سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] الديانات في القرآن الكريم [16] بحوث في الفكر الإسلامي [17] التناقض في التوراة والإنجيل [18] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [19] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [20] عقائد العرب في الجاهلية[21]فلسفة المعلقات العشر[22] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [23] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [24] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [25]مشكلات الحضارة الأمريكية [26]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[27] سيناميس (الساكنة في عيوني)[28] خواطر في زمن السراب [29] فلسفة المتنبي الشعرية [30] أشباح الميناء المهجور (رواية)[31]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

06‏/09‏/2025

الجمال والفن في فلسفة كروتشه

 

الجمال والفن في فلسفة كروتشه

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

...................

     فَلسفةُ الجَمَالِ هِيَ فَرْعٌ مِنَ الفَلسفةِ يَدْرُسُ طَبيعةَ الجَمَالِ والذَّوْقِ والفَنِّ ، في الطبيعةِ والأعمالِ البشريةِ والأنساقِ الاجتماعية، وَيُكَرِّسُ التفكيرَ النَّقْدِيَّ في البُنى الثَّقَافيةِ بِكُلِّ صُوَرِهَا في الفَنِّ، وَتَجَلِّيَاتِها في الطبيعة ، وانعكاساتِها في المُجتمع، وَيُحَلِّلُ التَّجَارِبَ الحِسِّيةَ، والبُنى العاطفية ، والتفاصيلَ الوِجْدَانِيَّة ، وَالقِيَمَ العقلانيةَ ، التي تُوضِّح سَبَبَ شُعورِ الإنسانِ بالرَّاحَةِ والمُتعةِ عِندَ رُؤيةِ الأشياءِ الجميلة .

     والسُّؤالُ الأساسيُّ في فَلسفةِ الجَمَالِ:هَل الجَمَالُ ذَاتيٌّ يَكْمُنُ في عَيْنِ الناظرِ أَمْ أنَّه مِيزَة مَوضوعية مَوجودة في الأشياءِ الجميلة؟. وَبِعِبَارةٍ أُخْرَى ، هَلْ مَصْدَرُ الجَمَالِ هُوَ خَاصِيَّة مَوضوعية في الأشياء أَم استجابة ذاتية في الإنسان ، أمْ نتيجة للتفاعل بينهما ؟ .

     إنَّ الجَمَالَ مَوجودٌ في العَقْلِ الذي يَتَأمَّلُه ، وكُلُّ عَقْلٍ يُدْرِكُ جَمَالًا مُخْتَلِفًا ، والذَّوْقُ يَلْعَبُ دَوْرًا مُهِمًّا في هَذا المَجَالِ ، وَيُقَدِّمُ حُكْمًا جَمَالِيًّا خَالِصًا ، وَلَيْسَ حُكْمًا مَعْرِفِيًّا ولا مَنْطِقِيًّا . والجَمَالُ مَفهومٌ مُتناقضٌ وَمُتَشَعِّب ، حَيْثُ تَختلف وِجْهَاتُ النظرِ حَوْلَه بَيْنَ فَيلسوفٍ وآخَر . وَقَدْ رَبَطَ الكثيرون مَفهومَ الجَمَالِ بالقِيَمِ الإيجابيةِ المُطْلَقَةِ ، مِثْل : الخَيْر والحقيقة والعَدْل . ويَرى البعضُ أنَّ مَفهوم الجَمَالِ مُرتبط بالاستمتاعِ والمَشاعرِ ، في حِين يُركِّز آخَرُون على الجانبِ العَقلانيِّ والمَنْطِقِيِّ .

     تَتَوَزَّعُ فَلسفةُ الجَمَالِ عِندَ الفَلاسفةِ بَيْنَ رُؤى مُختلفة ، مِنها : اعتبارُ الجَمَالِ خَاصِيَّة في الشَّيْءِ نَفْسِه مِثْل التوازنِ والتناسبِ ( أفلاطون وأَرِسْطُو )،أوْ كَمَفهوم مُرتبط بالخَيْرِ والكَمَالِ ( توما الأكويني ) ، أوْ هُوَ حُكْمٌ ذاتيٌّ يَعْتمد على تَجْرِبَة الشَّخْصِ وَذَوْقِه الخاص ، وَهَذا الذَّوْقُ يُمْكِن تَنْميته وتَثقيفه مِنْ خِلال الخِبرة ( فَلاسفة التَّنْوير مِثْل ديفيد هيوم ) ، أوْ أنَّ الجَمَالَ يَكْمُنُ في عَلاقةٍ ذاتيَّة بَيْنَ الإنسانِ والعَالَمِ ، والإنسانُ هُوَ مَنْ يُضْفِي عَلى العَالَمِ جَمَالَه ، وأنَّ الجَمَالَ مَا هُوَ إلا انعكاسٌ لِصُورةِ الإنسانِ في الأشياءِ ( نيتشه ) ، أوْ أنَّ الجَمَالَ مُرتبطٌ بالإرادةِ والفِكْرِ الإنسانيِّ، وَهُوَ صِفَةٌ نِسْبِيَّة عَلى عَلاقة وَثيقة بالإنسانِ ، نَوْعًا وإدراكًا ، وَلَيْسَ صِفَةً مُطْلَقَة ( شوبنهاور ) ، أوْ هُوَ مُصالحة بَيْنَ الأجزاءِ الحِسِّيةِ والعَقْلانيةِ مِنْ طَبيعةِ الإنسانِ ( فريدريش شيلر )، أوْ أنَّ الجَمَالَ لَيْسَ صِفَةً في الشَّيْءِ نَفْسِه ، بَلْ هُوَ استجابة ذاتيَّة ، ولكنْ بِطَابَعٍ عالميٍّ ، ولا يَتَعَلَّق الأمْرُ بِمَنفعةِ الشَّيْء ( كانط ) .

     إنَّ أفكارَ الإنسان الفلسفية تُشكِّل نَظْرَتَه للجَمَالِ ، وتُؤَثِّر عَلَيْه ، كَمَا أنَّ مَشاعرَ الإنسانِ تتأثَّر بِتَصَوُّرَاتِه ومَفَاهيمِه عَن الجَمَالِ ، فإذا نَظَرَ إلى البيئةِ التي مِنْ حَوْلِه عَلى أنَّها جَميلة وَمُمْتِعة مِنَ النَّاحِيَةِ الجَمَالِيَّة ، فإنَّ هَذه النَّظْرَة الإيجابية تَنعكِس عَلى مَشَاعِرِه ، فَتُؤَثِّر عَلَيْهِ بِطَريقةٍ إيجابية .

    وَيُعْتَبَرُ الفَيلسوفُ الإيطاليُّ بينيديتو كروتشه ( 1866 _ 1952 ) مِنْ أبرزِ الذينَ قَدَّمُوا دِرَاسَاتٍ عميقة في فَلسفةِ الجَمَالِ ، وَكَتَبُوا في هَذا المَجَالِ بشكلٍ تفصيلي . وَهُوَ يَعْتنق فَلسفةَ المِثاليَّة المُطْلَقَة ، ومَذهَبُه الفَلسفيُّ يَضَعُ أربع دَرَجَات في " هُبوط عَالَمِ الرُّوح " ، وهي الدَّرَجَة الجَمَاليَّة ( تَجَسُّد الرُّوح الفَرْد )،والدَّرَجَة المَنْطِقِيَّة ( مَجَال العام ) ، والدَّرَجَة الاقتصادية ( مَجَال المَصلحة الخَاصَّة ) ، والدَّرَجَة الأخلاقية ( مَجَال المَصلحة العَامَّة ) .

     تَتَمَحْوَرُ فَلسفةُ الجَمَالِ عِندَ كروتشه حَوْلَ فِكرة أنَّ الجَمَالَ هُوَ الحَدْسُ والتَّعبيرُ عَن الشُّعُورِ في صُورة ذِهنية ، حَيْثُ يَمْزُجُ العملُ الفَنِّي بَيْنَ الرُّؤيةِ والتَّعبيرِ دُون انفصالٍ بَيْنَهما، وكانَ يَرى أنَّ الفَنَّ لا يُمثِّل مَعرفةً بالواقعِ بِقَدْرِ مَا هُوَ مَعرفة حَدْسِيَّة وَرُؤية داخليَّة ، وأنَّ الوظيفة الجَمَالِيَّة الأساسيَّة هِيَ التَّعبيرُ عَن الذات ، بَدَلًا مِنَ التَّمثيلِ الخارجيِّ للعَالَمِ .

     يُعْتَبَر كروتشه مِنْ أكثر فلاسفة إيطاليا تَمَيُّزًا في القَرْنِ العِشرين . وكان يؤمن بوجود نَوْعَيْن مِنَ المَعرفة : المعرفة التي تأتي عن طريق الفَهْم ، والمعرفة التي تأتي عن طريق الخَيَال. وَهُوَ يَعْتبر أنَّ الخَيَالَ يُوجِّه الفَنَّ ، والفَنُّ لا يُحاوِل تَصنيفَ الأشياءِ ، كما يَفْعل العِلْمُ، لكنَّه يَحُسُّ بِها ويُمثِّلها فَقَط ، والفَنُّ رُؤيةٌ وَحَدْسٌ كَمَوضوعٍ خارجيٍّ ( شَيْء أوْ شَخْص ) أوْ كَمَوضوعٍ داخليٍّ ( عاطفة أوْ مِزَاج)، يُعبِّر عَنْهُ الفَنَّانُ باللغةِ أو اللَّوْنِ أو النَّغَمِ أو الحَجَرِ، والعَمَلُ الفَنِّي هُوَ صُورةٌ ذِهنية يُؤَلِّفُها الفَنَّانُ ، ويُعيد مُتَذَوِّقُو الفَنِّ تأليفَها ، وَلَيْسَ الفَنُّ سِوى عَرْضِ الشُّعورِ مُجَسَّمًا في صُورة ذِهنية .

     عَرَضَ كروتشه نَظَرِيَّتَه الجَمَالِيَّة في كِتَابَيْن لَه: عِلْم الجَمَال(1902)،والمُجْمَل في عِلْمِ الجَمَال( 1913)، وَتَتَمَحْوَرُ حَوْلَ فِكرة مَركزية أساسيَّة ، وَهِيَ وَحْدَة الإبداعِ الفَنِّي ، حَيْثُ يَسْعَى إلى التَّوفيقِ بَيْنَ النَّشَاطِ الباطنيِّ ( الحَدْسِيِّ / الرُّوحِيِّ ) للإبداعِ الفَنِّي ، وَالنَّشَاطِ الخارجيِّ الحِسِّي التَّعْبيريِّ . وَقَدْ حَلَّلَ طَبيعةَ الجَمَالِ ، وَتَجَلِّيَاتِه في الوُجود ، وَرَبَطَه بالأحاسيسِ والمَشاعرِ الإنسانية ، وَبَيَّنَ أنَّ عِلْمَ الجَمَالِ لا يُعْنَى بإصدار الأحكام عَلى مَا هُوَ جَميلٌ أوْ قَبيحٌ ، بَلْ يَفْحَص تَجَارِبَ الجَمَالِ كظاهرةٍ شاملة .

     كانَ لفلسفةِ كروتشه الغنية تأثيرٌ قوي في الفلسفة الإيطالية والأوروبية بِرُمَّتها ، وَاحْتَلَّتْ أعمالُه مَكانةً بارزةً في كلاسيكيَّات مِثالية القَرْنِ العِشرين ، وأثَّرَ في مُعْظَمِ مَنْ أتى بَعْدَه مِنَ المُفَكِّرين والفلاسفة ، وكان له أثرٌ في إعادة تقويم أفكار الفَيلسوفِ الألمانيِّ هِيغل .

30‏/08‏/2025

فلسفة العبث عند ألبير كامو

 

فلسفة العبث عند ألبير كامو

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

...............


يُعْتَبَر الأديبُ والفَيلسوفُ الفرنسي ألبير كامو ( 1913_ 1960 / نوبل 1957 ) ، ثاني أصغر حائز على جائزة نوبل للآداب بعد الكاتب البريطاني كِبلنغ ، كما أنَّه أصغر مَنْ مَاتَ مِنْ كُلِّ الحائزين على جائزة نوبل للآداب .

تنقسم أعمال كامو إلى مجموعتَيْن أسماهُما : حَلْقة التَّمَرُّد ، وَحَلْقة العَبَثِ ، فَكَانَ أوَّلَ مَنْ أطلقَ تَسمية   " العَبَث " التي صارت تيارًا أدبيًّا وفلسفيًّا نالَ شُهرةً كبيرةً في الخَمْسِينِيَّات مِنَ القَرْنِ العِشرين .

والعَبَثُ وَفْق مَنظورِ كامو هُوَ شُعُورُ القَلَقِ المُتَوَلِّد عن الإحساس بِوَطأةِ التاريخ . هذا الإحساسُ بعبثية الحياة يُولِّد التَّمَرُّدَ الذي يُمْكِن أن يَكُونَ فرديًّا في بداية الأمر ، ثُمَّ يَتَحَوَّل إلى تَمَرُّد جَمَاعِيٍّ .

تَمَرَّدَ كامو على آليَّة الحياة المِيكانيكية،فالإنسانُ يَعِيشُ على وَتِيرة واحدة إلى أنْ يَصْحُوَ يَومًا، ويَشْعُر بأنَّه غريب ووحيد في هذا العَالَمِ ، وأنَّ الزمن هو العَدُوُّ الذي يُبدِّد جُهُودَه ، ويَرْمِيه في أحضانِ الموت . وهَذه هي الحقيقة التي يُفْتَرَض أنْ يَتَصَدَّى لها هذا الإنسانُ ، فلا أخلاقياتُه ولا جُهوده ولا ذكاؤه ، تُجْدِي نَفْعًا أمامَ هَذا العَالَمِ العَبَثِيِّ المَلِيء باللاعَقْلانيين .

والحُرِّيةُ التي يَظُنُّ أنَّه يَتَمَتَّع بِها وَهْمِيَّة ، فَهُوَ عَبْدٌ للأحكامِ المُسْبَقَةِ والعاداتِ ، وَتَبْقَى العَلاقاتُ البشرية زائفة، والتواصلُ مَفقودًا، وسُوءُ الفَهْمِ هُوَ المُسَيْطِر، فتزداد الفَجْوَةُ بَين الناس . والإنسانُ الصامتُ هُوَ الضَّحِيَّةُ والمُجْرِمُ المُدَان .

لَقَدْ ثارَ كامو على الأعرافِ والأيديولوجيات القائمة على الاستعبادِ والتَّخويف ، كما نَدَّدَ بأُسطورة التطوير والتَّقَدُّم التي تَخْدَع الناسَ مُتَذَرِّعة بِوُعود مُسْتقبلية ، لِتَبريرِ ظُلْمِ الحاضر، وشَرْعَنَةِ الرُّضوخِ والاستسلامِ ، بَدَلًا مِنْ إيجاد ظُروف أفضل. وَكَرِهَ كامو الهُروبَ أو الانتحار، وَوَجَدَ نَفْسَه في التَّمَرُّدِ على القِيَمِ الاجتماعيةِ والعَقائدِ الدِّينية ، وكذلك في مُواجَهة المَوْت ، وَتَقَبُّلِ الوَضْعِ الإنسانيِّ دُون عَقْد الآمال على الغَدِ أوْ عَلى حَياةٍ أُخْرَى .

أمَّا السُّؤالُ الأساسيُّ الذي تطرحه أعمال كامو : هَل الحَياةُ جَديرةٌ بأنْ تُعَاش في ظِلِّ صَمْتِ العَالَمِ ؟ . ومَعَ أنَّه رَفَضَ إعطاءَ جَوَابٍ مُتكامِل عن ذلك، إلا أنَّه أوْحَى بأنَّه يُمْكِن للإنسان تَجَاوُز عَبَثِيَّة الحَياةِ مِنْ خِلال وَعْيِه وَتَمَرُّدِه المُسْتَمِيت .

وَتُعَدُّ فَلسفةُ كامو عَن العَبَثِ المُرتبطة بِمَفهومِ انعدامِ المَعنى الجَوهريِّ للحَيَاةِ أساسيَّةً لِفَهْمِ أعمالِه، وَهُوَ يَرى أنَّ تَقَبُّلَ العَبَثِ يُفْضِي إلى التَّمَرُّدِ والحُرِّيةِ الشَّخصية . وتُشيرُ مُلاحظته الشَّهيرة : " لا شَمْسَ بِلا ظِل ، وَمِنَ الضَّروريِّ مَعرفةُ الليلِ " إلى أنَّ الفَهْمَ الكاملَ للحَياةِ يَتَطَلَّبُ الاعترافَ بالفَرَحِ والمُعَاناة .

اعتقدَ كامو أنَّ العَبَثِيَّةَ تَنْبُعُ مِنَ المُواجهةِ بَيْنَ شَوْقِ الإنسانِ وَصَمْتِ العَالَمِ . وكانَ يُؤْمِنُ بأنَّ البَشَرَ لَيْسُوا عَبَثِيِّين بطبيعتهم ، بَلْ إنَّ الشُّعُورَ بالعَبَثِ يَنْبُعُ مِنْ عَلاقتهم بالعَالَمِ ، وَيَحْدُثُ عِندَما يَكُون هُناك تَنَاقُض بَيْنَ مَا يُريدونَه أوْ يَتَوَقَّعُونه مِنَ الحَيَاةِ ، وَمَا يُقَدِّمُه العَالَمُ لَهُم بالفِعْلِ . فالبَشَرُ يُنَاضِلُون في سَبيلِ إيجادِ مَعْنى في هَذا العَالَمِ ، بَيْنَمَا لا يَجِدُون مِنَ العَالَمِ في المُقَابِلِ سِوَى الإهمالِ والصَّمْتِ .

في فَلسفةِ كامو يَنْشَأ مَفهومُ " البَطَل العَبَثِي" مُجَسِّدًا التَّوَتُّرَ العَميقَ بَيْنَ الرَّغَبَاتِ الإنسانيةِ ولامُبَالاة العَالَمِ. البَطَلُ العَبَثِيُّ يُدْرِكُ تَمَامًا هَذا الصِّرَاعَ الجَوهريَّ ، فَهُوَ يُدْرِكُ أنَّه بَيْنَما يَسْعَى البَشَرُ بطبيعتهم إلى المَعنى والهَدَفِ ، فإنَّ العَالَمَ لا يُقَدِّمُ أيًّا مِنْهُمَا ، ومعَ ذلك ، بَدَلًا مِنَ الاستسلامِ لليأسِ ، أو التَّمَسُّكِ بآمالٍ زائفة ، يَختار أنْ يَعيشَ مُدْرِكًا تَمَامًا لِهَذا التَّنَاقُضِ .

رَأى كامو أنَّ الحَيَاةَ قائمةٌ عَلى العَبَثِ ، وَهَذه بِداية الانطلاقة الجديدة للحَيَاةِ ، وَلَيْسَتْ نِهايتها . وَقَد اعتمدَ على أفكارِ المَدارسِ الفَلسفيةِ المُعَاصِرَة في تَفسيرِ ماهيَّةِ العَبَثِ ، وَتَوَصَّلَ إلى مَفهومِ "الشُّعور العَبَثي"،حَيْثُ اعْتَبَرَ أنَّه يَظْهَر عَلى أساسِ التناقضِ بَيْنَ الإنسانِ والمُحِيطِ الخارجيِّ. ففي حالِ تَمَكَّنَ الإنسانُ مِنْ تَفسيرِ العَالَمِ تَفسيرًا مُقْنِعًا ، يُصْبح هَذا العَالَمُ في نَظَرِهِ مَفهومًا وَمَقبولًا إلى حَدٍّ مَا ، ولكنْ حِينما يُدْرِك الإنسانُ وَهْمَ هَذا التفسيرِ ، سُرعان مَا يَشْعُر عَلى الفَوْرِ أنَّه غريبٌ في العَالَمِ ، فَيَشُكُّ في مَعنى الحَياةِ وَجَدْوَى أنْ يَعيشها ، وهُنا يَتَوَلَّد الشُّعورُ العَبَثيُّ .

وَقَدْ فَسَّرَ كامو العواملَ الخَاصَّة المُتعلقة بهذا الشُّعور ، مُعْتَبِرًا أنَّ العَبَثَ يَتغلغل في وَعْي الإنسانِ فَجْأةً في اللحظةِ التي يَشْعُر فيها الإنسانُ بالفَراغ ، وَيَحُسُّ بالإرهاقِ مِنَ الوُجودِ اليَوْمِيِّ أو الحَيَاةِ اليَوْمِيَّة ، لأنَّ الوَعْيَ في هَذه اللحظة يَتَوَقَّف عَن استيعابِ الغايةِ مِنْ هَذه الحَياةِ اليوميةِ، وتَنقطع سِلسلةُ التَّصَرُّفاتِ الاعتيادية والرُّوتينية.

وإحساسُ الإنسانِ بِغُربته في العَالَمِ المُحيطِ مُرتبط بِعَبَثِ الوُجود ، وبالإضافةِ إلى هَذا ، فإنَّ الإنسانَ يُخْفي في داخلِه شيئًا مِنَ اللاإنسانية التي تَظْهَر في تَصَرُّفَاتِه وَحَرَكَاتِه ، وهَذه اللإنسانيةُ تَكْشِفُ الوَجْهَ الحقيقيَّ للإنسانِ، وهُنا يَتَجَلَّى العَبَثُ مَعنويًّا ومَاديًّا . واعْتَبَرَ كامو أنَّ العَبَثَ لا يَختبئ في الإنسانِ ، ولا في العَالَمِ ، وإنَّما في اختلاطِهما ، فَيُصْبح العَبَثُ هُوَ الخَيْطَ الوَحيدَ المُشترَك بَيْنَهما ، ثُمَّ طَوَّرَ هَذه الفِكرةَ ، فَتَوَصَّلَ إلى نَوْعٍ مِنَ الاتِّحادِ الثُّلاثيِّ : العَبَثُ وَالوَعْيُ الإنسانيُّ والعَالَمُ . تُوُفِّيَ كامو في حادث سَيَّارة عَنْ عُمر يُنَاهِز 46 عامًا ، والعجيبُ أنَّه كانَ قَدْ عَلَّقَ في أوائل حَياته الأدبية أنَّ أكثر مَوْتٍ عَبَثي يُمْكِن تَخَيُّله هُوَ المَوْت في حادث سَيَّارة ! .

22‏/08‏/2025

البنية النفسية في أدب الرعب

البنية النفسية في أدب الرعب

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

........................


     أدَبُ الرُّعْبِ هُوَ نَوْعٌ أدبيٌّ يَهْدِفُ بواسطة مَجموعة مِنَ الأحداثِ المُتشابِكةِ والمَواضيعِ المُثيرةِ وَالمُفَاجآتِ الصَّادمةِ، إلى إثارةِ مَشاعرِ الخَوْفِ والرَّهْبَةِ لَدَى القارئِ مِنْ خِلال قِصَص عَن الأشباحِ ، أوْ مَصَّاصِي الدِّمَاءِ ، أو الكائناتِ الغريبة ، أو العناصر الخارقة للطبيعة ، أو القُوى الشِّريرة ، أو الأحداث العنيفة المُرَوِّعَة ، أو الشَّخصيات الشَّاذَّة .

     وأدبُ الرُّعْبِ مُرتبطٌ بالنَّوَاحي النَّفْسِيَّةِ في الإنسانِ ، لذلك يَعْتمد على التَّشويقِ والغُموضِ ، لجعلِ القارئِ في حالةِ قَلَقٍ دائمٍ ، وَتَرَقُّبٍ لِمَا سَيَحْدُث . كما أنَّه يَستكشف الجوانبَ المُظْلِمَةَ في النَّفْسِ البشرية ، مِثْل : الشَّر ، والفَسَاد ، والخَوْف مِنَ المَجهول، ويَتلاعب بِمَشاعرِ القارئِ وأحاسيسِه ، حَيْثُ تَتِمُّ إثارتُه عاطفيًّا بتوظيفِ الأحداثِ المُشَوِّقَةِ والمُرْعِبَةِ في القِصَّة ، ويُركِّز عَلى إثارةِ الخَوْفِ وَبَثِّ الرُّعْبِ عَنْ طَريقِ استكشافِ العُقَدِ والمُشكلاتِ النَّفْسِيَّةِ للشَّخصياتِ، مِثْل: الجُنون، والقَلَق ، والاكتئاب ، والوَسْوَاس ، كما يُركِّز عَلى الخَوْفِ مِنَ الكائناتِ غَيْرِ البشرية والأمورِ الغامضةِ التي تتَجاوز فَهْمَ الإنسانِ ضِمْن أجواء مُظْلِمَة وأماكن مَهْجُورة .

     إنَّ البُنية النَّفْسِيَّة في أدَبِ الرُّعْبِ تَقُومُ عَلى حقيقة مُفَادها أنَّ شُعورَ الخَوْفِ مِنَ المَجهولِ رَاسِخٌ في الإنسانِ فِطْرِيًّا ، وَمُتَجَذِّرٌ فِيه غَريزيًّا ، وثابتٌ في عَقْلِه وتَفْكيرِه وأعماقِه . وهَذا الخَوْفُ قَدْ يَدْفعه إلى التَّعَلُّقِ بالأوهامِ والخَيَالاتِ وَالحِرْصِ عَلى مَعرفةِ الغَيْبِ ، وَالغَريقُ يَتَعَلَّقُ بِقَشَّةٍ .

     وَأدَبُ الرُّعْبِ فَقَدَ هُوِيَّتَه معَ مُرورِ الزَّمَنِ ، وَتَحَوَّلَ مِنْ إشاعةِ أجواءِ الخَوْفِ والتَّوَتُّرِ خِلال الأحداث التي يُواجهها أبطالُ أيِّ عَمَلٍ، إلى الاعتمادِ عَلى المَشاهدِ العنيفة ، مِنْ قَتْلٍ ، واختطافٍ ، وَتعذيبٍ ، وإراقةِ دِمَاء ، واغتصابٍ بطريقة وَحْشِيَّة ، وَتَنْكِيلٍ بالجُثَثِ ، وغَيْر ذلك .

     وَقَدْ عَزَّزَ هَذا التَّحَوُّلَ الناشرون الطامحون إلى تحقيق أعلى المَبيعات ، وَجَنْيِ الأموالِ الطائلة ، وَصُنَّاعُ السِّينما المُتَخَصِّصُون في أفلامِ الرُّعْبِ، والذينَ يَسْتَغِلُّونَ الإضاءةَ الغريبةَ،والمُؤثِّراتِ الصَّوتية غَيْر الطبيعية والمُبَالَغ فِيها ، لإثارةِ الخَوْفِ والفَزَعِ عِندَ المُشَاهِدِين. والسِّينما تَجْعَلُ المُستحيلَ يَحْدُثُ أمامَ عُيونِنا ، وَهِيَ قادرةٌ على تَحويلِ الكَلامِ والحِوَارِ إلى خَيَالاتٍ بَصَرِيَّة ، وَتَقْدِيمِها بشكلٍ مُثير للاهتمام ، لِتَحقيقِ المُتعةِ أوْ تَكريسِ الخَوْفِ .

     يُعْتَبَر الكاتبُ الأمريكيُّ ستيفن كينغ ( وُلِدَ 1947 ) أعظم رِوائي في مجالِ أدَبِ الرُّعْبِ في التاريخِ عَلى الإطلاقِ . يُلَقَّبُ بـِ " مَلِك الرُّعْب " ، وَهُوَ الكاتبُ الذي مَلَأَ السِّينما رُعْبًا . وَقَدْ وُصِفَ بأنَّه " الأيقونة الأدبية الحَيَّة الأُولَى للرُّعْبِ ، والكاتب الذي كانَ لَهُ دَوْرٌ في تَشكيلِ كَوابيسِنا " .

     اشْتُهِرَ برواياتِه التي تَتَمَيَّزُ بإثارةِ الرُّعْبِ، والتَّشويقِ العميق.وأصبحَ عَلَامَةً فارقةً في هَذا النَّوْعِ الأدبيِّ ، حَيْثُ جَذَبَ مَلايين القُرَّاء إلى عَوالمِه المُخِيفة .

     أوَّل قصة قصيرة باعها كينغ لإحدى المجلات، كانت " الأرض الزُّجاجية " في عام 1967 ، لكنَّ أول رواية كتبها كانت " كاري"، والتي تَتَحَدَّث عَنْ فَتاة غريبة الأطوار تَمتلك قُدرةً عَلى تَحريك الأجسام عَنْ بُعْد . وكان يكتب هذه الرواية كوسيلة لقتل وقت الفراغ لَدَيْه ، ولكنْ حِينَ عَرَضَها على إحدى دُور النشر في ربيع 1973 قامت الدار بنشرها على الفَوْر ، وأمام آراء النُّقَّاد المُنبهرة بهذه الرواية ، عَرَضَ عَلَيْه مُديرُ تحرير الدار تَرْكَ مِهنته في الجامعة كَمُدَرِّس ، والتَّفَرُّغَ للكِتابة تمامًا .

     بَدَأت الصُّعُوباتُ في مُطاردة كينغ ، إذ اضْطُرَّ للانتقال بعائلته إلى جنوب " مين " ( وِلاية تَقَع في أقصى شَمال مَنطقة نيوإنغلاند في شَمال شرق الولايات المُتَّحدة ) ، بَعْدَ أنْ أُصِيبتْ والدتُه بالسَّرَطَان ، وظَلَّ يَرْاعاها طِيلة النهار، بَيْنَما كان يَقْضِي الليلَ في غُرفة صغيرة في جراج المَنزل، يكتب روايته الثانية التي أسْمَاها " العودة الثانية" قَبْل أنْ يُقَرِّر تغييرَ اسْمِها إلى" حشد سالم " ، وفيها يَحْكي عَنْ قَرية مِنْ مَصَّاصي الدِّمَاءِ يَقُوم بزيارتها رَجُلٌ وَطِفْلُه الوحيد . وحين انتهت الرِّوايةُ تُوُفِّيَتْ والدتُه ، فعاد كينغ ينتقل بعائلته ، وعادَ لِتَفَرُّغِه التام للكتابة ، لِينتهيَ في أوائل 1975 مِنْ رِوَايَتَي " الصُّمود " ، و " مَنطقة المَوْت " . أخذتْ رِواياتُ كينغ تتلاحق بِغَزارة غَيْرِ مَسبوقة ،  وَهِيَ رِوايات مِنَ القَطْعِ الكبير ، ولا يَقِلُّ عَدَدُ صَفَحَاتِ الرِّواية عن 700 صفحة .

     كتب كينغ رواية " البريق " ( 1980 ) والتي تَتَحَدَّث عن كاتب مجنون يَقْضِي الشِّتَاءَ مَعَ عائلته في فندق مهجور ، ثُمَّ رِواية " كريستين " التي تتحدث عن سيارة مَسْكُونة ، ثُمَّ بَدَأ في جَمْعِ قِصَصِه القصيرة لِيُنشرها في مجموعات قصصية مِنْ أشهرها " وردية الليل " ، ثُمَّ " أربع دقائق بعد مُنتصَف الليل " . وَتَجَاوَزَتْ مَبيعاتُ كُتُبِه حَوْلَ العَالَمِ أكثرَ مِنْ 350 مَلْيُون نُسْخَة ، وَتُرْجِمَتْ إلى جَمِيعِ اللغاتِ الحَيَّةِ .

     وَقِصَصُ كينغ تَتَضَمَّن شخصيات غَيْر مُتَمَيِّزة، كعائلاتِ الطَّبَقَةِ الوُسطى ، أوْ أطفال ، أوْ في الكثير مِنَ الأحيان مُؤلِّفين . شَخصياتُ قِصَصِهِ مُنخرِطة في الحَياة اليومية ، لَكِنَّ مُؤثِّرات وَتَدَخُّلات فَوْقَ طبيعية وظُروف غَيْر عاديَّة ، تَقُوم بِتَحويلِ مَسَارِ حَيَاتِهِم ، وَتَشْكِيلِ أحداثِ القِصَّةِ الدِّرَامِيَّة .