17‏/08‏/2019

الزمن والفكر والتاريخ

الزمن والفكر والتاريخ

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.............

1
     لا يمكن للإنسان أن يتصالح مع نفْسه ، ويصل إلى حالة الوئام الداخلي ، إلا إذا أدركَ حقيقةَ نفْسه، وطبيعة ارتباطها بالعلاقات الاجتماعية . والنَّفْسُ الإنسانية هي رمزية البُنية الاجتماعية ، لكن المشكلة تكمن في تشظِّي هذه الرمزية ، وتناثرها في التفاصيل الحياتية ، بفِعل ضغط العناصر المركزية في الواقع المُعاش . ووظيفةُ الإنسان أن يَجمع شَظايا حياته ، ويُعيد ترتيبها ، من أجل الوصول إلى الأشكال الجمالية المُنبثقة عن المجتمع، ومعرفةِ القيم الأخلاقية التي تذوب في التفسيرات المادية الاستهلاكية لطبيعة الوجود الإنساني. وهذه المهمة في غاية الصعوبة ، لأن المجتمع ليس كُتلةً واحدة ، ولا يتحرَّك ضمن خَط أُحادي ، ولا يَخضع لمعادلة خطية بسيطة. إن المجتمع تيارات مُختلفة، ويتحرَّك ضمن مسارات متوازية حِينًا ، ومُتقاطعة حِينًا آخَر ، وهو يبتكر مُعادلاته المُعقَّدة أثناء حركته ، كما يبتكر النهرُ روافده الجديدة أثناء سَيره. والأفراد_ بشكل عام_ يتحركون في اتجاه أهوائهم الذاتية ومصالحهم الشخصية.وهذا التشابك الاجتماعي أفقيًّا وعموديًّا، يؤسِّس لأزمنة فكرية جديدة ، تضغط على وَعْي الإنسان ووَعْيه المُضاد . وهذه المنظومة الثنائية ( الوَعْي / الوَعْي المُضاد ) تحفظ حالةَ التوازن بين العناصر الأساسية في الواقع الحقيقي والوجود الخيالي .

2 
     عندما تنعكس الطبيعة المعرفية للعلاقات الاجتماعية على ماهية اللغة ، تتكاثر الأشكالُ الرمزية في الألفاظ والمعاني، ويحدث تداخل بين مراحل الزمن ، حيث يُعاش الماضي في الحاضر، ويتم حَمْل الماضي إلى المُستقبل . وفي هذه الحالة المُلتبسة ، لا يعود الماضي ماضيًا . وبعبارة أخرى ، إن الماضي لا يَمضي ، وإنما يتقمَّص أشكالًا حياتية مُعاصرة ، وينبعث مِن جديد في الفكر الإنساني والسلوك الاجتماعي . ومَن يُحاول التخلُّص مِن ماضيه، كَمَن يُحاول الهرب مِن ظِلِّه . وهذا يستلزم بناء المراحل ( الماضي ، الحاضر، المستقبل) على قاعدة الفِكر لا الزمن ، كما يستلزم إعادة تعريف التراث ، مِن منظور الطبيعة التواصلية بين الأنا والأنا المُقَابِل ، أي : بين صَوت الإنسان وصَدى أفكاره . والتعاملُ مع الفِكر يؤدِّي إلى حُلول تَوْفيقية لا تَلْفيقية ، في حِين أن التعامل معَ الزمن ، يؤدِّي إلى التعارض بين المراحل والحِقَب التاريخية ، لأن التاريخ يقوم على المشاعر والانتماءات الوجدانية ، ويَكتبه كُل شخص وَفْق وُجهة نظره ومصلحته الشخصية ، أمَّا الفِكر فلا مكان فيه للمشاعر ، لأنه يقوم على الدليل ، ومُقارَعة الحُجَّة بالحُجَّة. وإذا كان التاريخُ يكتبه المنتصرون الذين يَمتلكون مَنطق القُوة ، فإن الفِكر يَكتبه العلماء الذين يَمتلكون قُوة المنطق . والتاريخُ موجود بفِعل العوامل الخارجية الداعمة له ، وضغطِ العقل الجمعي ، وتبنِّي السُّلطة الحاكمة له . أمَّا الفِكر فقُوَّته ذاتية ، لأن عوامل قُوَّته كامنة فيه ، وغير مُستمدة من الخارج . لذلك، الرأي الصائب يُؤخَذ بالحُجَّة القوية ، وليس بالأغلبية . والفردُ هو الجماعةُ والمجتمعُ والأغلبيةُ الحقيقيةُ ، إذا كان على الحق . والإنسانُ _ أوَّلًا وأخيرًا _ فِكْر ، والفِكر هو الجوهر الدائم ، أمَّا باقي العناصر الإنسانية التُّرابية ، فهي أعراض مُؤقَّتة وزائلة. لذلك ، ليس غريبًا أن تنطلق رُوح الإنسان ، ويكون جسده طعام الدُّود. وهذا التفاوت الطبقي بين الروح ( المحمول ) والجسد   ( الحامل ) مرجعه إلى مركزية المعنى الإنساني ، وأهمية الهدف ، واستعلاء المصير على المسار .
3
     الهديةُ الثمينةُ تُحمَل في كيس بسيط لا قيمة له ، ولا أحد يَعبأ به . وأغلى أنواع البضائع تُحمَل في عربات القطار الحديدية ، ورُبَّما أكَلَها الصدأ . واللوحةُ الفنية التي تُباع بالملايين ، لا أحد يسأل هل رُسِمَت بألوان غالية أو رخيصة . وهذا يعني أن مركزية النتيجة تُغطِّي على السَّبب المُوصِل إليها ، وسعادةُ الوصول إلى البيت ، تُنسي الإنسانَ مُعاناته مِن وُعورة الطريق . والعِبرةُ بكمال النهايات لا بنقص البدايات . وكُل شيء جميل ، إذا انتهى بشكل جميل . وهذا يعني أن جمال الشَّيء كامن في وظيفته ودَوْره ، وليس في ذاته وشَكْله .