01‏/04‏/2017

الأغراب والمزهريات المخدوشة / قصيدة

الأغراب والمزهريات المخدوشة / قصيدة

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد

.....................

     رَكِبَ الموْتى في عَرَباتِ الرِّياحِ / وَبَقِيَتْ رَائحةُ العِطْرِ عَلى الأثاثِ / تَتساقطُ حَبَّاتُ البُرتقالِ على حِبَالِ المشانقِ/ أَسْتَسْلمُ لأشجارِ حَدِيقتنا / كَما يَسْتَسْلمُ صَوْتُ البيانو لِصَوْتِ المطرِ / كأنني أَشْتري وَلاءَ الصَّحاري بِدُموعِ فَراشاتي / كَانتْ وِلادةُ المزْهَرِيَّاتِ قَبْلَ مَوْتي / لَكِنني مَيْتٌ / والإِوَزُّ المشرَّدُ يَغْسِلُ بَوَّاباتِ القُصورِ بَأنينِ العَبيدِ / وُجوهُ القَتْلى تُلاحقني في كُلِّ شَظِيَّةٍ / وكانَ طُموحي أَن أَرى ضَوْءَ القَمرِ / تَنمو السِّكَكُ الحديديةُ في رُكَبِ السُّجناءِ / وَيَقْضي الخريفُ الإِجازةَ الصَّيْفِيَّةَ في البُكاءِ عَلى كَتِفِ الرِّياحِ / فاتْرُكيني يا رِعْشتي مُسَافِراً في الذِّكْرياتِ / صَاعِداًً إِلى أَشلاءِ اللازَوَرْدِ في القُرى المنْكوبةِ / أُريدُ أَن أَبْكِيَ في جُمْهوريةِ الهديلِ / فَلا تَبْكي عَلَيَّ يَا أُمِّي / لَم يَعُدْ في ضِحْكتي غَيْرُ مُذكَّراتِ الصَّفيحِ /  
     في الظلامِ البَاكي / يَلْمَعُ الحزنُ في عُيوني فأرى طَرِيقي / دُمُوعي تَفْتَحُ ذِرَاعَيْها لاستقبالِ أيتامِ الرِّيحِ وَأزهارِ بَلْدتي / جُنودٌ يَهْربون مِن المعركةِ / يَمُوتون في أَحضانِ زَوْجاتهم / فَيَحْصُلون على أَوْسمةِ الشَّجاعةِ / وَيُصْبِحون شُهداء / أَتَت الأعشابُ الدَّاميةُ مِن أَجنحةِ الصَّليلِ / كي تَمْشِيَ الرَّصَاصَاتُ في قَميصِ الرُّبانِ/ البَرَاري أمطارٌ تُحْتَضَرُ / فَارْكُضْ يَا خَشَبَ السُّفنِ المريضةِ بالزُّكامِ / وَاعْبُرْ لَيالي الأغْرابِ / وِسَادةٌ مِن جُلودِ الأَحْصِنةِ / وَالكُوليرا تَسِيلُ مِن رِيشِ النُّسورِ التي قَامرتْ بأعشاشها / الصَّباحُ يَنتشرُ رَصَاصَاً وَمَوَانئَ عَسْكريةً / والأرصفةُ تُمَزِّقُ سُباتها / وَالفُقراءُ يُنقِّبون في سَكاكينِ المطبخِ عن الأحجارِ الكريمةِ / لَم يَعُدْ في البُحَيْرةِ سِوَى البُحَيْرةِ / وَالبَحْرُ يَموتُ / وَأَنا الميِّتُ الذي سَيَمُوتُ / أُهَرْوِلُ في أَعْصابِ الليلِ القَتيلِ / كُوخي صَارَ حَطَباً في مَوَاقدِ العُشَّاقِ / نُعُوشٌ تَطوفُ في المدينةِ / والغاباتُ جَماجمُ مُلْتَصقةٌ على نَافذةِ غُرْفتي / بِعْتُ خَارطةَ ضَريحي / وَاشْتريتُ نَعْشاً مُسْتَوْرَدَاً / العَصافيرُ تُحدِّدُ نَوْعَ قُماشِ أكفاني / فَلْتبتعد الفَراشةُ عَن جِنازتي / وَلْتَبْتَعِد النِّعاجُ عَن سُورِ المقبرةِ / مَآذِنُ حَيْفا تُنيرُ طَريقي إِلى الإسكندريةِ / أُطَهِّرُ أَرْضَ الشُّموسِ مِن وَقَاحةِ الأباطرةِ / قَصِيدةٌ غَامضةٌ هِيَ تَاريخُ زَوْجاتِ المطرِ / وذَاكرتي مَوْتٌ مُتَتَابِعٌ لِكَي تَتفجَّرَ شَرايينُ اليَمامِ / لا شَارِعٌ يَحْمِلُ اسْمي / وَلا بُحَيْرةٌ تَضُمُّني إِلى صَدْرِها / أَضُمُّ رَغيفَ الخبزِ إِلى صَدْري / لأَشْعُرَ بالدِّفْءِ في أدغالِ الصَّقيعِ / أَكفانٌ لا تَحْمِلُ رُتباً عَسْكريةً /
     لِكَي تَعْشَقَني غَاباتُ اللهبِ / لا بُدَّ أَن أَفْتَحَها للثُّوارِ / لِكَي يُعْطِيَني النَّهْرُ مَصْرُوفي اليَوْميَّ / لا بُدَّ أَن أُخَزِّنَ شَهيقي في بَراميلِ البَارودِ  / حَزِنَت النارُ على مَقْتلِ ابْنِها / قَوافلُ الذُّبابِ في بِلادٍ تَرْأَسُها الدِّيدانُ / صَارَت الضَّحيةُ مُطَارَدَةً / والمقتولُ أَبَاً رُوحياً لِلمُخْبِرين /
     الليلُ أَخْضرُ كَخُدودِ الرِّياح / والمساءُ خَوْخُ الحروبِ / أيُّها الموْتى السَّاكِنون في قَميصي / أيُّها الطوفانُ النائمُ في عَرَباتِ النُّبلاءِ / جَسَدي مِثْلُ الرِّمالِ / مُمَدَّدٌ على المِقْصلةِ / وَمُوَزَّعٌ على الهِضَابِ / أَحْضُنُ وَطَناً يَقْتلني / وَطَني / يَا أَجْمَلَ المقاصِلِ / وأَحْلَى ذِكْرياتِ الإِعْدامِ / تَرْجِعُ البَناتُ مِن المدارسِ فَوْقَ فُوَّهةِ المجازرِ / الجثامينُ في الحقائبِ المدْرسيةِ / وَيَرْجِعُ الموظَّفون مِن مَساءاتِ الانتحارِ / وَأَرْجِعُ مِن دُمُوعِ جَدَّتي في الخِيَامِ / يَتَزَيَّنُ لِي حَطَبُ المرْفَأ القديمِ / وَلا امْرأةٌ تَتزَيَّنُ لِزَوْجها القَتيلِ / وَلا تَاريخٌ يَعْرِفُ خَارطةَ رُمُوشي / مَصْلوبٌ أنا عَلى إِشاراتِ المرور / وَالأنقاضُ تَغْسِلُ مِشْطِيَ المهْجورَ في الكُوليرا /
     تَحْفِرُ العَصافيرُ أرضَ الزِّنزانةِ / تَتكدَّسُ جُمْهورياتُ اللهبِ في أحلامِ الغريبِ / ذَلِكَ الألَمُ لَيْسَ مَقْهىً لِلبَجَعِ / وَصَلْنا إِلى حِبَالِ المشانقِ / قَبْلَ وُصولِ القَهْوةِ إِلى أحزانِ النِّساءِ / يَحْلُمُ الحزنُ أن يَكُونَ لَهُ أطفالٌ / يَحْمِلون اسْمَه فَوْقَ لَمعانِ الخناجرِ / أُرَاقِبُ جُثتي وَهِيَ تَغْرَقُ في الشَّفقِ / قَناةُ السُّويسِ مُعبَّدةٌ بالموْتى / وَسَوْفَ أَخْجَلُ مِن تَوَهُّجِ دُموعي / عِندما تَخْجَلُ الضِّباعُ مِن مَاضِيها /
     خَلاخيلُ النِّساءِ عَلى أَزْرارِ المصَاعِدِ الكَهْربائيةِ / نَقَلَ الملوكُ الأسماكَ مِن البَحْرِ إِلى مُخَيَّماتِ اللاجئين/ حَوَّلوا البَحْرَ إِلى لَوْحةٍ هَادئةٍ لِكَي تَرْسُمَها الأميرةُ الصَّغيرةُ / يَبْني القَياصرةُ مَطْعَماً لِلْعَائلاتِ عَلى قُبورِ عَائلتي / يَنْبُشُ المساءُ خُدُودَ الشَّاطِئِ / ولا جَيْشٌ يَكْسِرُ تِيجانَ الكَاهنةِ / وَلا جُنودٌ يَكْسِرُون تِمْثالَ الزَّعيمِ /
     كُلَّما تَطايَرَتْ جَدائِلُ الصَّبايا عَلى سَطْحِ الدَّيْرِ/ غَسَلَ الضَّبابُ أَكفانَ الفَراشةِ/ أَرَى في المرايا غُرْبتي / وَالدِّيدانُ تَأْكُلُ خُدودَ البَناتِ / أَوْرِدتي مُسْتَوْدَعُ الطَّحالبِ / أَتَّحِدُ مَعَ الموْتِ تَحْتَ شَمْسِ دِمائي / سَتَعْرِفُ أُمِّي بُوصَلَةَ انتحاراتي / عِندما تَزْرَعُ النَّوارسُ في جُثتي القَمْحَ /
     ضَرِيحي المفْتوحُ لِلسَّائِحاتِ / والطوفانُ المعَبَّأُ بِانكساراتِ النِّساءِ / تَوَابيتُ العَصافيرِ تُغَطِّي صَحْراءَ حَنْجرتي / يَنْصِبُ الشِّتاءُ خَيْمته في الكُوليرا / هَوَادِجُ الإِمَاءِ تَسِيرُ نَحْوَ جُثماني / وَالقُبورُ الجمَاعِيَّةُ مَفْرُوشةٌ عَلى عَمُودي الفِقرِيِّ / قَبْري لُغةٌ تُولَدُ في الخوْخِ الدَّامِعِ / وَخَرِيفُ المجازِرِ يَدْفِنُ دُخانَ المصَانعِ في أَهْدابي / والسُّفُنُ تَقْذِفُ النِّفاياتِ النَّوويةَ في بُلْعُومي / كَانَ رِجالُ القَرْيةِ أَسْرَى / وَكُنَّا نَلْعَبُ عَلى قِرْمِيدِ سَطْحِ المخْفَرِ / وَذَابَت الشُّموعُ في لقاءٍ خَاطِفٍ بَيْنَ دَمْعَتَيْن / يُصَدِّقني الحطبُ / لَكِنِّي لا أُصَدِّقُ أغاني رُموشي/ أَزحفُ بَيْنَ الجثثِ الطازَجةِ / واليَتامى يَزْحَفُون عَلى أجسادِ الإِمَاءِ/ تُهَرْوِلُ الأزقةُ المنْسِيَّةُ في أصابعي/ والغرباءُ يَنْسِجُون مِن حَوَاجِبِهم مَعَاطِفَ لِلحَمَامِ / حَضاراتٌ مُتآكلةٌ تَسْحَبُ مِن عُرُوقي أَسْمنتَ الوَحْشةِ/ لا تَأخذوا أنهاري إِلى غُرفةِ العِنايةِ المركَّزةِ / أَصْرُخُ في ممالكِ السُّل / الْحُبُّ في غُرفةِ الإِعدامِ / تُقْتَلُ البُحيراتُ القُرمزيةُ / وَتُسَجَّلُ القَضِيَّةُ ضِدَّ مَجْهولٍ/ أُحَدِّقُ في بَراري الضَّوْءِ/ والملاريا تَكْسِرُ أَنفَ البَحْرِ / يا جَسَدي المنثورَ في مُدُنِ الرُّعبِ / تَنبعثُ الشَّظايا مِن حَنجرتي كَالمداخِنِ المتصدِّعةِ / سَأَحْزَنُ عَلى فِراقِ أَوْردتي / عِندما تَحْزَنُ البَراكينُ على فِراقِ الحِمَمِ /
     مَهْلاً أيتها الأغاني المذْعورةُ / أنا مُسافِرٌ في الأرضِ المقْتولةِ / أرى الحِنَّاءَ على يَدِ الفَيَضانِ / أشلائي مَفْروشةٌ على النَّيازكِ / وَآبائي مَشْنوقون في صَهيلِ المجدِ / وَمَا دَلَّني عَلَيْهم إِلا رَائحةُ ابْتساماتهم /
     رَأيتُ صَليباً أَصْغَرَ مِن اكْتئابِ الرَّاهباتِ / القَتْلُ سَرَّحَ المدينةَ مِن أبنائها / والقِطاراتُ القديمةُ تَنْقُلُ التَّوابيتَ الأنيقةَ / زَاوِيةُ الرُّؤيةِ ثمانون جُمْجمةً / قَفَزَتْ حَنجرتي عَلى أظافري / والبُرتقالُ فَقَدَ السَّيْطرةَ عَلى فَزَّاعاتِ الأحلامِ / الزَّلازلُ تُقَبِّلُ أَيْدي البَراكينِ / والفُقَراءُ يَحْرُثون أَجسادَ زَوْجاتهم بَحْثاً عَن التاريخِ / رِئتي مَنْجَمُ فَحْمٍ / وَالعُمَّالُ يَتَسَاقَطون تِذْكاراتٍ للسُّياحِ / وَبَعْدَ مَقْتلي/ سَيُصْبِحُ دَمِي نظارةً شَمْسيةً لِسَائحةٍ غَامضةٍ / يَقِفُ الموْجُ تَحْتَ دُموعي / وَيَلْتقطُ صُوَراً لِجُثتي الأثريةِ / قَلْبي مَواعيدُ عِناقِ الأسْماكِ/ وفي ذَاكرةِ الجوَّافةِ طِفْلٌ يَقولُ لأبيه: (( التقطْ لِي صُورةً أَمامَ هذا المقْتولِ لأُرِيَها لِمُعَلِّمتي ! )) /
     ارْحَلوا أيها اللصوصُ الأنيقون / مِن أدغالِ الصَّدى / لا تَسْتَمْتعوا بِمَوْتِ اليَمامةِ / لا تَرْقصوا أَمامَ الفَيَضانِ وَهُوَ عَلى فِرَاشِ الموْتِ / حَبْلُ الغَسيلِ حِصَارُ طُرْوادة / وَقَلْبي حَاجِزٌ أَمنيٌّ / لا مَكانٌ لِرُموشي سِوَى حِجَارةِ النَّيازِكِ / وَلا زَمانٌ لأحزاني سِوى حُبُوبِ مَنْعِ الحمْلِ لِلبُحَيْرةِ /
     نَصَبَ الجليدُ خَيْمَته في أَصْواتِ العُقْبان / صَدْري بَساتينُ الرِّثاءِ / وَالغريباتُ سَوْفَ يَتَعَرَّفْنَ عَلى بَصَماتِ المشْنوقين / في انكساراتِ الشَّفقِ / جَهِّزوا الدَّمْعاتِ الصِّناعِيَّةَ / كَي يَسْمَعَ الحمَامُ ضِحكةَ الخرابِ / البَاعةُ المتجوِّلون يَبِيعون البُوظةَ لأراملِ السَّحَرِ / وَحُكْمُ إِعْدامي يَخْتلطُ بالإِعْلاناتِ التِّجاريةِ / رَحَلْتُ مِن قَلبي / وَبَقِيَتْ غُرْفي مُعْتِمَةً / وأوراقُ الخريفِ على أثاثِ الآلامِ /
     تحتفلُ الإِمَاءُ بِعِيدِ النَّزيفِ في صَحْراءِ القلوبِ المكسورةِ / وفِرَاشُ الموتِ في لَيْلةِ الدُّخلةِ / أيْنَ تنامُ العرائسُ ؟ / كَيْفَ تُرَتِّبُ الأعاصيرُ قُمْصانَ النَّوْمِ في خِزانةِ النَّدم ؟ / كَيْفَ يُمَزِّقُ رَمْلُ البَحْرِ أغشيةَ البَكارةِ ؟ .