفةُ تشيخوف الرَّمزيةُ في بَساطةِ أفكارِه ، وَنَماذجِه القِصَصِيَّة ، وَشُمولِه لِكُلِّ الأفرادِ في المُجتمعِ مِنْ عِلْيَةِ القَوْمِ حَتَّى قاعِ المُجتمع ، كَمَا تَتَجَلَّى في المَوضوعيَّةِ الصارمة التي قَدْ تَبْدُو نَوْعًا مِنْ البُرودِ تُجَاه مَصائرِ الأبطالِ .

     وَأَدَبُهُ يُعْتَبَرُ طريقًا لِمَعرفةِ الإنسانِ والمُجتمعِ والعَالَمِ والحَيَاةِ ، وَطَريقةً لِقِراءةِ تاريخِ المُجتمعِ الإنسانيِّ، بِكُلِّ طَبَقَاتِهِ وَتَناقضاتِه وَصِرَاعاتِه وَمَخَاوفِه وَهَوَاجسِه. وَأَدَبُهُ لَيْسَ خَاتِمَةً مأساويةً للحَيَاةِ ، وإنَّما هُوَ جُزْءٌ مِنْ التَّجْرِبَةِ الوُجودية، التي تَعْكِسُ هَشَاشَةَ الإنسانِ، وَقُوَّةَ حَيَاتِه ، وَتَدْفعه إلى العَيْشِ بِعُمْقٍ معَ استغلال كُلِّ لَحْظَة ، وبناءِ وَعْيٍ مَعرفيٍّ بأهميةِ الحَيَاةِ وحَتميةِ المَوْتِ .

     والجَديرُ بالذِّكْرِ أنَّ تشيخوف _ بِوَصْفِهِ طبيبًا _ كانَ يُوَاجِهُ المَوْتَ يَوْمِيًّا، حَيْثُ اعتادَ التعاملَ معَ المَرضى الذينَ يعيشون على هَامِشِ المُجتمع ، وَهَذا الاحتكاكُ المُبَاشِرُ جَعَلَه يَرى المَوْتَ حَقيقةً واقعيةً ، وَفُرصةً للتأمُّلِ ومُراجعةِ الذات ، وَتَذكيرًا دائمًا بِضَرورةِ العَيْشِ بِصِدْقٍ . وهَكذا ، صارَ المَوْتُ في أَدَبِهِ تَجْرِبَةً وُجوديَّةً يَوْمِيَّة . وَلَمْ يُحَاوِلْ تَحويلَ المَوْتِ إلى مَأساةٍ ، أوْ كارثةٍ ، أوْ حَدَثٍ دِرَاميٍّ عاطفيٍّ مُفْرِط ، أوْ جُزْءٍ مِنْ مَعركةٍ رُوحيَّة ، أوْ جُزْءٍ مِنْ صِراعٍ داخليٍّ وُجوديٍّ. بَلْ كانَ المَوْتُ جُزْءًا مِنَ التَّدَفُّقِ الطبيعيِّ للحَياة .

     واعتبرَ تشيخوف الطبيعةَ رَمزيةً أساسيَّة لِفَهْمِ المَوْتِ . ففي قِصَصِه ، تَرتبط الطبيعةُ بالتَّقَلُّبَاتِ النَّفْسِيَّة والتَّحَوُّلاتِ الداخليَّة للشَّخصياتِ ، وَتَتَّضِحُ الحَيَاةُ بِوَصْفِهَا وِلادةً للحُلْمِ والأمَلِ ، وَيَتَّضِحُ المَوْتُ بِوَصْفِهِ تَكريسًا للعَدَمِ والفَنَاءِ .

13‏/09‏/2025

نظرية الفعل الاجتماعي بين فيبر وبارسونز

 

نظرية الفعل الاجتماعي بين فيبر وبارسونز

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.......................

     يُعْتَبَر عَالِمُ الاجتماعِ الألمانيُّ ماكس فيبر ( 1864 _ 1920 ) أحَدَ الآباءِ المُؤسِّسين لِعِلْمِ الاجتماعِ الحَديثِ . وَقَدْ سَاهَمَ بشكلٍ فَعَّالٍ في دِرَاسَةِ الفِعْلِ الاجتماعيِّ ، وتأويلِه بشكلٍ مَنْطقيٍّ وَعَقْلانيٍّ ، وتَفسيرِه بطريقةٍ قائمة عَلى رَبْطِ الأسبابِ بالمُسَبِّبَاتِ .

     عَرَّفَ فيبر الفِعْلَ الاجتماعيَّ بأنَّهُ صُورةُ السُّلوكِ الإنسانيِّ الذي يَشْتمل على الاتِّجاهِ الداخليِّ أو الخارجيِّ ، الذي يَكُون مُعَبَّرًا عَنْهُ بواسطة الفِعْلِ أو الامتناعِ عَن الفِعْل . وَيُمْكِن فَهْمُه عَلى أنَّه طريقة تَصَرُّف الفَرْدِ بِنَاءً عَلى مُعْتقداتِه وَقَنَاعَاتِه ، واستنادًا إلى مَصَالِحِه ، واعتمادًا عَلى بيئته .

     وَفَهْمُ الفِعْلِ الاجتماعيِّ يَتَطَلَّبُ فَهْمَ الدَّوافعِ الذاتيَّةِ للأفرادِ وتَفسيراتِهم للمَواقفِ الاجتماعية، وكَيْفَ تُؤَثِّر القِيَمُ الثَّقَافِيَّةُ والمَعاييرُ الاجتماعيَّةُ عَلى سُلوكِهم . وَقَدْ حَدَّدَ فيبر أربعة أنواع رئيسية للفِعْلِ الاجتماعيِّ لِتَفسيرِ الدَّوَافعِ البَشَرِيَّة : الفِعْل العَقْلاني الهادف ، والفِعْل القِيَمِي ، والفِعْل العاطفي ، والفِعْل التَّقليدي . وَهَذه الأنواعُ تُسَاعِد في فَهْمِ دَوافعِ السُّلوكِ البَشَرِيِّ ، وتفاعلاتِ الأفرادِ في المُجتمع .

     وَوَفْقًا لِمَنظورِ فيبر وَتَعريفِه للفِعْلِ الاجتماعيِّ ، لا بُدَّ مِنْ فَهْمِ السُّلوكِ الاجتماعيِّ أو الظواهرِ الاجتماعيةِ عَلى مُسْتَوَيَيْن ، المُستوى الأوَّل أنْ نَفْهَمَ الفِعْلَ الاجتماعيَّ عَلى مُستوى الأفرادِ أنفُسِهِم ، أمَّا المُستوى الثاني فهو أنْ نَفْهَمَ هذا الفِعْلَ الاجتماعيَّ عَلى المُستوى الجَمْعِيِّ بَين الجَمَاعَات .

     رَكَّزَ فيبر على الفِعْلِ الاجتماعيِّ بَدَلًا مِنَ البُنيةِ الاجتماعية،وَرَأى أنَّ الدَّوافع والأفكار البَشَرِيَّة هِيَ التي تَقِفُ وَراء التَّغَيُّرِ الاجتماعيِّ. وَبِوُسْعِ الفَرْدِ أيضًا أنْ يَتَصَرَّفَ بِحُرِّية ، وَيَرْسُمَ مَصِيرَه في المُستقبَل . وَاعْتَبَرَ أنَّ البُنى في المُجتمعِ إنَّما تَتَشَكَّلُ بِفِعْلٍ تبادليٍّ مُعَقَّد بَيْنَ الأفعالِ ، وَيَنْبغي كَشْف المَعَاني الكامنةِ وَرَاءَ هَذه الأفعال .

     وَالفِعْلُ الاجتماعيُّ _ عِند فيبر _ يَتَحَقَّقُ بالتفاعلِ بَيْنَ الذَّوَاتِ والآخَرِين ، وَيَتَّخِذُ هَذا الفِعْلُ مَعْنى ذاتيًّا وَغَرَضِيًّا. وهَكَذا ، يَكُون فيبر قَد انتقلَ بِعِلْمِ الاجتماعِ مِنْ عَالَمِ الأشياءِ المَوضوعية إلى الأفعالِ الإنسانية، أي : انتقلَ مِنَ المَوضوعِ إلى الذاتِ ، أوْ مِنَ الشَّيْءِ إلى الإنسان .

     وَقَد اهْتَمَّ فيبر بِفَهْمِ المَعنى الذاتيِّ الذي يُضْفيه الأفرادُ عَلى أفعالِهم ، وكَيْفَ يُوَجِّهُ هَذا المَعْنى سُلوكَهم ، وَطَوَّرَ مَفهوم " الفَهْم التأويلي" كَمَنهجية أساسيَّة لِعِلْمِ الاجتماعِ ، والتي تَعْني مُحاولة فَهْم الفِعْل الاجتماعيِّ ، مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِ الفاعلِ نَفْسِه ، أي : وَضْع نَفْسِك مَكَان الآخَر لِفَهْمِ دَوافعِه ومَعَانيه .

     أصْبَحَ فيبر بالغَ الأهميةِ لِعَالِمِ الاجتماعِ الأمريكيِّ تالكوت بارسونز ( 1902 _ 1979 ) ، باعتبارِ ثقافته الناشئة في بيئة دِينية ومُتحررة في آنٍ واحد . السُّؤالُ عَنْ دَوْرِ الثَّقَافةِ والدِّينِ في العَمَلِيَّات الأسَاسِيَّة مِنْ تاريخِ العَالَمِ كانَ لُغْزًا مُحَيِّرًا لبارسونز، وثابتًا في ذِهْنِه . وكان فيبر الباحثَ الأول الذي قَدَّمَ لبارسونز جَوَابًا نَظَرِيًّا مُقْنِعًا عَنْ هَذا السُّؤال .

     يُؤَلِّفُ الفِعْلُ الاجتماعيُّ بالنِّسبةِ إلى بارسونز الوَحْدَةَ الأساسيَّة للحَياةِ الاجتماعية ، ولأشكالِ التفاعلِ الاجتماعيِّ بَيْنَ الناس ، فَمَا مِنْ صِلَة تَقُوم بَين الأفرادِ والجَمَاعَات ، إلا وَهِيَ مَبْنِيَّة عَلى الفِعْلِ الاجتماعيِّ ، وَمَا أوْجُهُ التفاعلِ الاجتماعيِّ إلا أشكالٌ للفِعْلِ ، تَتَبَايَن في اتِّجاهاتِها وأنواعِها وَمَسَاراتِها ، ولهذا يُعَدُّ الفِعْلُ عِنْدَه الوَحْدَةَ التي يستطيع الباحثُ مِنْ خِلالها رَصْدَ الظواهرِ الاجتماعية ، وتفسيرَ المُشكلاتِ التي يُعَاني مِنها الأفراد ، وَتُعَاني مِنها المُؤسَّسات على اختلاف مُستوياتِ تَطَوُّرِها .

     وَالفِعْلُ الاجتماعيُّ _ عِنْدَ بارسونز _ هُوَ سُلوكٌ إراديٌّ لَدى الإنسان لِتَحقيقِ هَدَفٍ مُحَدَّد ، وَغَايَةٍ بِعَيْنِها، وَهُوَ يَتَكَوَّنُ مِنْ بُنيةٍ تَضُمُّ الفاعلَ بِمَا يَحْمِلُه مِنْ خَصائص وَسِمَات تُمَيِّزُه عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الأشخاص، وَمَوْقِفٍ يُحِيطُ بالفاعلِ ، ويَتبادل مَعَه التأثيرَ، وَمُوَجِّهَاتٍ قِيَمِيَّةٍ وأخلاقيةٍ تَجْعَل الفاعلَ يَمِيل إلى مُمَارَسَةِ هَذا الفِعْلِ أوْ ذَاك ، والإقدامِ على مُمَارَسَةِ هَذا السُّلوكِ أوْ غَيْرِه .

     إنَّ بارسونز يَدْرُسُ الفِعْلَ الإنسانيَّ بِوَصْفِهِ مَنظومةً اجتماعية مُتكاملة ، يُسْهِمُ كُلُّ عُنْصُرٍ مِنْ عَناصرِها في تَكوينِ الفِعْلِ عَلى نَحْوٍ مِنَ الأنحاء ، وَهِيَ مُؤلَّفَةٌ مِنْ أربع منظومات فَرْعِيَّة ، تَتَدَرَّج مِنَ المَنظومةِ العُضْوِيَّة ، إلى الشَّخْصِيَّة ، فالاجتماعيَّة ، فالثَّقَافية والحَضَارية .

     وَتُسْهِمُ نَظريةُ الفِعْلِ الاجتماعيِّ التي عَمِلَ بارسونز على تطويرها في تَوضيحِ الكثير مِنَ القضايا الاجتماعية، مِمَّا جَعَلَ هَذه النظريةَ تأخذُ مَوْقِعًا مُتَقَدِّمًا في دِراسات عِلْمِ الاجتماعِ في الوِلاياتِ المُتَّحِدَة الأمريكية ، وفي مُعْظَمِ دُوَلِ العَالَمِ ، ولا سِيَّما الدُّوَل الأوروبيَّة ، بالنظر إلى مَا تَحْتويه مِنْ قُدرات تَحْلِيلِيَّة تُمَكِّن الباحثَ مِنْ مُعالجةِ الكثير مِنَ القضايا الاجتماعيةِ وقضايا عِلْمِ الاجتماع .

     حَدَّدَ بارسونز أركانَ الفِعْلِ الاجتماعي : 1_ الفاعل : الفرد الذي يَقُوم بالفِعْل . 2_ الغاية أو الهدف : الحالة المُستقبلية التي يَسعى الفاعلُ لتحقيقِها . 3 _ المَوْقِف : البيئة التي يَحْدُثُ فِيها الفِعْلُ . وتَتَكَوَّن مِنْ :  أ _ الشُّروط : جوانب المَوْقِف التي لا يَستطيع الفاعلُ التَّحَكُّمَ بِهَا ، مِثْل : الظروف الطبيعية ، والقُدرات البُيُولوجية . ب _ الوسائل : جَوَانِب المَوْقِف التي يَستطيع الفاعلُ التَّحَكُّمَ بِهَا ، واستخدامَها لتحقيق الغاية . ج _ التَّوَجُّهُ المِعْيَاري : مَجموعة القواعد والمَعَايير والقِيَم التي تُوجِّه اختيارَ الفاعلِ للوَسَائلِ والغَايَات .

06‏/09‏/2025

الجمال والفن في فلسفة كروتشه

 

الجمال والفن في فلسفة كروتشه

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

...................

     فَلسفةُ الجَمَالِ هِيَ فَرْعٌ مِنَ الفَلسفةِ يَدْرُسُ طَبيعةَ الجَمَالِ والذَّوْقِ والفَنِّ ، في الطبيعةِ والأعمالِ البشريةِ والأنساقِ الاجتماعية، وَيُكَرِّسُ التفكيرَ النَّقْدِيَّ في البُنى الثَّقَافيةِ بِكُلِّ صُوَرِهَا في الفَنِّ، وَتَجَلِّيَاتِها في الطبيعة ، وانعكاساتِها في المُجتمع، وَيُحَلِّلُ التَّجَارِبَ الحِسِّيةَ، والبُنى العاطفية ، والتفاصيلَ الوِجْدَانِيَّة ، وَالقِيَمَ العقلانيةَ ، التي تُوضِّح سَبَبَ شُعورِ الإنسانِ بالرَّاحَةِ والمُتعةِ عِندَ رُؤيةِ الأشياءِ الجميلة .

     والسُّؤالُ الأساسيُّ في فَلسفةِ الجَمَالِ:هَل الجَمَالُ ذَاتيٌّ يَكْمُنُ في عَيْنِ الناظرِ أَمْ أنَّه مِيزَة مَوضوعية مَوجودة في الأشياءِ الجميلة؟. وَبِعِبَارةٍ أُخْرَى ، هَلْ مَصْدَرُ الجَمَالِ هُوَ خَاصِيَّة مَوضوعية في الأشياء أَم استجابة ذاتية في الإنسان ، أمْ نتيجة للتفاعل بينهما ؟ .

     إنَّ الجَمَالَ مَوجودٌ في العَقْلِ الذي يَتَأمَّلُه ، وكُلُّ عَقْلٍ يُدْرِكُ جَمَالًا مُخْتَلِفًا ، والذَّوْقُ يَلْعَبُ دَوْرًا مُهِمًّا في هَذا المَجَالِ ، وَيُقَدِّمُ حُكْمًا جَمَالِيًّا خَالِصًا ، وَلَيْسَ حُكْمًا مَعْرِفِيًّا ولا مَنْطِقِيًّا . والجَمَالُ مَفهومٌ مُتناقضٌ وَمُتَشَعِّب ، حَيْثُ تَختلف وِجْهَاتُ النظرِ حَوْلَه بَيْنَ فَيلسوفٍ وآخَر . وَقَدْ رَبَطَ الكثيرون مَفهومَ الجَمَالِ بالقِيَمِ الإيجابيةِ المُطْلَقَةِ ، مِثْل : الخَيْر والحقيقة والعَدْل . ويَرى البعضُ أنَّ مَفهوم الجَمَالِ مُرتبط بالاستمتاعِ والمَشاعرِ ، في حِين يُركِّز آخَرُون على الجانبِ العَقلانيِّ والمَنْطِقِيِّ .

     تَتَوَزَّعُ فَلسفةُ الجَمَالِ عِندَ الفَلاسفةِ بَيْنَ رُؤى مُختلفة ، مِنها : اعتبارُ الجَمَالِ خَاصِيَّة في الشَّيْءِ نَفْسِه مِثْل التوازنِ والتناسبِ ( أفلاطون وأَرِسْطُو )،أوْ كَمَفهوم مُرتبط بالخَيْرِ والكَمَالِ ( توما الأكويني ) ، أوْ هُوَ حُكْمٌ ذاتيٌّ يَعْتمد على تَجْرِبَة الشَّخْصِ وَذَوْقِه الخاص ، وَهَذا الذَّوْقُ يُمْكِن تَنْميته وتَثقيفه مِنْ خِلال الخِبرة ( فَلاسفة التَّنْوير مِثْل ديفيد هيوم ) ، أوْ أنَّ الجَمَالَ يَكْمُنُ في عَلاقةٍ ذاتيَّة بَيْنَ الإنسانِ والعَالَمِ ، والإنسانُ هُوَ مَنْ يُضْفِي عَلى العَالَمِ جَمَالَه ، وأنَّ الجَمَالَ مَا هُوَ إلا انعكاسٌ لِصُورةِ الإنسانِ في الأشياءِ ( نيتشه ) ، أوْ أنَّ الجَمَالَ مُرتبطٌ بالإرادةِ والفِكْرِ الإنسانيِّ، وَهُوَ صِفَةٌ نِسْبِيَّة عَلى عَلاقة وَثيقة بالإنسانِ ، نَوْعًا وإدراكًا ، وَلَيْسَ صِفَةً مُطْلَقَة ( شوبنهاور ) ، أوْ هُوَ مُصالحة بَيْنَ الأجزاءِ الحِسِّيةِ والعَقْلانيةِ مِنْ طَبيعةِ الإنسانِ ( فريدريش شيلر )، أوْ أنَّ الجَمَالَ لَيْسَ صِفَةً في الشَّيْءِ نَفْسِه ، بَلْ هُوَ استجابة ذاتيَّة ، ولكنْ بِطَابَعٍ عالميٍّ ، ولا يَتَعَلَّق الأمْرُ بِمَنفعةِ الشَّيْء ( كانط ) .

     إنَّ أفكارَ الإنسان الفلسفية تُشكِّل نَظْرَتَه للجَمَالِ ، وتُؤَثِّر عَلَيْه ، كَمَا أنَّ مَشاعرَ الإنسانِ تتأثَّر بِتَصَوُّرَاتِه ومَفَاهيمِه عَن الجَمَالِ ، فإذا نَظَرَ إلى البيئةِ التي مِنْ حَوْلِه عَلى أنَّها جَميلة وَمُمْتِعة مِنَ النَّاحِيَةِ الجَمَالِيَّة ، فإنَّ هَذه النَّظْرَة الإيجابية تَنعكِس عَلى مَشَاعِرِه ، فَتُؤَثِّر عَلَيْهِ بِطَريقةٍ إيجابية .

    وَيُعْتَبَرُ الفَيلسوفُ الإيطاليُّ بينيديتو كروتشه ( 1866 _ 1952 ) مِنْ أبرزِ الذينَ قَدَّمُوا دِرَاسَاتٍ عميقة في فَلسفةِ الجَمَالِ ، وَكَتَبُوا في هَذا المَجَالِ بشكلٍ تفصيلي . وَهُوَ يَعْتنق فَلسفةَ المِثاليَّة المُطْلَقَة ، ومَذهَبُه الفَلسفيُّ يَضَعُ أربع دَرَجَات في " هُبوط عَالَمِ الرُّوح " ، وهي الدَّرَجَة الجَمَاليَّة ( تَجَسُّد الرُّوح الفَرْد )،والدَّرَجَة المَنْطِقِيَّة ( مَجَال العام ) ، والدَّرَجَة الاقتصادية ( مَجَال المَصلحة الخَاصَّة ) ، والدَّرَجَة الأخلاقية ( مَجَال المَصلحة العَامَّة ) .

     تَتَمَحْوَرُ فَلسفةُ الجَمَالِ عِندَ كروتشه حَوْلَ فِكرة أنَّ الجَمَالَ هُوَ الحَدْسُ والتَّعبيرُ عَن الشُّعُورِ في صُورة ذِهنية ، حَيْثُ يَمْزُجُ العملُ الفَنِّي بَيْنَ الرُّؤيةِ والتَّعبيرِ دُون انفصالٍ بَيْنَهما، وكانَ يَرى أنَّ الفَنَّ لا يُمثِّل مَعرفةً بالواقعِ بِقَدْرِ مَا هُوَ مَعرفة حَدْسِيَّة وَرُؤية داخليَّة ، وأنَّ الوظيفة الجَمَالِيَّة الأساسيَّة هِيَ التَّعبيرُ عَن الذات ، بَدَلًا مِنَ التَّمثيلِ الخارجيِّ للعَالَمِ .

     يُعْتَبَر كروتشه مِنْ أكثر فلاسفة إيطاليا تَمَيُّزًا في القَرْنِ العِشرين . وكان يؤمن بوجود نَوْعَيْن مِنَ المَعرفة : المعرفة التي تأتي عن طريق الفَهْم ، والمعرفة التي تأتي عن طريق الخَيَال. وَهُوَ يَعْتبر أنَّ الخَيَالَ يُوجِّه الفَنَّ ، والفَنُّ لا يُحاوِل تَصنيفَ الأشياءِ ، كما يَفْعل العِلْمُ، لكنَّه يَحُسُّ بِها ويُمثِّلها فَقَط ، والفَنُّ رُؤيةٌ وَحَدْسٌ كَمَوضوعٍ خارجيٍّ ( شَيْء أوْ شَخْص ) أوْ كَمَوضوعٍ داخليٍّ ( عاطفة أوْ مِزَاج)، يُعبِّر عَنْهُ الفَنَّانُ باللغةِ أو اللَّوْنِ أو النَّغَمِ أو الحَجَرِ، والعَمَلُ الفَنِّي هُوَ صُورةٌ ذِهنية يُؤَلِّفُها الفَنَّانُ ، ويُعيد مُتَذَوِّقُو الفَنِّ تأليفَها ، وَلَيْسَ الفَنُّ سِوى عَرْضِ الشُّعورِ مُجَسَّمًا في صُورة ذِهنية .

     عَرَضَ كروتشه نَظَرِيَّتَه الجَمَالِيَّة في كِتَابَيْن لَه: عِلْم الجَمَال(1902)،والمُجْمَل في عِلْمِ الجَمَال( 1913)، وَتَتَمَحْوَرُ حَوْلَ فِكرة مَركزية أساسيَّة ، وَهِيَ وَحْدَة الإبداعِ الفَنِّي ، حَيْثُ يَسْعَى إلى التَّوفيقِ بَيْنَ النَّشَاطِ الباطنيِّ ( الحَدْسِيِّ / الرُّوحِيِّ ) للإبداعِ الفَنِّي ، وَالنَّشَاطِ الخارجيِّ الحِسِّي التَّعْبيريِّ . وَقَدْ حَلَّلَ طَبيعةَ الجَمَالِ ، وَتَجَلِّيَاتِه في الوُجود ، وَرَبَطَه بالأحاسيسِ والمَشاعرِ الإنسانية ، وَبَيَّنَ أنَّ عِلْمَ الجَمَالِ لا يُعْنَى بإصدار الأحكام عَلى مَا هُوَ جَميلٌ أوْ قَبيحٌ ، بَلْ يَفْحَص تَجَارِبَ الجَمَالِ كظاهرةٍ شاملة .

     كانَ لفلسفةِ كروتشه الغنية تأثيرٌ قوي في الفلسفة الإيطالية والأوروبية بِرُمَّتها ، وَاحْتَلَّتْ أعمالُه مَكانةً بارزةً في كلاسيكيَّات مِثالية القَرْنِ العِشرين ، وأثَّرَ في مُعْظَمِ مَنْ أتى بَعْدَه مِنَ المُفَكِّرين والفلاسفة ، وكان له أثرٌ في إعادة تقويم أفكار الفَيلسوفِ الألمانيِّ هِيغل .